هل انتهت الدولة العميقة في تركيا؟

هل انتهت الدولة العميقة في تركيا؟

حسم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي جرت الأحد الماضي، بعدما حصل على 52.87% من الأصوات، متفوّقـا، بذلك، على منافسه كمال كلجدار أوغلو الذي حصل على 47.13%. وبانتخاب أردوغان لولاية رئاسية جديدة، تستجد الأسئلة بشأن مستقبل الدولة العميقة في تركيا، ومدى قدرة القوى الاجتماعية المحسوبة عليها على مقاومة التغيير الهادئ والعميق الذي يقودُه حزب العدالة والتنمية منذ أكثر من عقدين. وعلى الرغم من أن الانتخابات الرئاسية والتشريعية أخيرا أبانت أن هناك قطاعا وازنا داخل المجتمع ما زال يعارض سياسات أردوغان الداخلية والخارجية، إلا أنها، في المقابل، عزّزت موقع أردوغان وحزبه في معادلة القوة والنفوذ في تركيا. ويعود ذلك، بالأساس، إلى النجاح في إعادة بناء الوطنية التركية، عبر مصالحةٍ بين الإسلام السياسي الديمقراطي والهوية القومية التركية، عكسها تحالفُ حزب العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية.

شكلت الدولة العميقة في تركيا مركز قوة متجذّرا في مختلف مؤسّسات الدولة التركية، خصوصا الحساسة منها، كالجيش والأمن والقضاء. وقد ساهمت، بما راكمته من نفوذ وسلطة وموارد، في تدوير الإرث العلماني الكمالي وقيمِ الجمهورية، وإشاعة ثقافة سياسية سلطوية تجعل المجتمع في خدمة الدولة وليس العكس. وقد أوجد ذلك بنيةً ثقافيةً وسياسية واجتماعية صلبة، لم يكن من السهل اختراقها بخطاب سياسي إسلامي ومحافظ.

كان صعود حزب العدالة والتنمية تحدّيا سياسيا وثقافيا بالنسبة للقوى الاجتماعية المصطفّة حول الدولة العميقة، في ظل الاستراتيجية التي انتهجها، والقاضية بإحداث تغييرٍ متدرّج وغير مكلف داخل المجتمع. وساعدت الانتصارات التي حقّقها في الاستحقاقات الانتخابية البلدية والتشريعية، إبّان العقدين الماضييْن، على حيازة موارد القوة السياسية، ولا سيما التي تندرج ضمن الموارد الناعمة من قيم وأفكار تُشكّل، في معظمها، أبرز عناوين الإسلام السياسي التركي. فوضَع برامج وسياسات اجتماعية مكّنت من تحسين الوضع المعيشي للطبقة الوسطى الحضرية بما وسّع قاعدتها أكثر، وسمح لها أن تتحوّل إلى رقم صعب في التدافع الاجتماعي والسياسي. أفضت هذه الدينامية إلى إيجاد حراك اجتماعي جديد، لا سيما في المدن ذات الثقل السياسي مثل إسطنبول. بيد أن هذه الموارد ظلّت بحاجةٍ إلى من يعيد بناءها في خطاب سياسي متوازن وبراغماتي. وهو ما تجسّد، إلى حد كبير، في أردوغان الذي نجح، من خلال شخصيته الكاريزمية المسنودة بشرعية صناديق الاقتراع، في إرباك الدولة العميقة وتعطيل فاعليّتها على نطاق واسع.

نجح “العدالة والتنمية” التركي في بناء صورة جديدة للإسلام السياسي، تختلف بشكلٍ يكاد يكون جذريا عن الإسلام السياسي العربي؛ يتعلق الأمر باندماج متدرّجٍ في المجال العام، مع حرصٍ على تجنّب الصدام المباشر بمراكز القوة الكبرى، والمراهنة على السياسة من أجل الحدّ من سطوة هذه المراكز وفاعليتها. وكان إبعاد الجيش عن السياسة أكبر تحدٍّ في المواجهة مع الدولة العميقة، بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي قام بها عسكريون أتراك ضد حكم أردوغان (2016). وعلى مدار السنوات المنصرمة، اتّخذ أردوغان حزمة تدابير، انصبّت على تطهير الجيش من العناصر المناوئة له ووضْع حدٍّ لوصايته على الحياة السياسية وإعادة صياغة علاقته بها، بإعادة هيكلته وإخضاعه لمؤسّسة الرئاسة. وكان لهذا التوجّه أثره في الحدّ من نفوذ الدولة العميقة وتأثيرها داخل مؤسساتٍ بحجم الأمن والاستخبارات والقضاء.

نجح أردوغان في بناء مركز قوة جديد صار جزءا من مؤسّسات الدولة، وعنصرا فاعلا في دينامياتها السياسية والاجتماعية، وموجِّها لمسارات النموذج التنموي التركي، خصوصا بعد الاستفتاء الدستوري الذي جرى في 2017، الذي حوّل نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي. فقد مكّن ذلك أردوغان، بعدما تعزّزت صلاحياته، من إحداث تغييرات هادئة داخل مؤسّسات ومواقع حسّاسة في الدولة والإدارة، بما يعنيه ذلك من إعادة توزيع موارد القوة والنفوذ بين النخب التركية.

دلالات

حسم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي جرت الأحد الماضي، بعدما حصل على 52.87% من الأصوات، متفوّقـا، بذلك، على منافسه كمال كلجدار أوغلو الذي حصل على 47.13%. وبانتخاب أردوغان لولاية رئاسية جديدة، تستجد الأسئلة بشأن مستقبل الدولة العميقة في تركيا، ومدى قدرة القوى الاجتماعية المحسوبة عليها على مقاومة التغيير الهادئ والعميق الذي يقودُه حزب العدالة والتنمية منذ أكثر من عقدين. وعلى الرغم من أن الانتخابات الرئاسية والتشريعية أخيرا أبانت أن هناك قطاعا وازنا داخل المجتمع ما زال يعارض سياسات أردوغان الداخلية والخارجية، إلا أنها، في المقابل، عزّزت موقع أردوغان وحزبه في معادلة القوة والنفوذ في تركيا. ويعود ذلك، بالأساس، إلى النجاح في إعادة بناء الوطنية التركية، عبر مصالحةٍ بين الإسلام السياسي الديمقراطي والهوية القومية التركية، عكسها تحالفُ حزب العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية.

شكلت الدولة العميقة في تركيا مركز قوة متجذّرا في مختلف مؤسّسات الدولة التركية، خصوصا الحساسة منها، كالجيش والأمن والقضاء. وقد ساهمت، بما راكمته من نفوذ وسلطة وموارد، في تدوير الإرث العلماني الكمالي وقيمِ الجمهورية، وإشاعة ثقافة سياسية سلطوية تجعل المجتمع في خدمة الدولة وليس العكس. وقد أوجد ذلك بنيةً ثقافيةً وسياسية واجتماعية صلبة، لم يكن من السهل اختراقها بخطاب سياسي إسلامي ومحافظ.

كان صعود حزب العدالة والتنمية تحدّيا سياسيا وثقافيا بالنسبة للقوى الاجتماعية المصطفّة حول الدولة العميقة، في ظل الاستراتيجية التي انتهجها، والقاضية بإحداث تغييرٍ متدرّج وغير مكلف داخل المجتمع. وساعدت الانتصارات التي حقّقها في الاستحقاقات الانتخابية البلدية والتشريعية، إبّان العقدين الماضييْن، على حيازة موارد القوة السياسية، ولا سيما التي تندرج ضمن الموارد الناعمة من قيم وأفكار تُشكّل، في معظمها، أبرز عناوين الإسلام السياسي التركي. فوضَع برامج وسياسات اجتماعية مكّنت من تحسين الوضع المعيشي للطبقة الوسطى الحضرية بما وسّع قاعدتها أكثر، وسمح لها أن تتحوّل إلى رقم صعب في التدافع الاجتماعي والسياسي. أفضت هذه الدينامية إلى إيجاد حراك اجتماعي جديد، لا سيما في المدن ذات الثقل السياسي مثل إسطنبول. بيد أن هذه الموارد ظلّت بحاجةٍ إلى من يعيد بناءها في خطاب سياسي متوازن وبراغماتي. وهو ما تجسّد، إلى حد كبير، في أردوغان الذي نجح، من خلال شخصيته الكاريزمية المسنودة بشرعية صناديق الاقتراع، في إرباك الدولة العميقة وتعطيل فاعليّتها على نطاق واسع.

نجح “العدالة والتنمية” التركي في بناء صورة جديدة للإسلام السياسي، تختلف بشكلٍ يكاد يكون جذريا عن الإسلام السياسي العربي؛ يتعلق الأمر باندماج متدرّجٍ في المجال العام، مع حرصٍ على تجنّب الصدام المباشر بمراكز القوة الكبرى، والمراهنة على السياسة من أجل الحدّ من سطوة هذه المراكز وفاعليتها. وكان إبعاد الجيش عن السياسة أكبر تحدٍّ في المواجهة مع الدولة العميقة، بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي قام بها عسكريون أتراك ضد حكم أردوغان (2016). وعلى مدار السنوات المنصرمة، اتّخذ أردوغان حزمة تدابير، انصبّت على تطهير الجيش من العناصر المناوئة له ووضْع حدٍّ لوصايته على الحياة السياسية وإعادة صياغة علاقته بها، بإعادة هيكلته وإخضاعه لمؤسّسة الرئاسة. وكان لهذا التوجّه أثره في الحدّ من نفوذ الدولة العميقة وتأثيرها داخل مؤسساتٍ بحجم الأمن والاستخبارات والقضاء.

نجح أردوغان في بناء مركز قوة جديد صار جزءا من مؤسّسات الدولة، وعنصرا فاعلا في دينامياتها السياسية والاجتماعية، وموجِّها لمسارات النموذج التنموي التركي، خصوصا بعد الاستفتاء الدستوري الذي جرى في 2017، الذي حوّل نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي. فقد مكّن ذلك أردوغان، بعدما تعزّزت صلاحياته، من إحداث تغييرات هادئة داخل مؤسّسات ومواقع حسّاسة في الدولة والإدارة، بما يعنيه ذلك من إعادة توزيع موارد القوة والنفوذ بين النخب التركية.

العربي الجديد