يبدو من تشكيلة الحكومة التركية الجديدة التي أعلنها الرئيس رجب طيب أردوغان أن مسألتي الأمن والدفاع تحوزان على اهتمام خاص. ويبعث تعيين قائد جهاز الاستخبارات الوطنية حقّان فيدان وزيرا للخارجية رسالة صريحة مفادها أن دبلوماسية أنقرة في المرحلة المقبلة تأخذ على عاتقها مهام إضافية تحدّدها تطلعات الرئيس التركي إلى أن تلعب بلاده أدوارا أساسية في الإقليم، وعلى مستوى العالم، وهي تتمثّل في تعزيز موقع تركيا من خلال البناء على ما تحقّق في ولايته الرئاسية السابقة، وخصوصا في الملفّات التي تخصّ كلا من سورية والعراق وليبيا وأذربيجان وقبرص، والغاز في حوض المتوسّط، والحرب على أوكرانيا والعلاقات مع روسيا والولايات المتحدة وأوروبا وحلف شمال الأطلسي. ومن المرجّح أن تعمل السياسة الخارجية الجديدة على تحقيق نقلة مهمة باتجاه إنهاء مخلفّات سياسة عزل تركيا، وتحجيم حضورها إقليميا ودوليا. وهذا لا يعني بالضرورة فتح جبهاتٍ جديدة، بل إدارة النزاعات والتحالفات من موقع أقوى، ما يدعو إلى تنويع الوسائل والأساليب وتوظيف الإمكانات على نحو أكثر جدوى ومردوديةً وديمومة، بما يتجاوز سلبيات المرحلة الماضية.
لم يبعث فوز أردوغان بولاية رئاسية جديدة الارتياح في أوساط إقليمية ودولية، وخصوصا التي راهن عديد منها على خسارته، ونجاح منافسه كمال كلجدار أوغلو، الذي يتبنّى سياسات مختلفة حيال الملفات الخارجية محل التنازع والاختلاف. وأردوغان على وعي تام وإدراك لهذه المعادلة. ولذلك مارس عملية تبريد للأجواء المحيطة بتركيا في العام الأخير لأسبابٍ مختلفة بعضها انتخابي، فقام بمناورة كبيرة من خلال إجراء سلسلةٍ من المصالحات مع كل من السعودية والإمارات وإسرائيل ومصر، وقطع شوطا على مستوى تطبيع العلاقات مع النظام السوري، كما جمّد عوامل التوتر مع اليونان. ومن غير المتوقّع أن يتراجع عن هذا الطريق، ولكن التقديرات تفيد بأنه سيعمل على تحسين شروطه من خلال العودة إلى سياسة الهجوم، التي اتّسم بها عهدُه منذ الانقلاب عليه عام 2016، وسيعمل على ترجمة ما يملكه من أوراق قوّة على نحو أكثر جدوى، وخصوصا في كل من سورية وليبيا، اللتين يبدو أن الحل فيهما مستحيل من دون دور تركي مباشر، وذلك نظرا إلى ثقل تركيا العسكري والأمني على الأرض، والتأييد من قوى محلية في البلدين.
يقف في وجه توسيع مدى الدور التركي كل من إيران والولايات المتحدة وأوروبا، في حين أن تحالفه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من المرجّح أن يقوى أكثر، لكن ترجمته على مستوى موازين القوى يعتمد على وضع بوتين في حسابات نتائج حرب أوكرانيا التي تبدو كارثية، إلا أن ذلك لن يشكّل عاملا حاسما في تمدّد السياسة الخارجية التركية التي تمتلك من أوراق القوة الخاصة بها ما يمكنها من مكانة أفضل مما هي عليه اليوم. وفي الأحوال كافة، لن يتغير الموقف السلبي من أردوغان، حتى لو طبَع علاقاته مع ألدّ الأعداء، فالمسألة ليست شخصيةً كما يجري تصويرها في الإعلام الغربي، بل لأن تركيا قوية ذات دور إقليمي فاعل ومؤثّر في سياسات الإقليم، تمثل خطرا على المصالح الدولية في المنطقة. وبالتالي، التحدّيات أمام أنقرة كبيرة، ولكن الفرص أيضا غير محدودة ضمن منطقةٍ تعاني من فراغ سياسي كبير، وتراجع دور القوى المحلية، كما هو عليه الحال في العالم العربي، الذي يعيش حروبا داخلية في ظل حكوماتٍ عاجزة عن تقديم مشروع عربي. ومن هنا تكتسي مراجعة السياسة التركية تجاه العالم العربي أهمية خاصة، بالنظر إلى القواسم والمصالح المشتركة والتحدّيات الكثيرة.
العربي الجديد