ولاية رئاسية ثالثة: قراءة في أسباب وخطاب نصر أردوغان

ولاية رئاسية ثالثة: قراءة في أسباب وخطاب نصر أردوغان

للمرة الثالثة على التوالي، يستطيع رجب طيب أردوغان الحفاظ على منصبه كرئيسٍ للجمهورية التركية، وذلك بعد معركة انتخابية صعبة ومُحتدمة خاضها هو وتحالفه “الجمهور” أمام المرشح المنافس له، كمال كليجدار أوغلو، مُرشح تحالف المعارضة “الأمة” المعروف باسم “الطاولة السداسية”، خلال جولتين انتخابيتين رئاسيتين؛ عُقدت الأولى في 14 مايو 2023، والثانية في 28 مايو 2023.

ففي ظل مشاركة قُدرت بحوالي 84.57% من الناخبين الأتراك، وحصول أردوغان خلال جولة الإعادة -وفقًا للهيئة العليا للانتخابات التركية- على 52.16% من الأصوات، مقابل 47.84% لنظيره كليجدار أوغلو، ومع انتزاع تحالف “الجمهور” للأغلبية البرلمانية في الانتخابات التي عُقدت يوم 14 مايو 2023، يمكن القول إن طموحات المعارضة في تحول البلاد إلى النظام البرلماني قد أجهضت، وسيبقى النظام الجمهوري الذي أسسه أردوغان حاكمًا للبلاد لخمس سنوات أخرى، بقيادة أردوغان وحزبه الحاكم “العدالة والتنمية” تحت مظلة تحالف “الجمهور”.

أسباب فوز أردوغان

بقراءة المشهد العام للجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التركية، يمكن ملاحظة عدة عوامل بارزة كان لها الدور المحوري والأساسي في فوز أردوغان، يتمثل أبرزها في:

1- فوز تحالف “الجمهور” بالأغلبية البرلمانية: عقب فوز تحالف “الجمهور” خلال الجولة الأولى بأغلبية مقاعد البرلمان، مُتفوقًا في ذلك على نظيره تحالف “الأمة” الذي جاء في المرتبة الثانية، كان هناك اتجاهات ترى أن تلك النتيجة ستشجع فئة كبيرة من الأصوات -خاصة المُترددة- لأن تصوت لصالح أردوغان في جولة الإعادة، حفاظًا على عامل الاستقرار والتوازن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، لاسيما في ظل ما تواجهه البلاد من تحديات سياسية داخلية وخارجية، وأزمات اقتصادية ومعيشية مُتراكمة، لا يمكن تجاوزها إلا في ظل سلطتين مُنسجمتين تعملان على برنامج ومشروع واحد، يهدف في الأساس لتحقيق مصالح الشعب.

2-حصول أردوغان على دعم أنصار أوغان: بعد جهود استقطابية بذلها كل من أردوغان وكليجدار أوغلو، لكسب أصوات التيار القومي المتطرف الذي ذهبت حوالي 5.2% من أصواته خلال الجولة الأولى إلى سنان أوغان، أعلن الأخير دعمه لأردوغان خلال جولة الإعادة، يوم 22 مايو 2023، مُخطابًا أنصاره: “أطلب من الناخبين الذين صوتوا لنا في الجولة الأولى أن يصوتوا لأردوغان في الجولة الثانية”.

جاء ذلك بعد عقد عدة جلسات تفاوضية بين الجانبين أسفرت عن الاتفاق بشأن تحديد جدول زمني لإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، ومحاربة التنظيمات الإرهابية والأذرع السياسية لها في تركيا في إشارة إلى حزب “الشعوب الديمقراطي” الكردي المُتهم بالتحالف مع حزب “العمال الكردستاني” المُصنف جماعة إرهابية في تركيا، والذي يُعتبر من بين أبرز وأهم أسباب عزوف سنان أوغان عن دعم تحالف “الأمة” المدعوم من أنصار حزب “الشعوب الديمقراطي” منذ الجولة الأولى.

3- ضعف تحالف المعارضة وبرنامجه الانتخابي: اعتبر البعض أن تحالف أحزاب المعارضة -رغم اختلاف أيديولوجياتها الفكرية وبرامجها السياسية- سيكون بمثابة أكبر تحدٍّ لأردوغان وتحالف “الجمهور” خلال الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، إلا أن هذا التنوع والتباين كان بمثابة سيف ذو حدين. فقد أسفر عن أزمتين أساسيتين أسهمتا في ضعف وتفكك المعارضة على المستوى الداخلي، وعلى مستوى الدعم الشعبي الخارجي:

أولاهما، أن التحالف قد عانى من الخلافات الداخلية والانشقاقات التي سبقت فترة الانتخابات، والتي كان أبرزها انشقاق حزب “الجيد” بزعامة ميرال اكشينار -لفترة عن التحالف- اعتراضًا على ترشح كمال كليجدار أوغلو باعتباره مُرشحًا رئاسيًا غير مُناسب، فضلاً عن اعتراض آخرين داخل “الطاولة السداسية” على مسألة التحالف مع حزب “الشعوب الديمقراطي” الكردي.

وثانيتهما، أن برنامج المعارضة المُختلط وغير المُحدد، وفقًا لتيارات فكرية وسياسية مختلفة، قد جعل فئة كبيرة من الشعب تُفضل الاستقرار والوضوح الذي جسده تحالف “الجمهور” بقيادة أردوغان وحزبه الحاكم “العدالة والتنمية”، باعتباره تحالفًا أكثر تجانسًا وتماسكًا من الداخل، وبالتالي لا يُنذر بحدوث انشقاقات وخلافات جوهرية تعيق خطواته في المستقبل.

4-استقطاب أصوات المعارضة: على غرار الجولة الأولى، جاءت أصوات المناطق المنكوبة من زلزال 6 فبراير 2023، لصالح أردوغان في جولة الإعادة، وبنسب أعلى من تلك التي حصدها في الجولة الأولى. ويُعزى ذلك إلى أن سكان تلك المناطق قد تعرضوا لهجوم واضطهاد على نطاق واسع من قِبل أنصار كليجدار أوغلو، عقب تصويتهم لأردوغان وتحالف “الجمهور” في انتخابات الجولة الأولى، حيث انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو يتم فيها طرد عوائل منكوبي الزلزال من الفنادق التي تم إسكانهم فيها في بلدية تقع بشمال غرب تركيا، يترأسها أحد أنصار حزب الشعب الجمهوري، وذلك بسبب تصويتهم لصالح أردوغان في الجولة الأولى.

هذا على عكس أردوغان، الذي سعى لتبني سياسة استقطابية مُغايره قبل انعقاد جولة الإعادة، حاول خلالها اجتذاب ناخبين المناطق والأحياء التي ذهبت أصواتها إلى كليجدار أوغلو في الجولة الأولى، حيث قام أردوغان بزيارة ولاية “هاطاي” المُتضررة من الزلزال، وقام بافتتاح مستشفى هناك خلال حفل كبير ألقى فيه خطابًا تعهد خلاله ببناء 250 ألف وحدة سكنية جديدة لمُتضرري الزلزال، ما أدى إلى ارتفاع أصوات أردوغان في “هاطاي” من 48.03% في الجولة الأولى إلى 50.10% في الجولة الثانية، وهي تعد نسبة كبيرة، خاصة أن تلك الولاية تعتبر إحدى معاقل المعارضة التي ذهبت أغلب أصواتها إلى كليجدار أوغلو في الجولة الأولى.

5- تحالف المعارضة مع أوميت أوزداغ: في صفقة اعتبرها البعض خاسرة، راهن كليجدار أوغلو بورقة الأكراد مقابل محاولة كسب ورقة اللاجئين التي لطالما استغلتها المعارضة في حربها ضد أردوغان. فمن خلال إعلان زعيم حزب “النصر” أوميت أوزداغ -المعروف بعداءه التاريخي للأكراد- دعمه لتحالف “الأمة” المعارض، قائلاً: “أدعو من صوتوا لنا في الجولة الأولى أن يصوتوا للسيد كليجدار أوغلو في جولة الإعادة؛ لكي يعود اللاجئون إلى بلادهم”، اعتبر كليجدار أوغلو أنه سيضمن دعم أصوات نسبة كبيرة من القومين المتطرفين المُناهضين لوجود اللاجئين في تركيا، مُتجاهلاً في الوقت ذاته أمرين أساسيين:

أولهما، أن أغلب المناطق التي صوتت له لا تشهد حضورًا كثيفًا للاجئين، وبالتالي عدم انشغال أغلب سكانها بسرعة حل هذا الملف. وثانيهما، خسارة نسبة كبيرة من أصوات الأكراد الذين يرفضون تحالفه مع أوزداغ، لاسيما مع الحديث بشأن اتفاق الجانبين -كليجدار أوغلو وأوزداغ- على الدعم مقابل استمرار نظام الوصاية الحكومية على البلديات التي يفوز بها أنصار أو أعضاء حزب “الشعوب الديمقراطي” الكردي حليف حزب “العمال الكردساتي”.

قراءة في خطاب النصر

وفقًا لخطاب النصر الذي ألقاه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عقب إعلان فوزه، يُمكن قراءة أبرز وأهم الخطوات التي ستتخذها تركيا في ظل ولاية أردوغان الثالثة، خلال المئوية الجديدة التي يبدأها أردوغان بتدشين رؤية “قرن تركيا” -التي تحدث عنها أول مرة في أكتوبر عام 2022 في الذكرى الـ 99 لتأسيس الجمهورية التركية- وذلك على النحو التالي:

1- تنامي استهداف الأكراد: من المُتوقع أن تشهد الفترة القادمة تناميًا في الخطاب القومي التركي والتركيز بصورة أكبر على استهداف الأكراد سواء في الداخل التركي أو على الحدود التركية – السورية، أو التركية – العراقية، وذلك انطلاقًا من تكرار أردوغان خلال خطابه لمسألة ضرورة محاربة التنظيمات الإرهابية وتفعيل كل القنوات السياسية والدبلوماسية والأمنية لإبعاد خطر الإرهاب عن الحدود التركية، مُستنكرًا في معرض حديثه وعود المعارضة -في حال فوزها- بشأن إطلاق سراح السياسي الكردي صلاح الدين دمرطاش، واصفًا إياه بالإرهابي.

ويعتبر تركيز أردوغان على الجانب الأمني في أغلب خطاباته، من خلال التشديد على وجود خطر أمني دائم يواجه البلاد، وضرورة العمل على تأمين الحدود التركية الجنوبية من خطر الإرهاب، عاملاً أساسيًا في اكتساب الدعم الشعبي والقومي له، والتجاوز عن خسائر وأضرار بعض السياسات الداخلية، والخارجية التي ينتهجها تجاه الدول المجاورة كالعمليات العسكرية التي يتم شنها بصورة مستمرة في كل من سوريا والعراق، باعتبارها جهودًا لحماية الأمن القومي للبلاد من خطر الأكراد.

2- استمرار النموذج الاقتصادي الحالي: في ظل تأكيد أردوغان على استمرار النموذج الاقتصادي الحالي، من المُقرر وفقًا لخطابه الأخير أن تعمل تركيا خلال المرحلة القادمة على تسخير جهودها وطاقتها لتحسين الوضع الاقتصادي والمعيشي للبلاد، والانتقال إلى مرحلة الاقتصاد الإنتاجي لحل الأزمات الناجمة عن ارتفاع أسعار الفائدة، ومعدلات التضخم، فضلاً عن ارتفاع معدلات البطالة. إذ استشهد أردوغان في ذلك بقدرته على خفض سعر الفائدة إلى 4.9% والتضخم إلى 6% خلال عمله في رئاسة الوزراء، وأنه كذلك استطاع مؤخرًا خفض معدل الفائدة إلى 8.5%، ما يُبشر بأن مستويات التضخم ستنخفض خلال الفترة القادمة، مع التأكيد على عدم لجوء تركيا إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي كما كانت تطالب المعارضة منذ 10 سنوات.

3- مهاجمة الغرب في مقابل التقارب مع روسيا: على الرغم من عدم تطرق أردوغان بصورة مباشرة خلال خطابه إلى ترتيبات وتوجهات سياساته الخارجية خلال المرحلة القادمة، إلا أنه شدد على أنه لن يتم تجاهل التوظيف الغربي لأدواته السياسية والإعلامية في دعم المعارضة التركية خلال الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وما تم نشره في الصفحات الأولى للصحف الألمانية، والفرنسية، والبريطانية العالمية من صور، ومقالات، مناوئة ومُسيئة له خلال فترة الانتخابات. وفي مقابل ذلك، ذكر رسالة تهنئة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، له على انتصاره التي تضمنت وعدًا بأن تصبح منطقة “تراقيا” في تركيا مركزًا إقليميًا للطاقة في السوق العالمية.

أي أنه ليس من المُتوقع أن تشهد المرحلة القادمة تغيرًا -ملموسًا- في توجهات سياسة أردوغان الخارجية سواء تجاه معسكر الغرب أو تجاه روسيا، بل على الأرجح ستشهد ولاية أردوغان الجديدة استمرار تنامي العلاقات التركية – الروسية لاسيما على خلفية مشاريع الطاقة والغاز والاستثمارات الاقتصادية التي تجمع الجانبين في مواجهة أزمتي الطاقة والغذاء العالميتين، وهو الأمر الذي سيكون بمثابة تحدي جديد للمعسكر الغربي، خاصة في ظل دور تركيا كوسيط رئيسي في الحرب الروسية – الأوكرانية، وكونها لاعبًا أساسيًا في العديد من الملفات الإقليمية المُتشابكة مع قوى غربية، كملفي سوريا وليبيا.

4- خفوت ملف اللاجئين السوريين على الصعيد الداخلي: رغم أن ملف عودة اللاجئين السوريين كان من بين أهم الملفات وأكثرها حساسية بالنسبة لأردوغان خلال مرحلة الانتخابات، كونه أكثر الملفات توظيفًا من قِبل تحالف المعارضة، إلا أن أردوغان قد تعرض إليه سريعًا خلال القسم الأخير من خطابه في إشارة إلى أنه تم إعادة حوالي 600 ألف لاجئ سوري إلى المناطق الآمنة التي تم بنائها في شمال سوريا، وأنه من المُقرر وفقًا لاتفاق عُقد مع قطر، الحصول على دعم مالي لاستكمال مراحل المشروع السكني الجديد لتأمين عودة مليون لاجئي سوري إلى بلدهم.

فمن المُحتمل أن يشهد ملف اللاجئين خفوتًا -نسبيًا-  وأن تتراجع أهميته على الصعيد الداخلي، مقارنة بباقي الملفات الأخرى كملفي الاقتصاد والأمن، خاصة أن ملف اللاجئين والدعوة لتسريع وتيرة ترحيلهم كان يعتبر في الأساس ورقة سياسية يتم توظيفها من قِبل المُنافسين لكسب الأصوات خلال الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. وفي المقابل -على الأرجح- قد يتنامي استغلال هذا الملف على صعيد السياسة الخارجية التركية من قِبل أردوغان في إدارة التفاهمات التي تجري مع سوريا خلال المرحلة القادمة من المفاوضات.

ختامًا، يمكن القول إن المرحلة القادمة ستشهد حالة من التكييف والتأقلم الحتمي والضروري مع رجب طيب أردوغان كرئيس لدولة محورية ومؤثرة على المستويين الإقليمي والدولي، وذلك انطلاقًا من مبدأ الواقعية السياسية، خاصة أن أردوغان قد انتصر أمام العالم في انتخابات شعبية ديمقراطية شهدت نسبة مشاركة شعبية تعتبر من أعلى نسب المشاركة الانتخابية في العالم.