من بين عوامل أخرى، تصنع الأحداث الجسيمة التي تمر بالشعوب كالثورات والانتفاضات الجماهيرية والانتصارات والهزائم العسكرية الوعي الجمعي العام وتحدد أساليب تعامل الحكومات معها، إن رفضا وإنكارا أو اعترافا وتكيفا واستجابة، الخطوط العريضة للثقافة السياسية السائدة. وقد كان للهزيمة العسكرية التي لحقت بالجيوش المصرية والأردنية والسورية في 5 يونيو/حزيران 1967 وللكيفية التي أدارت بها حكومات البلدان الثلاثة لحظة الهزيمة وما بعدها أثر عميق وباق على وعي الناس وثقافتهم السياسية.
مصريا، وفي مقام الرصد المباشر وغير المدفوع بحسابات إدانة الحكم الناصري (1954-1970) أو تبرئة ساحته كان لهزيمة 1967 تداعيات كثيرة على ثقافتنا السياسية لم تنزو ولا تراجعت أهميتها حتى يومنا هذا.
من جهة أولى، أفقد التعامل غير الأمين للإعلام الرسمي مع تفاصيل الحرب بين 5 و9 يونيو/حزيران، خاصة إنكاره لخسائر القوات المصرية وانسحابها من شبه جزيرة سيناء إلى غرب قناة السويس، الناس ثقتهم ليس فقط فيما يصدر عن الصحافة والإذاعة والتلفزة المدارة حكوميا، بل أيضا في أقوال وتصريحات وبيانات المسؤولين الذين مارسوا كل فنون التعبئة الجماهيرية قبل الحرب واعدين بانتصار ساحق على العدو وتحرير لفلسطين وصمتوا عدة أيام بينما بقية أرض فلسطين تحتل وأرض سورية في الجولان وأرض مصرية في سيناء تدخلها القوات الإسرائيلية.
شعبيا، لم نتعاف أبدا في مصر من فقدان الثقة في وسائل الإعلام الرسمي وفي البيانات الحكومية التي صرنا نتوقع مسبقا عدم صدقها. لم نتعاف أيضا من الشك في المسؤولين الذين يطلقون الوعود الوردية ويرسمون ملامح مستقبل قريب تتحقق به الآمال المشروعة ثم يصمتون حين تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.
من جهة ثانية، وعلى النقيض من التداعيات السلبية للتعامل الإعلامي والحكومي الإنكاري لتفاصيل الحرب ونتائجها الكارثية، ثبت إعلان الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر تنحيه عن السلطة في 9 يونيو/حزيران بدافع من تحمله المسؤولية السياسية الكاملة عن الهزيمة لمضامين إيجابية جوهرها أن شرعية بقاء الحاكم ترتبط باحترامه لمشاعر ورغبات المواطنات والمواطنين وعدم تجاهله لمدى حضور أو غياب الرضاء الشعبي عنه حتى حين تغيب قواعد الممارسة الديمقراطية حكما للقانون وتداولا سلميا للسلطة.
ظن عبد الناصر، وهو آنذاك صاحب الكاريزما الطاغية والقبول الشعبي الجارف بين الشرائح الفقيرة ومحدودة الدخل والطبقة الوسطى في مصر بسبب سياساته الاقتصادية والاجتماعية وبين المؤمنين فكريا وسياسيا بالاشتراكية والقومية العربية وقيم التحرر الوطني وعدم الانحياز، أن الناس على وقع الهزيمة لا يريدون منه سوى الرحيل عن المنصب التنفيذي الأعلى في البلاد والابتعاد التام عن المشهد العام بعد أن ضاع أمل تحرير فلسطين وحلت كارثة احتلال المزيد من الأراضي العربية. ومن ثم، أعلن الرجل الرحيل والابتعاد، ونظم نقل السلطة لمن يخلفه (بترتيبات زمنية مؤقتة ثم ذات مدى أطول) منعا للفراغ الدستوري والسياسي، وتحدث أكثر من مرة مع قريبين منه عن قناعته أن الناس حتما يرغبون في إعدامه وأعضاء حكومته في الميادين العامة رميا بالرصاص.
قدم نموذجا ملهما لوعي وثقافة المصريات والمصريين الذين عادة ما يشرعون حين تضطرب أوضاعهم في مطالبة الحكام بتغيير سياساتهم وإعادة النظر في قراراتهم ولا يميلون إلى مطالبتهم هم بالرحيل، بل ينتظرون الاستجابة ويفضلون المسارات الإصلاحية عن التقلبات الراديكالية
وعندما خرجت جموع من المواطنات والمواطنين في مظاهرات عفوية لمطالبته بالتراجع عن التنحي وتحمله لمسؤولية الهزيمة بصيغة أخرى هي العمل على «إزالة آثار العدوان» استجاب عبد الناصر وأدار بين 1967 ووفاته في 1970 عملية إعادة تأهيل وتسليح الجيش المصري وإطلاق حرب الاستنزاف وكذلك عملية للإصلاح المؤسسي والسياسي والإداري في أركان حكمه الذي لم يتسم قبل الهزيمة سوى بالانغلاق والقبضة الأمنية الحديدية. بين 1967 و1970، ترجم عبد الناصر مضامين تحمل المسؤولية عن الهزيمة والاستجابة للمطالب الجماهيرية بشأن استمراره في السلطة إلى محاكمات لبعض رموز وعناصر نظامه (محاكمات الطيران وقضية المخابرات) وإبعاد للقوات المسلحة عن السياسة وفرض لمبادئ وقواعد الإدارة المهنية للجيش الذي أعيد تسليحه وإعداده، ومبادرات للإصلاح المؤسسي والسياسي كان أبرزها النقاش داخل دوائر السلطة التنفيذية (مؤسسات الرئاسة والحكومة والاتحاد الاشتراكي) الذي أسفر عن بيان 30 مارس 1968 وعن تدوير أفكار جديدة في أروقة النظام الناصري بشأن الديمقراطية الداخلية والرقابة والتوازن بين السلطات والرقابة الشعبية.
شعبيا، قدم تنحي عبد الناصر، والذي لم يتراجع عنه سوى بعد مظاهرات شعبية لم تكن لا مدفوعة الأجر ولا مدارة من قبل أجهزة حكومية وفقا لإجماع المؤرخين وشهادات معاصري حقبة الخمسينيات والستينيات، نموذجا سياسيا راقيا لتحمل مسؤولية أزمة كبرى عصفت بأركان حكمه بسبب هزيمة عسكرية كارثية لم يتنصل منها أو يصمت عنها. وظل ذلك النموذج يداعب مخيلة الناس وهم يطلبون في انتفاضات شعبية مختلفة إما تغيير سياسات وقرارات حكومية كما في انتفاضة الخبز 1977 أو ينشدون رحيل مسؤولين تنفيذيين بعينهم كما في بدايات ثورة يناير 2011 أو يسعون إلى تنحي الحاكم دون مطالبته بالعودة كما تطورت ثورة يناير بعد أسبوعها الأول عندما تعالت نداءات رحيل الرئيس الأسبق مبارك وكما عبرت مظاهرات 30 يونيو 2013 التي دعت إلى تنحي الرئيس الأسبق مرسي وتنظيم انتخابات رئاسية مبكرة.
شعبيا أيضا، قدم تراجع عبد الناصر عن التنحي بعد المطالبة الشعبية ببقائه وشروعه الفوري في تحمل المسؤولية عن 1967 بصيغة العمل على تحرير الأرض وضبط اختلالات حكمه التي فرضتها البيئة السياسية المغلقة وغياب الرقابة والتوازن بين السلطات والخلط بين العسكري والسياسي وبين العسكري والمدني في إدارة شؤون البلاد، قدم نموذجا ملهما لوعي وثقافة المصريات والمصريين الذين عادة ما يشرعون حين تضطرب أوضاعهم في مطالبة الحكام بتغيير سياساتهم وإعادة النظر في قراراتهم ولا يميلون إلى مطالبتهم هم بالرحيل، بل ينتظرون الاستجابة ويفضلون المسارات الإصلاحية عن التقلبات الراديكالية.
هكذا جاءت مطالب ثورة يناير 2011 ذات الجوهر الإصلاحي في أيامها الأولى والتي لم يدفع جموعها إلى مطالبة الرئيس الأسبق مبارك بالرحيل إلا تأخره الزمني الفادح في الاستجابة، وهكذا تبلورت بين 2012 و2013 مطالب إصلاحية وجهت إلى الرئيس الأسبق مرسي وكان تجاهله لها بإعلان دستوري مستبد وبتمكين تدريجي لجماعة الإخوان المسلمين وبتجاهل حقوق المواطنة المتساوية للأقباط والمسلمين وباستعداء النساء والمثقفين وأهل الفن هو سبب الرغبة الشعبية الجارفة للإطاحة به.
بسلبياتها الخطيرة المتمثلة في الشك المستمر في وسائل الإعلام المدارة حكوميا ووعود المسؤولين وبشق تحمل المسؤولية عرضا للرحيل من قبل عبد الناصر ثم بالعمل على إزالة آثار العدوان والإصلاح المؤسسي والسياسي بين 1967 و1970، يظل لهزيمة 1967 وفقط من باب الرصد الموضوعي للتعاطي الشعبي المباشر مع أيامها القليلة ونتائجها الكثيرة تداعيات واسعة على الوعي العام والثقافة السياسية للمصريات والمصريين.
وذلك ناهيك عن كل العوامل السياسية والمجتمعية التي أوصلت مصر إلى 5 يونيو/حزيران 1967 ورتبت هزيمة جيشها قبل أن تستعيد بلادنا عافيتنا ونشرع في حرب الاستنزاف واسترداد الكرامة والأرض بمحطاتها المتعاقبة تحت قيادة عبد الناصر والقيادة المحترفة للجيش المصري (الفريق محمد فوزي) حتى 1970 ثم وصولا إلى 1973 وحرب أكتوبر المجيدة التي قادها الرئيس الأسبق السادات وقيادات عسكرية بالغة الاحترافية والمهنية (المشير محمد عبد الغني الجمسي) وانتهاء بقرار السلام التاريخي الذي اتخذه الرئيس السادات في 1977 وهو شهيد للوطنية المصرية المعاصرة يحتاج في إرثه السياسي الداخلي والخارجي إلى الكثير من إعادة التقييم والاعتبار.
القدس العربي