محددات نجاح سياسة “تصفير المشكلات” في الإقليم

محددات نجاح سياسة “تصفير المشكلات” في الإقليم

شهدت منطقة الشرق الأوسط، وفي القلب منها المنطقة العربية، خلال العقد الماضي، العديد من الصراعات والأزمات، التي عصفت ببعض دولها، وجعلتها ساحة لاندلاع الصراعات والحروب الأهلية والتدخلات الإقليمية والدولية الخارجية، ومنطقة جذب لتنظيمات التطرف والإرهاب والجماعات المسلحة من كل نوع وصنف. وتطلب ذلك اتخاذ إجراءات واضحة وقوية من قِبل الدول القائدة في المنطقة، ولاسيما المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وجمهورية مصر العربية، لاستعادة الاستقرار، ومحاولة وقف التدخلات الخارجية المزعزعة لاستقرار المنطقة، ومواجهة خطر الجماعات الإرهابية. واستدعى ذلك دخول دول المنطقة في نزاعات وأزمات سياسية عديدة، ولاسيما مع بعض الدول الساعية لفرض هيمنتها وأجنداتها على الإقليم، وتحديداً تركيا وإيران ومن يدور في فلكهما في المنطقة.

ومع استقرار الأوضاع نسبياً، واستعادة المنطقة بعضاً من استقرارها، اتجهت العديد من الدول منذ نهاية العام 2021 إلى تبني نهج جديد يقوم على سياسة “تصفير المشكلات”، والتي تعني سعي بعض الدول إلى إزالة المشاكل من علاقاتها مع الدول الأخرى أو على الأقل تقليص هذه المشاكل وتخفيضها إلى أدنى المستويات. ويناقش هذا المقال أسباب هذا التوجه الجديد، وأهم مظاهره وتجلياته، كما يبحث في مستقبله ومدى قدرته على ضمان الاستقرار في الإقليم في المستقبل المنظور.

دوافع “تصفير المشكلات”:

هناك العديد من الأسباب التي دفعت دول المنطقة نحو سياسة “تصفير المشكلات”، أبرزها هو توصل الكثير من الدول بعد أكثر من عقد من الصراعات والحروب العبثية إلى قناعة بأن الحوار هو أفضل الوسائل للوصول إلى تفاهمات بشأن نقاط الخلاف والصراع. فلم تخرج أي دولة رابحة من هذه النزاعات والمشكلات التي شهدها الإقليم. فتركيا، على سبيل المثال، التي تمكنت من تحقيق نجاحات اقتصادية كبيرة في العقد الأول من الألفية الثانية، بفضل سياساتها الإيجابية مع جميع الدول المجاورة، ولاسيما العربية، من خلال تطبيق سياسة “صفر مشكلات”، أصبحت تعاني اقتصادياً بعدما حادت عن هذه السياسة وانزلقت في صراعات وخلافات مع مختلف دول الإقليم، في مرحلة ما يُسمى بـ”الربيع العربي”، وبشكل أثّر على التعاون الاقتصادي بينها وبين باقي دول المنطقة ومن ثم تضرر اقتصادها، وهو ما دفعها للعودة من جديد لسياسة “صفر مشكلات”.

وكذلك الحال بالنسبة إلى إيران التي أدركت أن سياسة التدخلات واستقطاب الوكلاء ونشر الفوضى في دول المنطقة لم تحقق أهدافها في فرض الهيمنة المزعومة أو الضغط على الشركاء الدوليين لقبولها في المجتمع الدولي، ولاسيما بعد تعثر الصفقة النووية، واتجاه دول المنطقة إلى الدخول في تحالفات إقليمية لمواجهة المشروع الإيراني. كما أن الشعب الإيراني بدأ يحتج على نظامه الحاكم مع تفاقم الأزمات الاقتصادية في البلاد. وكل ذلك جعل طهران تميل باتجاه تهدئة الأزمات والدخول في حوار مع دول المنطقة للتوصل إلى تفاهمات أو لتقليل حدة التوترات.

أما بالنسبة لدول الخليج العربية، فإن الدافع الأهم لها هو التركيز بصورة أكبر في خططها التنموية الداخلية، وتسريع التحرك نحو استعادة الاستقرار الإقليمي باعتبار أنه الأساس لأي تنمية وتطور. ومع ملاحظة أن دول الخليج لم تكن هي المتسببة في أي من النزاعات أو الخلافات التي شهدتها المنطقة، حيث كانت سياساتها رد فعل ومحاولة لوقف التدخلات الخارجية السلبية في شؤون المنطقة، فإنها أكدت حرصها على تحقيق السلام والتنمية في المنطقة استناداً إلى قاعدة الحوار والتعاون كأساس لحل المشكلات وتحقيق التنمية والازدهار لجميع الدول. وتشترك مصر في هذا الدافع، إضافة إلى ما تعانيه مثل غيرها من كثير من دول المنطقة من مشكلات اقتصادية، تدفعها إلى البحث عن مجالات أوسع للتعاون الاقتصادي الخارجي عبر سياسة التهدئة والحوار.

نتائج إيجابية:

أفرزت سياسة “صفر مشكلات” العديد من النتائج الإيجابية على صعيد العلاقات الإقليمية، من أبرزها ما يلي:

1- تنقية الأجواء الخليجية: تمثلت أول وأبرز مظاهر هذا التوجه التصالحي في قمة العُلا الخليجية التي عُقدت في السعودية في يناير 2021، وأنهت خلافاً استمر أكثر من ثلاث سنوات بين دول الرباعية العربية (السعودية والإمارات والبحرين ومصر) من ناحية، وقطر من ناحية أخرى، وأعادت تأكيد وقوف دول مجلس التعاون الخليجي صفاً واحداً في مواجهة “أي تهديد قد تتعرض له أي من دول المجلس”. وفتحت هذه القمة المجال واسعاً أمام عودة العلاقات بين دول المجلس إلى طبيعتها القوية، وتنسيق المواقف المشتركة تجاه مختلف القضايا الإقليمية والدولية.

2- تحسن العلاقات العربية التركية: شهدت العلاقات بين الجانبين العديد من المؤشرات الإيجابية، ولاسيما بعد الزلزال التركي في فبراير الماضي، والذي أظهر تعاطف دول المنطقة مع أنقرة ودعمها لها، ومن ذلك تبادل الزيارات الرسمية بين الطرفين، والتي كان أبرزها زيارة وزير الخارجية المصري، سامح شكري، إلى أنقرة يوم 13 إبريل 2023، والتي سبقتها زيارة مماثلة من وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، للقاهرة في 18 مارس الماضي، فضلاً عن عقد أول جولة مشاورات سياسية بين الحكومتين السعودية والتركية، في 10 إبريل الماضي، والاجتماع الرباعي الذي عُقد بموسكو في 3 إبريل الماضي على مستوى نواب وزراء خارجية كل من روسيا وإيران وسوريا وتركيا، والذي جاء ضمن مساعي تطبيع العلاقات التركية السورية، وزيارة رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، إلى أنقرة في مارس الماضي، بالإضافة إلى زيارة سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية والتعاون الدولي الإماراتي، لتركيا في مايو 2022، وغيرها من المؤشرات التي تؤكد التحسن في مسار العلاقات العربية التركية.

3- التقارب الخليجي الإيراني: برز هذا التقارب كأحد أهم التطورات الإقليمية في السنوات الأخيرة، ومن أبرز مظاهره إعلان السعودية وإيران يوم 10 مارس 2023 عن استئناف العلاقات الدبلوماسية بعد محادثات سرية في بكين بوساطة الحكومة الصينية، وما تلاها من توجيه دعوة من العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز، للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لزيارة المملكة. وأيضاً قيام أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني السابق، علي شمخاني، بزيارة لدولة الإمارات يوم 16 مارس 2023، ولقاءاته مع القيادة الإماراتية، ثم الإعلان الإيراني، في 4 إبريل 2023، عن تعيين سفير لطهران في الإمارات بعد شغور المنصب لـ8 أعوام. وليس بخافٍ الأهمية الكبيرة لهذا التقارب، ولاسيما فيما يتعلق بتخفيف حدة التوتر الإقليمي، وتعزيز فرص تسوية الصراعات في المنطقة وخاصة الأزمة اليمنية، والوصول إلى تفاهمات بشأن العديد من القضايا المشتركة، ما قد يعزز من حالة الاستقرار الإقليمي.

رهانات المستقبل:

لا خلاف على أن سيادة منطق الحوار والرغبة في التعاون المشترك يوفر الأجواء المناسبة لتحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي، كما يفتح المجال واسعاً أمام استفادة كل الأطراف من المنافع المشتركة المحتملة للتعاون الإقليمي، بما يسهم في تحقيق طموحات الدول والشعوب المختلفة في التنمية والازدهار الاقتصادي.

ولا خلاف أيضاً على أن دول الخليج العربية، وعلى رأسها دولة الإمارات العربية المتحدة التي تقود هذا النهج الجديد، لديها الرغبة الجادة والحرص على مواصلة التعاون والتنسيق المشترك مع مختلف دول المنطقة والعالم، واعتماد الحوار كأسلوب رئيسي لتسوية الخلافات والأزمات، لأنها تريد التركيز على خططها الاقتصادية الطموحة للمستقبل الذي تأمله لشعوبها.

لكن مستقبل هذه السياسة ونجاحها سيعتمد بالأساس على سلوكيات وسياسات دول الجوار الإقليمي، ولاسيما تركيا وإيران وإسرائيل، وأيضاً على مدى التزام بعض الأطراف في المنطقة بما تم التوافق عليه بشأن ضرورة عدم تبني السياسات المثيرة للتوتر وعدم الاستقرار. فالمشكلة، كما يقول أحد الخبراء، ليست في السياسات العربية والخليجية، وإنما تكمن في سياسات وتدخلات القوى الإقليمية الأخرى، وهذه الأخيرة تشهد تقلبات كثيرة ومتباينة، فتدخلات هذه القوى السلبية هي من تدفع دول الخليج والدول العربية إلى محاولة التصدي لها من أجل حماية أمنها واستقرارها ومصالحها.

ومن المهم هنا أن يشعر الجميع بالثمار الإيجابية لنتائج هذه السياسات التصالحية وبأهمية تعزيز ثقافة الحوار باعتبارها الأساس في إدارة أية خلافات يمكن أن تنشأ في المنطقة، بل وحتى في العالم كله.

المستقبل للدراسات