وقّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 29 من الشهر الماضي (مايو/ أيار) قانوناً يقضي بانسحاب بلاده من “معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا”، التي أبرمها الاتحاد السوفييتي السابق، ودول ما كان يُعرف بحلف وارسو، مع حلف الناتو (كان يضم 16 دولة)، في نوفمبر/ تشرين الثاني 1990. دخلت المعاهدة حيّز التنفيذ بعد عامين، وكان هدفها الحدّ من قدرة أي طرفٍ على المبادرة بهجوم مفاجئ واسع النطاق، فوضعت قيوداً على حجم القوات والأسلحة التقليدية ونوعيّتها، التي يمكن لأيٍّ من الأطراف حشدها، ومن ضمنها المروحيات الهجومية والعربات القتالية المزوّدة بالمدفعية، ونصّت على نظام مشترك للتحقق والتفتيش.
على هذا النحو، لم تعد هناك قيود على عديد (وعتاد) القوات التي يمكن أن تنشرها روسيا على حدودها مع الدول الأوروبية، ما يعني إمكانية الإخلال بالتوازنات القائمة بين موسكو وجيرانها المتحالفين مع الغرب في شرق أوروبا وشمالها. قلّل المتحدّث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف من أهمية الخطوة، قائلاً “لم يفعل الجانب الروسي سوى التوافق مع الوضع القائم بالفعل”، في إشارة إلى عدم فعالية المعاهدة عملياً، وتحدّث عن “فراغ كبير” في مجال الحدّ من التسلح، يحتاج ملؤه قوانينَ دولية جديدة، “لكن ذلك يتطلب علاقات ثنائية فاعلة مع دولٍ عديدة، وهو ما ليس لدينا الآن، من دون خطأ من جانبنا”، وفق تعبيره.
يصعب عزل الخطوة الروسية عن سياق الحرب الأوكرانية، إذ شهدت الأيام التي سبقت قرار بوتين تطوّرات وتصريحات، تدفع إلى الاعتقاد بأنّه أراد إرسال إشارات تصعيدية إلى داعمي كييف الأوروبيين، مستبقاً الهجوم الأوكراني المعاكس، الذي كثر الحديث عن وقوعه الوشيك. أعلنت موسكو، في 23 مايو/ أيار، عن تصدّيها لهجوم في منطقة بيلغورود الروسية المحاذية للحدود الأوكرانية، شاركت فيه طائرات مسيّرة أوكرانية. وقالت وسائل إعلام غربية إنها “من أكبر الغارات عبر الحدود منذ غزو روسيا أوكرانيا في العام الماضي”، وقد توعّد وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو بـ”ردٍّ قاسٍ” على التوغلات عبر الحدود.
لم تعد هناك قيود على عديد (وعتاد) القوات التي يمكن أن تنشرها روسيا على حدودها مع الدول الأوروبية، ما يعني إمكانية الإخلال بالتوازنات القائمة بين موسكو وجيرانها
نفت أوكرانيا مسؤوليتها عن الهجوم، وفق تصريحات نائبة وزير الدفاع الأوكراني هانا ماليار، التي قالت “هؤلاء مواطنون روس ويريدون تغيير النظام السياسي في البلاد”. وكانت مجموعة مقاتلة روسية، تسمّي نفسها “فيلق تحرير روسيا”، قد أعلنت يوم الهجوم، عبر “تويتر”، أنها سيطرت على قرية حدودية، وستواصل التقدّم شرقاً والقتال لتحرير منطقة بيلغورود. في اليوم التالي، نشرت جماعة روسية أخرى، تُدعى “فيلق المتطوعين”، تسجيلاً مصوّراً، يُظهر مقاتليها في أثناء تحرّكهم باتجاه نقطة تفتيش، وقالت إنها لا تزال تسيطر على “قطعة صغيرة من وطننا”.
نشرت روسيا صوراً لعربات عسكرية أميركية الصنع من طراز هامفي، قالت إنّها استُخدمت في الهجوم الذي أسفر عن مقتل عشرات المقاتلين الأوكرانيين. علّق المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية ماثيو ميلر بأنّ الولايات المتحدة أوضحت للأوكرانيين أنّها لا تدعم الهجمات خارج الحدود الأوكرانية، لكنّه أضاف أن من المهم تذكير العالم “بأنّ روسيا هي التي شنّت هذه الحرب، لذا فإنّ الأمر متروك لأوكرانيا لتقرّر كيفية تنفيذ عملياتها العسكرية”.
بصرف النظر عن النفي الرسمي، يصعب وقوع تطوّر على هذا المستوى من دون تنسيق مع جيش أوكرانيا أو مخابراتها، بل إنّ عملياتٍ كهذه قد تكون جزءاً من الخطوات التمهيدية للهجوم الأوكراني المضاد. وقد أعلن وزير مجلس الأمن القومي والدفاع الأوكراني أوليسكي دانيلوف، في مقابلة مع بي بي سي، نُشرت في 27 مايو/ أيار ووُصِفَت بـ”النادرة”، استعدادَ بلاده لشنّ هجومها المضادّ “الذي طال انتظاره ضد القوات الروسية”، وأنّ “الهجوم لاستعادة الأراضي من قوات الاحتلال التابعة للرئيس فلاديمير بوتين يمكن أن يبدأ غدا أو بعد غد أو بعد أسبوع”. في اليوم نفسه، نشرت “بي بي سي” مقابلة مع السفير الروسي في لندن أندريه كيلين، قال فيها إن طول الصراع “يعتمد على جهود تصعيد الحرب التي تقوم بها دول حلف الناتو وخصوصا بريطانيا”، وحذّر من أنّ التصعيد قد يأخذ “بعداً جديداً لسنا بحاجة إليه ولا نريده”، مؤكّداً أن بلاده “لم تبدأ التصرّف بجدّية كبيرة بعد”.
أمّا وقد وصلت مسيّرات أوكرانية إلى سماء موسكو نفسها، واستهدفت بعض أحيائها، فإنّ المعطيات جميعها تعِدُ بصيف لاهب سيشعل جبهات القتال كافّة، مع احتمالاتٍ متزايدة بأن تمتدّ العمليات إلى ما وراء الحدود، لتصبح أراضي روسيا جزءاً من ميدان المعركة. وفي المحصلة، ستستمرّ المأساة الإنسانية والنتائج الكارثية التي سببّتها هذه الحرب القذرة، فيما شركات السلاح تمدّ زبائنها بمزيدٍ من وسائل الموت، لتُضاعف أرباحها على حساب شعوب العالم.
العربي الجديد