ينتظر الأتراك وجيرانهم والعالم نتيجة الدورة الثانية الحاسمة من الانتخابات الرئاسية التركية لمعرفة من سيكون الفائز فيها، رجب طيب أردوغان الرئيس الحالي وحاكم تركيا منذ 20 عاماً، أم منافسه كليتشدار أوغلو الذي يختلف معه، بل ويناقضه في عديد من القضايا الداخلية والخارجية.
الاهتمام التركي الداخلي يعود إلى الانقسام السياسي العميق الذي تثيره سياسة أردوغان الاقتصادية ونهجه الانفرادي في الإمساك بالسلطة ومفاتيحها، والاهتمام الإقليمي والدولي ينبع من رهان على إمكان تحول في السياسة الخارجيةالتركية الإقليمية والدولية. ففي ظل قيادة أردوغان، تدخلت تركيا في سوريا وتشاركت مع روسيا وإيران في إدارة شؤونها، وأرسلت قواتها إلى ليبيا والعراق، وتحولت عنصراً فاعلاً في القوقاز، تتحالف مع أذربيجان في مواجهة إيران وأرمينيا وتحاول إعادة ترسيخ البيت التركي في آسيا الوسطى، وفي الحرب الروسية على أوكرانيا تزود كييف بالطائرات المسيرة وتفتح الأبواب أمام موسكو كمنفذ تجاري واقتصادي، وكعضو في الحلف الأطلسي تتجاهل عقوبات الغرب الأوروبي والأميركي على روسيا وتواصل العلاقات “الخاصة” مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
بقدر ما يهتم الناخب التركي بالواقع الاقتصادي، بقدر ما يهتم العالم بالموقع الجيوسياسي لتركيا بعد الانتخابات، والحديث، في هذا الإطار، عن اهتمام روسي أو اهتمام غربي بنتائج هذه الانتخابات لا يعود مجرد اتهام بالتدخل، فروسيا تبدو معنية فعلياً باستمرار أردوغان في السلطة، والغرب يميل، من دون القطع مع الرئيس الحالي، إلى رؤية أوغلو في المنصب الرئاسي للأسباب نفسها التي توردها موسكو بصفة شبه رسمية.
قبل أيام، كتب المعلق الروسي ألكسندر نازاروف، الذي يتولى الإعلام الرسمي الروسي نشر مقالاته، أن “تركيا محكوم عليها إما بالسير في طريق أردوغان أو بالفشل”. من وجهة نظر المحلل الروسي أن الوضع الاقتصادي المهتز هو ما يملي على أردوغان سياسة “ارتشاف قطرة رحيق من كل زهرة”. بهذه الطريقة منعت علاقاته الاقتصادية المفتوحة مع موسكو الاقتصاد التركي من الانهيار، إذ تحولت تركيا إلى مركز للحبوب والغاز والنفط الروسي، وتدفقت إليها الأرباح من واردات البضائع الرمادية المتجاوزة للعقوبات الغربية، وصولاً إلى الأسواق الروسية والصينية.
في التحليل الروسي، إن تغيير المسار السياسي التركي إلى نهج مؤيد للغرب سيكون بمثابة انتحار اقتصادي لتركيا، ستظهر نتائجه بسرعة، لكنه في الوقت عينه ضربة قاسية لروسيا نفسها التي تعتمد على البوابة التركية خصوصاً في ظروف الحصار الذي تتعرض له، فعبر تركيا خصوصاً يصل الروس إلى العالم ويواصلون تجارتهم تصديراً واستيراداً.
لا يكفي التفسير الاقتصادي التركي البحت، لشرح رغبة موسكو في فوز الرئيس التركي الحالي، فروسيا تستند إلى دوافع جيوسياسية واستراتيجية في تمسكها بالوضع الراهن، فمنذ عام 2016 تحول أردوغان إلى شريك أساسي لبوتين في سوريا وليبيا والقوقاز، وبعد الحرب الأوكرانية بقي يمتلك “علاقة خاصة متنامية” مع الرئيس الروسي، وفي تصريحاته لشبكة “CNN” الأسبوع الماضي، جدد تأكيده قائلاً “لسنا في موقع يمكننا فيه فرض عقوبات على روسيا” و”لسنا ملزمين بالعقوبات الغربية” و”من دون العلاقة الخاصة مع بوتين ما كان اتفاق الحبوب ليحصل”.
كانت مهلة هذا الاتفاق ستنتهي في 18 مايو (أيار) الحالي، لكن موسكو مددت العمل به في “لفتة طيبة تجاه أردوغان”، كما قالت صحيفة “نيزافيسيمايا غازيتا” الروسية.
لا تحتاج الرغبة الروسية ببقاء الرئيس التركي أدلة إضافية، والصحافة القريبة من الكرملين تخوض حملة من أجله ولو أن الناطق الرسمي ديمتري بيسكوف نفى تصريحات أوغلو عن تدخلات روسية ضده في الانتخابات، وقال إن “كاذباً” يقف وراء هذه المزاعم.
مع ذلك تعتبر صحيفة “أوراسيا ديلي” أن انتصار أوغلو “يحمل مخاطر جمة لروسيا وإيران وأذربيجان”، وتستند في تقييمها إلى تصريحات أوغلو لـ”وول ستريت جورنال”، وفيها أنه في حال فوزه يتعهد “بحماية الاستثمارات التركية في روسيا والامتثال للعقوبات الغربية ضدها”، ويقول إن “تركيا عضو في الحلف الأطلسي وبوتين يعرف هذا جيداً، فتركيا ملزمة بقرارات الناتو وعليها تعزيز دورها كدولة رئيسة في الحلف والاهتمام باستعمال انتمائها إلى الاتحاد الأوروبي”.
لن يكون تعزيز الانتماء الغربي لتركيا ملائماً لروسيا ولا لإيران، لكن يصعب تصور اهتزاز العلاقة مع أذربيجان التي تمر علاقاتها بإيران في أزمة متصاعدة، وإيران المتوجسة بعيدة عن علاقات سوية مع تركيا مهما كان الفائز. يقول الباحث الإيراني علي بيكرلي إن “لدى أردوغان عداوة قديمة وخطيرة مع إيران، وله تحيزات دينية جعلته غير سعيد بتعاون إيران مع الدول العربية، فضلاً عن أنه اتخذ خطوات لإبعادها من الشرق الأوسط”. لذلك يقول المحلل الإيراني داحضاً نظرية زملائه الروس، إن “وصول أوغلو إلى الرئاسة قد يكون أكثر فائدة لإيران من بقاء أردوغان. ربما يقصد المحلل الإيراني خلفية أردوغان “العثمانية – الإخوانية” التي يفضل عليها النزعة “الجمهورية التركية” للمرشح أوغلو.
يقترب أوغلو أكثر من العناوين الغربية حول الديمقراطية، في وقت توجه فيه الاتهامات لأردوغان بممارسة الدكتاتورية.
وقد وعد رئيس “حزب الشعب الجمهوري” أنه في حال فوزه سيعمل على بسط سيادة القانون، والإفراج عن السجناء السياسيين، ورفع القيود عن الصحافة والحريات الأساسية، وباستقلالية القضاء، وإعادة اللاجئين إلى أوطانهم بمن فيهم أكثر من ثلاثة ملايين سوري لجأوا إلى تركيا.
ولا يخفي أوغلو أنه ليس صديقاً لروسيا على طريقة أردوغان، إلا أن الروابط الاقتصادية بين البلدين قد تفرض عليه محاولة شق طرق جديدة لاستمرارها في حال عدم توفر بدائل مضمونة.
وفي المقابل، ستحاول روسيا البقاء على المنفذ التركي مهما كانت نتائج الانتخابات، وسيزعجها التقارب مع أميركا في حال فوز أوغلو، وقد تلجأ إلى تدابير جربها بوتين سابقاً مثل وقف تدفق ملايين السياح الروس إلى تركيا، لكن علاقات البلدين ستبقى محكومة بالوقائع الجيوسياسية التي فرضت شكلها الحالي، هذا إذا لم يتحول التغيير في رأس السلطة التركية إلى مشروع متكامل، يتولى الغرب دعمه مالياً واقتصادياً وعسكرياً، وهنا بالضبط مكمن مخاوف موسكو.
اندبندت عربي