عجبا لتعليقات كثيرة تابعت، بشغف، عندنا، في العالم العربي، الانتخابات التُّركية، وتحمّست ربما لها أكثر من الأتراك أنفسهم، ولم يجعلوا منها فرصة لتعلُّم الدُّروس أو الاتّعاظ، على أقلّ تقدير، لتغيير اتّجاه البوصلة التّي ضلّت طريقها في أعقاب موجتين لربيع عربي لم يكتمل أو لم يستطع التغلّب، بعد، على الاستعصاء الذي طبع منطقتنا بشأن الدّيمقراطية وتبعاتها من انتخابات نزيهة، حرّيات مكفولة وعدالة تشمل الكل، في كلّ المجالات.
ماذا عسانا أن نقول في تلك الانتخابات التي اتسمت بكثير ممّا نراه في الفضاءات الدّيمقراطية من قلق بشأن الفائز، نزاهة الصناديق، إقبال على الانتخاب ومتابعة عالمية منقطعة النّظير، وهي الأجواء التي صنعتها الانتخابات التركية واستطاع أردوغان أن يردّ، من خلالها، على أبواق أوروبية وغربيّة، حاولت التّشويش على الأجواء الدّيمقراطية الكبيرة التي طبع بها أردوغان تركيا أكثر من عقدين من حكمه الأوّل، في ظل الدُّستور البرلماني، ثمّ في ظلّ التّعديل الدُّستوري الذي تحوّل به النظام ليصبح رئاسيا، لعهدة ثانية له.
ماذا عسانا أن نقول، أيضا، عن معارضة احترمت القوانين، وناضلت بالأدوات التّي منحها إياها الدُّستور وسارعت، بعد الإعلان عن اقتراب عملية الفرز من نهايتها، وتأكد فوز أردوغان، إلى تهنئته، تماما كما يجري في الدُّول الديمقراطية، خصوصا منها الأوروبية، التي منعت تركيا من الانضمام إلى الاتّحاد الأوروبي بمزاعم واهية، منها غياب تلك الأجواء من احترام الحرّيات والدّيمقراطية.
استطاع أردوغان أن يردّ، من خلال الانتخابات، على أبواق أوروبية وغربيّة، حاولت التّشويش على الأجواء الدّيمقراطية الكبيرة التي طبع بها أردوغان تركيا أكثر من عقدين من حكمه الأوّل
إلى هنا، ينتهي الإعجاب بالنّموذج التُّركي من دون مجاوزة تلك الحدود التّي شاهدنا بعضهم يوالي بها ويعادي من أجلها، بل اعتبار أنّ تلك الانتخابات مفصلية بين اختيار الإسلام أو غيره من أيديولوجياتٍ، كما أنّ الإعجاب لا يجاوز، أيضا، حد إرادة أن نرى الصُّور نفسها والانخراط الشّعبي الكبير نفسه في انتخاباتٍ حرّة ونزيهة واحترام إرادة الناخبين من الكل، ذلك الإعجاب الذي يجعل منا مغتبطين من نموذج نريد مثله، لا ندافع عن نموذج بعيد عنّا، بل له من المؤاخذات ما يجعلنا نقول، كما قال أستاذ المستقبليات وليد عبد الحي، في منشور له، نحن مع أردوغان التُّركي، ولسنا مع أردوغان الشّرق الأوسطي، لما له من سياساتٍ لا تعجبنا، ولا نريدها أن تكون صادرة عمّن يقول إنّه رئيسٌ لدولة ذات مرجعية تاريخية إسلامية (العثمانية الجديدة)، بصفة خاصّة.
يمكننا، الآن، بعد انتهاء الانتخابات، الحديث عن إرث عقدين من حكم أردوغان في الشرق الأوسط، وهو إرث كبير بحصيلة نوجزها في أكثر من عشر اتفاقيات أمنية ودفاعية مع الكيان الصهيوني، احتلال أرض عربية في شمال سورية، من دون احتساب تدخلات تركيا في أكثر من نزاع عربي (ليبيا وسورية، مثلا) ليكون ذلك الأساس الذي نبني من خلاله حكمنا على سياسات أردوغان، من دون أن ننتقد التطبيع، ثم نغضّ الطرف عمّن له كل ذلك الكم من التعاملات مع الكيان الصهيوني، ودون أن نتحدث عن تدخلات حلف الناتو في أكثر من أرض عربية، وننسى أنّ تركيا عضوٌ مؤسّسٌ لذلك الحلف وناشطة في سياساته، بل وتحتضن قواعد عسكرية له، استخدمت بعضا منها للهجوم على بلدانٍ عربية، على غرار العراق وسورية، على سبيل المثال.
تلك هي حدود الإنصاف في النظر إلى المشهد الديمقراطي التركي من دون إفراط و لا تفريط، ومن دون أن نكون ملكيين أكثر من الملك، فأردوغان براغماتي إلى أبعد الحدود، دافع عن بلاده تركيا، وحقق لها الأمجاد، لكنها أمجاد جنى ثمارها هو وشعبه التركي، ولسنا نحن من نجنيها معه، من دور فعال في خاصرة الاتّحاد الأوروبي، في المتوسّط وفي العالم، بالنسبة لبعض القضايا، على غرار توسّطه، أخيرا، في عملية تصدير القمح الأوكراني، أو لعبه دورا عالميا، بامتياز، بشأن ما بات يعرف بدبلوماسية الأنابيب، عندما جعل من تركيا ممرّا إجباريا لكل الأنابيب التي تموّن أوروبا بالغاز الروسي، إلى وقت قريب، قبل العقوبات أخيرا على الطاقة الرّوسية.
النّموذج التُّركي يُحتذى به، لكن في جانبه الديمقراطي الإجرائي وليس في جانبه الأيديولوجي ولا السّياسي
نتذكّر، جميعا، داود أوغلو صانع السياسة الخارجية التركية وكتابه “العمق الاستراتيجي”، وكيف أن ذلك العمق هو لتغيير صورة تركيا من بلد متوسّط القوّة وعضو في “النّاتو”، وبتاريخ، عليه مؤاخذاتٌ كثيرة في الشرق الأوسط، إلى قوّة فاعلة على المستوى الدولي، في كل المجالات، وقوة اقتصادية عضو في نادي الاقتصاديات العشرين الأكثر قوّة في العالم. وذلك كله كان أوغلو يقول إنه لصالح العمق الاستراتيجي التركي، ولم يقل إنّه لصالح فلان أو علان، أو لصالح قضيةٍ غير التي يؤمن بها صانع القرار التُّركي فعلا.
هذه هي تركيا التي جرت فيها تلك الانتخابات، وذلك هو أردوغان، السياسي وصانع القرار التركي، الفائز بها باستحقاقٍ ليس إلا من دون مجاوزة لأية حدود بالنسبة لنا في العالم العربي، لتكون الدروس المستفادة من التجربة التركية: أولا، النماذج الناجحة في الانتخابات النزيهة والنظيفة في الشرق الأوسط، كلها غير عربية (إيران وتركيا والكيان الصّهيوني). ثانيا، اضطرار أردوغان لدورة ثانية، جاء جرّاء الصعوبات الاقتصادية التي تعيشها تركيا، ليكون المواطن التركي مشابها لأقرانه الأوروبيين، لا يهم شأنه الاقتصادي، بدرجة أولى. ثالثا، لا مجال لربط ما جرى في تركيا بأية توجّهات أيديولوجية فوق قومية (إسلامية، بصفة خاصّة)، بالنظر إلى ما تقدّم الحديث عنه، ولكون تركيا دولة علمانية (بموجب منطوق الدستور، منذ 1924). رابعا، لا مستفيد من صعود أردوغان لعهدة أخرى غير الأتراك وغير سياساته التي نافح عنها في حملاته الانتخابية. خامسا، النّموذج التُّركي يُحتذى به، لكن في جانبه الديمقراطي الإجرائي، وليس في جانبه الأيديولوجي ولا السّياسي.
هنيئا لتركيا بصعود أردوغان، وهنيئا للغرب بنموذج أوروبي ديمقراطي بمواصفات ومعايير غربية بحتة. وهنيئا لنا بنموذج أعطانا كل تلك الدروس، بل ومنحنا القدرة على التفريق بين ما هو براغماتي نفعي، لصالح البلد الذي جرت فيه الانتخابات بتلك المعايير الديمقراطية، أي تركيا، وسياسات تركيا ومصالحها التي نحترمها، ولكن لا ندافع عنها ولا نوالي أو نعادي من أجلها.
العربي الجديد