لغز تراجع الليرة التركية رغم تحسن مؤشرات الاقتصاد

لغز تراجع الليرة التركية رغم تحسن مؤشرات الاقتصاد

واصلت الليرة التركية تراجعها مقابل الدولار خلال الأيام الأخيرة، على الرغم من انتهاء موسم الانتخابات وفترة الغموض السياسي، وتشكيل حكومة جديدة، وقبلها تحسن مؤشرات الاقتصاد الكلية، والأهم تلبية البنوك كل احتياجات العملاء من النقد الأجنبي خاصة التجار والمستوردين، وعدم وجود سوق موازية للعملة.

وفقدت الليرة أمس الأربعاء أكثر من 7.4% من قيمتها، وهي نسبة كبيرة مقارنة بمؤشرات الاقتصاد التركي الإيجابية سواء تعلقت بزيادة معدل النمو وقفزة الصادرات والسياحة، أو التدفقات النقدية الأخرى، مع تراجع معدل التضخم وتحسن مؤشر الثقة والاكتشافات البترولية الأخيرة والبدء في استخراج الغاز وتزويد بيوت الأتراك به وبالمجان.

ومع التراجع المتواصل لسعر الليرة من الصعب حصر الأسباب في مبررين أساسيين يترددان منذ شهور، الأول يتعلق بما يسمى داخل بعض الدوائر شبه الرسمية بـ “سياسة الاستهداف والمؤامرات” الداخلية والخارجية على الدولة التركية وعملتها، والهجمة الشرسة من قبل المضاربين الدوليين وبنوك الاستثمار العالمية رفضاً لسياسة خفض سعر الفائدة، فهذا السبب كان من الممكن الاستماع إليه خلال الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة.

هناك مبرر آخر له وجاهته وهو محاولة أطراف خارجية دفع تركيا نحو الوقوع في مصيدة صندوق النقد والحصول على قروض من الدائنين الدوليين

والمبرر الثاني هو أن الحكومة التركية تتعمد خفض قيمة العملة بهدف جذب مزيد من الإيرادات الدولارية التي تجعلها في وضع مريح من حيث سداد أعباء الديون الخارجية وفاتورة الواردات.

وهناك مبرر آخر له وجاهته وهو محاولة أطراف خارجية دفع تركيا نحو الوقوع في مصيدة صندوق النقد الدولي والحصول على قروض من الدائنين الدوليين، وبالتالي دخول البلاد في دوامة الإجراءات التقشفية العنيفة وزيادة الأسعار وخفض الدعم.

لكن بشكل عام لا يمكن إرجاع سبب التهاوي في قيمة الليرة إلى شح النقد الأجنبي ونقص السيولة الدولارية في البنوك والأسواق وزيادة الطلب، فالبنك المركزي التركي يمتلك احتياطيات أجنبية تقدر بنحو 112 مليار دولار.

كما أن إيرادات تركيا من النقد الأجنبي تجاوزت 320 مليار دولار في العام 2022 منها 254 مليار دولار من الصادرات وحدها و46 ملياراً من السياحة بنسبة زيادة 53%.

علما بأن الطفرة الدولارية متواصلة خلال العام الجاري. فالصادرات تجاوزت قيمتها 101.7 مليار دولار خلال الشهور الخمسة الأولى من عام 2023، وزادت الشهر الماضي بنسبة 14.4% لتصل إلى 21.7 مليار دولار، مسجلة أفضل رقم في مايو/أيار على الإطلاق.

وعائدات السياحة في تركيا قفزت 32% في الربع الأول من العام الجاري، على الرغم من الزلازل المدمرة التي ضربت جنوب البلاد في فبراير الماضي.

يجب البحث عن أسباب منطقية لاستمرار تراجع الليرة، بعيدا عن قصة المؤامرة على الاقتصاد والحكومة، سواء من دول تناصب تركيا العداء أو مؤسسات مالية دولية

وبالتالي يجب البحث عن أسباب منطقية لاستمرار تراجع سعر الليرة، بعيدا عن قصة المؤامرة على الاقتصاد التركي والحكومة، سواء من قبل دول تناصب تركيا العداء بالفعل أو من قبل مؤسسات مالية دولية، وهنا يمكن أن نطرح عدة أسباب، فربما تفسر الموقف الحالي المربك على مستوى السياسة النقدية والمالية.

أول الأسباب هو تزايد مخاوف الأتراك من استمرار التضخم على مستواه العالي البالغ حاليا نحو 39% عقب زيادة الرواتب بنسبة 45% بدءاً من شهر يوليو/تموز المقبل، هنا قد تكون المضاربات زادت في سوق الصرف وحدث تدافع نحو شراء الدولار والذهب واليورو للمحافظة على المدخرات المحلية.

الثاني هو تعيين فريق اقتصادي جديد لتركيا بقيادة محمد شميشك وزير المالية والخزانة، ومن المتوقع أن تنضم للفريق حفيظة غاية أركان لتكون أول سيدة تشغل منصب محافظ البنك المركزي التركي، وهنا سيتم عزل المحافظ الحالي شهاب قافجي أوغلو الداعم لسياسة خفض الفائدة والمحافظة على معدل نمو مرتفع رغم التضخم.

هذا الفريق لم يكشف أوراقه كاملة بعد، ولم يختبر السوق مدى استقلاليته في اتخاذ قراراته بعيدا عن تدخلات الرئيس التركي، خاصة في ملف معالجة التضخم المرتفع وإدارة السياسة النقدية وتحديد اتجاهات سعر الفائدة، وهل هذا الفريق قادر على أن يفرض رأيه ويرفع سعر الفائدة، وهو ما يتناقض مع السياسة المطبقة من قبل، أو يحافظ على النموذج الاقتصادي غير التقليدي؟ وهل صحيح أن هذا الفريق يدعم بقوة سياسة السوق الحرة، وبالتالي اخضاع العملة لقوى العرض والطلب؟

ثالث الأسباب يتعلق بما تردد في الأسواق أمس عن تخلي البنك المركزي التركي عن السياسة المطبقة منذ فترة والتي كانت تميل إلى الدفاع عن الليرة وكبح المضاربات عليها عبر ضخ سيولة دولارية من الاحتياطي الأجنبي، وهنا يترقب السوق أي إشارات في هذا الشأن وسط زيادة في الطلب على الدولار.

من المتوقع أن تواصل الليرة تراجعها إلى حين الكشف عن توجه البنك المركزي والمجموعة الاقتصادية بشأن معالجة الأزمات ومنها الغلاء وتآكل العملة

رابع هذه الاعتبارات التي لا يجب اغفالها تأتي من الخارج حيث تتوقع الأسواق زيادات أخرى في سعر الفائدة على الدولار من قبل البنك المركزي الأميركي، وهو ما يضغط على عملات كل الأسواق الناشئة خاصة للدول ذات المديونيات العالية.

كما تتوقع الأسواق العالمية بقاء أسعار النفط على مستوياتها المرتفعة عقب قرار تحالف “أوبك+” الأخير، وهو ما يعني بقاء فاتورة تركيا من الوقود على حالها.

في ظل هذه الاعتبارات وغيرها، من المتوقع أن تواصل الليرة تراجعها إلى حين الكشف عن توجه البنك المركزي والمجموعة الاقتصادية بشأن معالجة أبرز الأزمات ومنها غلاء الأسعار وتآكل العملة وزيادة كلفة المعيشة، وكيفية الحفاظ على مستوى معيشة مقبول في ظل تضخم مرتفع، وأي النماذج الاقتصادية ستفضل تركيا في المرحلة المقبلة؟

العربي الحديد