هل غادر الشعراء من متردم» في موضوع تحليل الانتخابات التركية؟ لكني سأحاول أن أقدم بعض الملاحظات حول الدورة الأولى التي جرت يوم 14 مايو/أيار الجاري والتي، على عكس جيمع التوقعات، لم تحسم من هو الرئيس التركي المقبل والذي سيترأس احتفالات الجمهورية في شهر أكتوبر/تشرين الأول بمناسبة الذكرى المئوية الأولى على إنشاء الجمهورية.
لقد جذبت هذه الانتخابات اهتماما دوليا غير مسبوق يكاد يعادل، إن لم يتفوق على، الاهتمام بانتخابات الرئاسة الأمريكة. لم يبق نظام أو حزب قريب أو بعيد إلا وكان له رأي في تلك الانتخابات. اصطفت أوروبا كلها والولايات المتحدة وأنظمة الفساد والطغيان العربية جميعا تنتظر سقوط مدويا لمن يسمونه «السلطان، أو الدكتاتور أو الخليفة أو بوتين التركي» لكنهم نسوا أو تناسوا أن الذي يطيح بأردوغان ليس ماكرون أو بايدن أو السيسي أو الأسد أو محمد بن زايد، ولا الذي سيبقيه في السلطة الشيخ تميم أو عبد المجيد تبون أو بوتين أو علييف، بل الشعب التركي، صاحب الحق الحصري في عقاب أردوغان والإطاحة به أو مكافأته ومنحه دورة ثانية.
* من الواضح من نتائج الانتخابات في دورتها الأولى أن الشعب التركي كان متحمسا لها فقد بلغت نسبة المشاركة نحو 89 % بزيادة 3% عن انتخابات 2018، وهي نسبة لا تصل إليها الانتخابات في أعرق الديمقراطيات في العالم. كان التنافس حادا وحقيقيا بين تحالف أحزاب المعارضة الستة التي بلغ بها الخيلاء أن توقعت فوز مرشحها للرئاسة كمال كليجدار، بنسة 60 % كما أن تحالف الجمهور كان يتوقع فوز أردوغان من الجولة الأولى بسهولة. لقد أخطأ التوقعان. الشعب التركي قال كلمته. ظل حزب العدالة والتنمية الأقوى في الانتخابات التشريعية لكنه خسر عددا من المقاعد قياسا للانتخابات السابقة، كما أن هناك تراجعا واضحا في شعبية الرئيس أردوغان مقارنة بانتخابات 2018 وكأن الشعب يقول: نؤيد الحزب لكن لنا تحفظات على أداء الرئيس، كما أننا لا نصدق وعود المعارضة وأمامنا العديد من الإنجازات التي تحققت في السنوات العشرين الماضية؟ وواضح أن التراجع في شعبية أردوغان جاء بسبب الاقتصاد، خاصة بعد الزلزال المدمر، وارتفاع نسبة الغلاء وانحدار قيمة الليرة، وتراجع حرية الصحافة، والتركيز على شخصية الرئيس. أسباب كلها وجيهة لكن الإنجازات العظيمة التي تحققت في عهده وضعت تركيا في مصاف الدول الناجحة اقتصاديا وعلميا وعسكريا. الانقسام النصفي كان واضحا ولهذا لم يفز أحد في الدورة الأولى وسيعود الشعب التركي ليقرر من هو الأكثر أهلية ليضع ثقته فيه للمرحلة المقبلة. وفي كلتا الحالتين ستكون تركيا الفائز الأكبر.
هناك تراجع واضح في شعبية أردوغان مقارنة بانتخابات 2018 وكأن الشعب يقول: نؤيد الحزب لكن لنا تحفظات على أداء الرئيس
* لقد خيبت الانتخابات التركية والطريقة الحضارية السلمية الشفافة التي أقيمت بها ظن الكثيرين من زعماء الغرب العنصري وخاصة فرنسا وألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة والتي راحت تروج لسقوط أردوغان المحتوم، إضافة إلى الطغاة العرب الذين لا يريدون أن يروا نموذجا ساطعا للانتخابات الحرة على مقربة منهم فهم يكرهون شيئا اسمه الصندوق والتنافسية والتعددية والشفافية والدعاية الانتخابية لكل المرشحين وفرز نتائج الانتخابات بصورة سليمة لا تزوير فيها.
هؤلاء مجتمعون كانوا ينتظرون فشل التجربة الديمقراطية التركية ليؤكدوا ما قاله برنارد لويس وتلميذه صاموئيل هنتنغتون حول «الاستثناء الإسلامي» الذي يعني سير الإسلام والديمقراطية في خطين متوازيين لا يلتقيان. ومع أن هذه النظرية ثبت خطلها عشرات المرات، إلا أن هناك من يصر على أن العرب والمسلمين لا يحكمون إلا عبر الاستبداد والطغيان والحاكم القوي.
* لقد تعرضت الديمقراطية التركية لمطبات عديدة لكنها عادت ووقفت على رجلين صلبتين. ونتذكر في هذا السياق انقلاب تموز/يوليو 2016، الذي دبرته الولايات المتحدة وبتمويل عربي. لكن الشعب التركي هو الذي أفشل الانقلاب وأنقذ الديمقراطية عندما نزل إلى الشوارع ليقف أمام الدبابات والجنود المتمردين، ووقفت الأحزاب جميعها صفا واحدا في معارضة الانقلاب. يومها بدأ الطغاة العرب يرقصون في الشوارع ويوزعون الحلوى. وأسرعت الصحافة في تلك الدول لتعلن سقوط «الدكتاتور». فالأهرام صدرت في صباح اليوم التالي بعنوان «الجيش التركي يطيح بأردوغان». وصحيفة المصري اليوم :»الجيش التركي يطيح بأردوغان»، وصحيفة الوطن كتبت: «الجيش يحكم تركيا ويطيح بأردوغان». لقد كشف هؤلاء عن رعونة سياسية وأنهم يفضلون الدبابة والبندقية على الصندوق.
* ومن المطبات التي خرجت منها البلاد سالمة مظاهرات 2013 التي جذبت مئات الألوف للاحتجاج على إنشاء مسجد وحديقة في ميدان غازي في منطقة تقسيم/ حيث حصلت مواجهات مع قوات الشرطة قتل على أثرها 3 متظاهرين وجرح نحو 4000. أسرعت أنظمة الطغيان والقمع العربية تهلل لسقوط أردوغان وتدعوه للاستقالة ونصحه يومها وزير الإعلام السوري باحترام إرادة شعبه واختيار الدوحة كمنفى اختياري له، وأضاف قائلا «إن استخدام العنف المفرط ليس صحيحا في مواجهة الشعب التركي والمتظاهرون ليسوا إرهابيين». نصيحة توزن بماء الذهب من أنظمة العدل والحرية وسيادة القانون والتعددية السياسة! لقد أثبتت الانتخابات الأخيرة أن الديمقراطية التركية نضجت ووصلت حد الاستقرار. ولو لم ينجز أردوغان إلا إقصاء الجيش عن السياسة وتقليم سطوة المحكمة الدستورية حليفة الجيش لكفاه ذلك فخرا.
نصاب بنوع من الغيرة والحزن ونحن نرى الشعوب من حولنا شرقا وغربا تذهب إلى الانتخابات الدورية لتبديل الرؤساء والحكومات والبرلمانات بطريقة سلمية وعادلة وشفافة. يتنافس المرشحون بطريقة شريفة ويترك الخيار للشعب ليقرر من الأصلح لإدارة دفة البلاد والاستجابة لخيارات شعبه. يعطى الرئيس فرصة أولى لمدة محددة فإذا كان عند وعوده وحقق إنجازات مشهودة يعاد انتخابه مرة أخرى وإلا يتم إسقاطه عبر الصندوق لا عبر فوهة المدفع. هكذا تنهض الأمم وهكذا تستمتع الشعوب بالاستقرار وهكذا يتعزز الانتماء إلى الوطن بدل الفرار عبر قوارب الموت والحدود المسيجة بالأسلاك.
لقد حاولت بعض الدول العربية بما فيها فلسطين أن تلتزم بانتخابات عادلة وشفافة وصحيحة لكن شيئا ما يحدث، وتتم الإطاحة بالحكومة المنتخبة، أو يتمترس المسؤول في مكانه ويغير الدستور على هواه كي يبقى في كرسيه حتى الموت. فقد وصل مجموع سنوات الحكم لستة من قيادات العالم العربي قبيل الربيع العربي نحو 200 سنة.
لقد خاضت بعض الدول العربية تجربة الانتخابات الحرة والعادلة والشفافة والسلمية، لكن سرعان ما يطاح بها عن طريق العسكر أو الانقلاب الدستوري. لقد أطيح بالانتخابات الحرة التي فازت بها حركة «حماس» في فلسطين المحتلة في يونيو/حزيران 2006، ورفضت النتائج وتمت مقاطعتها وحصرها في غزة واعتقال كوادرها وقطع كل سبل المساعدات عنها وتركت لتواجه مصيرها وحدها عبر حروب واعتداءات إسرائيلية لا تتوقف. وتم الانقلاب على نتائج انتخابات مصر الرئاسية التي عقدت في جولتين عام 2012 وفاز فيها محمد مرسي بنسة 51 % فقط لكن العسكر أطاحوا بالتجربة بعد سنة واحدة بتمويل خليجي وتواطؤ إسرائيلي لتعود مصر إلى حكم العسكر. وكذلك تم الانقضاض على ثورات اليمن وليبيا والبحرين وسوريا كي يبقى حكم الطغاة أبديا. حتى الثورة السودانية التي توافقت على تقاسم السلطة مؤقتا بين المكونين المدني والعسكري، لكن العسكر، بقيادة عبد الفتاح البرهان، انقلبوا على المكون المدني يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021. وتحت الضغط الدولي قبلوا بالاتفاق الإطاري في ديسمبر/كانون الأول 2022 الذي يدعو لتسليم السلطة إلى المدنيين بعد سنتين وإخراج الجيش نهائيا من السياسة، فقامت ميليشيات الدعم السريع المدعومة من الموساد ونظام خليجي معروف، بالانقلاب على الشريك العسكري، ما أدخل البلاد شبه حرب أهلية على طريقة اللواء خليفة حفتر الليبي.
لقد كانت تونس هي الشذوذ الذي يثبت القاعدة فأبى محور الشر والطغيان إلى أن يجرها إلى مستنقع الدكتاتورية، حيث تمت هندسة انقلاب دستوري بامتياز للإطاحة بتجربة الديمقراطية الأكثر تطورا في العالم العربي والتي أوصلت قيس سعيّد إلى كرسي الرئاسة، لكنه عاد وانقلب على الدستور والبرلمان والأحزاب كلها يوم 25 يوليو/تموز 2021، ليُـلحق تونس بطابور الطغاة أسوة بغيرها من دول الربيع العربي.
* من أراد أن يقارن بين انتخابات تركيا والانتخابات العربية فليتابع الانتخابات الرئاسية المصرية في العام المقبل. لقد تجرأ النائب في البرلمان أحمد الطنطاوي أن يعلن عن نيته فقط بالترشح للرئاسة فقامت سلطات الأمن باعتقال نحو 30 من عائلته سلفا وحرمانه من العودة إلى البلاد. وفي المرتين السابقتين، كل من ترشح ضد السيسي طلب منه أن ينسحب أو هدد بالأنسحاب أو وجهت له تهم وأودع السجن أو هرب من البلاد.
وبعد هذه الصورة نتمنى للتجربة الديمقراطية في تركيا النجاح لعل رذاذها يصل يوما الى جيرانها العرب.
القدس العربي