بعض ملامح المرحلة السياسية الجديدة في تركيا

بعض ملامح المرحلة السياسية الجديدة في تركيا

قال زعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي، في أعقاب زيارته للرئيس اردوغان لمباركته بالفوز بولاية رئاسية جديدة، إن «أشياء كثيرة ستتغير في المرحلة القادمة، كل شيء سيتغير، نأمل ألا تتغير تركيا نفسها»! قد يمكن اعتبار القسم الأول من التصريح نوعاً من بث الأمل لدى المواطنين بشأن تحسن أوضاعهم نحو الأفضل، لكن القسم الثاني غريب، والثالث يعبر عن مخاوف السياسي العتيق الذي يعتبر نفسه ممثلاً للمصالح العليا للدولة التركية.
كان التغيير الحكومي الواسع الذي أعلن عنه الرئيس اردوغان بمثابة تحقيق لتوقعات حليفه القومي وربما مخاوفه أيضاً. وقبل الانتخابات كان اردوغان قد استبق هذه التغييرات الحكومية بترشيح أكثرية أعضاء حكومته السابقة في الانتخابات النيابية، وهو ما يعني إبعادهم عن الحكومة المقبلة. وكان أبرز هؤلاء «المنبوذين» كلا من وزير الدفاع خلوصي آكار ووزير الداخلية سليمان صويلو، والرجلان عرف عنهما طموحهما للحلول مكان اردوغان في قيادة الحزب الحاكم والدولة. فإذا كان ترشيح اردوغان نفسه لولاية رئاسية جديدة قد أحبط الطموح الثاني، فقد حافظا على الأول على أمل الارتقاء في قيادة الحزب ليكون كل منهما خليفته المحتمل ولو بعد بضع سنوات. مع تشكيل الحكومة الجديدة يمكن القول إن هذا الطموح لدى الرجلين، وبخاصة صويلو، قد انتهى إلى درجة أن بعض مراقبي السياسة التركية بات يتوقع مغادرته صفوف حزب العدالة والتنمية، ربما إلى حزب الحركة القومية الذي دعمه زعيمه بهجلي في أصعب الأوقات وضمن بقاءه في منصبه في وجه الحملات الكبيرة التي واجهته، مرة لفشله في التدابير الأمنية في مواجهة وباء كورونا، وأخرى في مواجهة اتهامات خطيرة وجهها إليه رجل المافيا المنشق سادات باكر قبل عامين، إضافة إلى إجراءاته القمعية ولسانه اللاذع اللذين وضعاه في مرمى الرأي العام.
المنبوذ الثالث المهم من السلطة التنفيذية هو وزير المالية والخزينة العامة نور الدين نباتي الذي أراد اردوغان، بإبعاده، تحميله مسؤولية الفشل الاقتصادي، مع أن الرجل القادم من دهاليز البيروقراطية الاقتصادية كان مجرد منفذ لتوجيهات الرئيس. الأمر الذي ينطبق أيضاً على وزير العدل السابق بكير بوزداغ.
غير أن بعض القادمين الجدد إلى المناصب الشاغرة شكلوا مفاجأة كبيرة، أبرزهم اثنان: هاكان فيدان الذي تم نقله من رئاسة جهاز الاستخبارات القومي إلى وزارة الخارجية، وإبراهيم كالن الذي انتقل من مستشار اردوغان والناطق الرسمي باسمه إلى رئاسة جهاز الاستخبارات إياه، في حين انتقل علي يرليكايا من منصب والي مدينة إسطنبول إلى منصب وزير الداخلية خلفاً لصويلو.

مجمل هذه التغييرات يشير إلى أن الحكومة جديدة لكن جميع أعضائها شخصيات معروفة سابقاً وشغلوا في الماضي مناصب مهمة، فهي ليست جديدة تماماً. ويصفها المحللون الأتراك بأنها حكومة تكنوقراط مشكلة من خبراء في ميادينهم

أما التعيين الذي لم يكن مفاجئاً فهو محمد شمشك وزيراً للمالية والخزينة العامة خلفاً لنباتي. فقد سبق لاردوغان أن استدعاه لاستلام السياسة الاقتصادية والمالية قبل الانتخابات بأكثر من شهر، بهدف طمأنة الناخبين وجذبهم للتصويت له ولحزبه. وقتها رفض شمشك العرض متذرعاً بانشغاله في ميدان المؤسسات المالية العالمية، في حين تحدثت التكهنات عن اشتراطات تقدم بها لقبول المنصب، أهمها استقلاليته في رسم السياسات المالية واستقلالية البنك المركزي الذي كان حاكمه يعمل، في السنوات الأخيرة بتوجيهات مباشرة من الرئيس.
أما وزير الداخلية الجديد يرليكايا فإن من يعرفونه يقولون عنه إنه ذو شخصية منفتحة على الناس بصرف النظر عن اتجهاتهم السياسية، ورجل حوار لا رجل لاذع اللسان وعدواني تجاه الخصوم كحال صويلو. يبقى أن يثبت الرجل ذلك في منصبه الجديد الذي يصطبغ بطبيعته بالصبغة الأمنية ـ القمعية. في وزارة الدفاع حل رئيس أركان الجيش السابق يشار غولر محل خلوصي آكار الذي سبق وجاء من المنصب نفسه في أعقاب الانقلاب العسكري الفاشل في تموز 2016. وكأن باردوغان يرسي تقليداً سياسياً جديداً بترقية رؤساء الأركان إلى وزراء دفاع، بعدما كان هؤلاء دائماً من المدنيين.
وزيران فقط من الحكومة السابقة احتفظا بمنصبيهما في الحكومة الجديدة، هما وزير السياحة محمد نوري أرسوي ووزير الصحة فخر الدين قوجة الذي طبع فترة وباء كورونا بتدابيره الناجحة وكان الأكثر ظهوراً إعلامياً بين الوزراء في تلك الفترة، وعرف بحرصه على الابتعاد عن التصريحات والسجالات السياسية.
مجمل هذه التغييرات يشير إلى أن الحكومة جديدة لكن جميع أعضائها شخصيات معروفة سابقاً وشغلوا في الماضي مناصب مهمة، فهي ليست جديدة تماماً. ويصفها المحللون الأتراك بأنها حكومة تكنوقراط مشكلة من خبراء في ميادينهم، هذه حال شمشك الذي سبق وشغل مناصب اقتصادية في حكومات سابقة، إضافة إلى خبرته وشبكة علاقاته في أوساط المال والأعمال في أوروبا، ويأمل اردوغان أن يتمكن وزير ماليته الجديد من اجتذاب رؤوس أموال أجنبية ومن رسم سياسة تنقذ البلاد من وحش التضخم بصورة خاصة. كذلك حال وزير الخارجية الجديد فيدان الذي لعب دوراً بارزاً في السياسة الخارجية، وهو من قاد عمليات التطبيع الأخيرة مع دول عربية كالإمارات والسعودية ومصر والنظام السوري، يقال عنه إنه رجل يوحي بالثقة، ويملك خبرة جيدة في العلاقات الدولية. من المحتمل أن يشير تعيينه في منصب وزير الخارجية إلى رغبة اردوغان في تطبيع علاقاته مع واشنطن والحلف الأطلسي أيضاً إضافة إلى الدول العربية وروسيا وإسرائيل.
يبقى أن كل ما تقدم هو افتراضات قائمة على مواصفات كل واحد من الوزراء، في حين أن النظام الرئاسي الذي منح اردوغان كل الصلاحيات يتيح له تحويلهم إلى مجرد منفذين لتوجيهاته كما كانت الحال طوال السنوات الخمس الماضية. فإذا منحهم شيئاً من الاستقلالية في عملهم سيعني ذلك أنه استخلص دروس الولاية السابقة وبات مستعداً للتغيير.
«كل شيء سيتغير في تركيا» قال بهجلي «نأمل ألا تتغير تركيا نفسها!». من المحتمل أن نفوذ الرجل القوي على اردوغان سيتراجع، وربما يفك تحالفه معه، بعدما انتهت الحاجة إليه.

القدس العربي