ناقش كتاب “حرب بوتين على أوكرانيا: الحملة الروسية من أجل ثورة مضادة شاملة” لمؤلِّفه صامويل راماني (Samuel Ramani)، جذور وأسباب الحرب الروسية في أوكرانيا، ويرصد يوميات ومنعرجات هذه الحرب. ويرسم الكتاب صورة شاملة للعلاقات الدبلوماسية لروسيا عبر العالم على ضوء المساعي الغربية لحصار موسكو، ومساعي الروس لتنويع شراكاتهم التجارية ومد جسور الصداقة مع القوى الدولية غير الغربية ومع بلدان أميركا اللاتينية وإفريقيا.
صدر الكتاب في منتصف أبريل/نيسان الماضي (2023) عن منشورات “هيرست بابلشرز” (Hurst Publishers) البريطانية المتخصصة في إصدار الدراسات الإستراتيجية ودراسات الحروب والصراعات.
وراماني أستاذ للعلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة أوكسفورد وباحث بالمعهد الملكي للخدمات الموحدة البريطاني، وهو أحد أبرز الوجوه الأكاديمية البريطانية التي تقدم منذ بدء هذه الحرب قراءات في مساراتها، وانعكاساتها على أبرز وسائل الإعلام العالمية، مثل الجزيرة الإنكليزية وCNN وBBC وواشنطن بوست وفورين بوليسي.
تنبع أهمية كتاب راماني عن حرب أوكرانيا من مزاوجته بين نقاش جذور الصراع والمسار الذي أفضى إليه منذ نهايات 2013، ورصد يوميات الحرب وأصدائها وتبعاتها حتى بدايات 2023 داخل روسيا وفي دوائر الحكم الغربية (نحو 700 إحالة على تصريحات ومقالات لمسؤولين ومحللين روس وأوكران وغربيين وأخبار وتحليلات عن سير المعارك)، مع قراءة في انعكاسات العقوبات الاقتصادية على تطور مواقف موسكو. كما يولي مكانة خاصة لطموحات موسكو الرامية إلى تأكيد نفوذها في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي، وحلحلة طغيان أحادية القطب الأميركية-الغربية، وتجاوب القوى الدولية والقوى الصاعدة وبلدان الجنوب مع هذه الطموحات.
انتقامًا من الثورات ورفضًا للقيم الليبرالية الغربية
يفتتح الكتاب بنقاش الفرضيات المتداولة في الإعلام ومراكز الدراسات الغربية بشأن دوافع بوتين لشن هجوم واسع النطاق في أوكرانيا مثل القلق الأمني الناجم عن توسع حلف النيتو واحتمال انضمام أوكرانيا له والمناورات الأوكرانية الأميركية في مياه البحر الأسود 2021، بالإضافة إلى المخاوف المتعلقة بالوضع الداخلي في روسيا وسواها. ويناقش مبررات موسكو للحرب لاسيما طلب جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الدعم العسكري في وجه “العدوان” الأوكراني. ينأى الكتاب عن هذه القراءات، ليقترح مبررًا يراه أكثر تجذرًا في الشرعية السياسية لروسيا وأصدق تعبيرًا عن هويتها الجديدة. يتعلق الأمر، وفق الكتاب، بإعلان روسيا، انطلاقًا من العقيدة التي أرسى بوتين دعائمها، عن هويتها كقوة كونية تكافح ضد انتشار النموذج الليبرالي الذي تبشر به الولايات المتحدة، وتتصدى لما يفرزه من ثورات في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي. وهي هوية يرى أنها تأسست على قطيعة بوتين مع تيارات ليبرالية ووأده رؤى بشأن طبيعة الحكم ومحددات الوطنية وثبات الحدود الجغرافية عاشت على وقع تناقضاتها روسيا ما بعد تشظي الاتحاد السوفيتي(1).
ويعود الكتاب بحثًا عن جينيالوجيا رفض الثورات في الممارسة السياسية لروسيا إلى أيام القياصرة وحتى عصر الاتحاد السوفيتي (التصدي للثورات العمالية في ألمانيا الشرقية وسحق ربيع براغ). كما يتتبع سعي موسكو إلى إبقاء كييف تدور في فلكها بأدوات اقتصادية مثل صفقات الغاز بأسعار تفضيلية. وهي الصفقات التي أسهمت في خلق أوليغارشية أوكرانية كان دورها حاسمًا في صعود سياسيين موالين لموسكو من بينهم الرئيس الأسبق، فيكتور يانوكوفيتش.
غروب شمس روسيا من “ميدان” كييف وصعودها في القرم ودونباس
لم يتردد بوتين إثر مغادرة حليفه، يانوكوفيتش، كييف، نهاية فبراير/شباط 2014، تحت ضغط المظاهرات المطالبة بتعزيز الروابط مع الاتحاد الأوروبي، في بدء إجراءات تصعيدية دشنها بالاستيلاء على شبه جزيرة القرم، مبررًا ذلك بحماية الناطقين بالروسية. يصف الكاتب هذه الخطوة بالضربة الإعلامية والأيديولوجية التي لقيت ترحيبًا داخل روسيا حتى من أشرس معارضي بوتين. وشهرين بعد ذلك، استولى موالون لموسكو على مبنى للقوات الأمنية في مقاطعة دونيتسك، وفي اليوم الموالي تكرر الحدث في لوغانسك، ثم أجرى هؤلاء الموالون لموسكو استفتاءين في هاتين المقاطعتين اللتين تضمان ناطقين باللغة الروسية، أكدا الحكم الذاتي فيهما.
ولتوطيد هذا الواقع الجديد، عملت موسكو على تعزيز نفوذها في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي، لاسيما في بيلاروسيا وأذربيجان وأرمينيا. وبالتزامن مع ذلك، بدأت في تطوير منظوماتها الدفاعية وعصرنتها، إذ رفعت إنفاقها العسكري من 2.3% من إنتاجها العام إلى 4.3 خلال السنوات الثلاث الأولى من العهدة الثالثة لبوتين. وكان إحياء قاعدة دونزلاف البحرية في القرم على البحر الأسود وإنشاء جهاز قوات الفضاء الروسية نموذجين بارزين على هذه الجهود.
لم تشف العقوبات التي فرضتها الدول الغربية على روسيا غليل حاكم كييف الجديد، بيترو بوروشينكو، كما ظلت لجنة العلاقات الخارجية الروسية حتى سنة 2015 منقسمة بشأن مسافة الابتعاد من الغرب، رغم الآثار التي خلَّفتها عقوباته على الاقتصاد الروسي (26.7 مليار دولار سنة 2014، وفق نائب رئيس مجلس الأمن القومي، ديمتري ميدفيديف). وقد حاولت موسكو أن تخفف من تبعات المواقف الرسمية في العواصم الغربية عبر تعزيز أواصرها مع نخب وحركات سياسية من أقصى اليمين واليسار، كما يشي بذلك حصول مارين لوبان، زعيمة التجمع الوطني اليميني المتطرف في فرنسا، على قرض من أحد البنوك في موسكو، وفق تصريحها نهاية 2014، ودعم حزب البديل من أجل ألمانيا Alternative für Deutschland لضم روسيا القرم، وعلاقة حزب سيريزا اليوناني مع منظِّر السياسات الخارجية لبوتين، ألكسندر دوغين.
وللتخفيف من تبعات العقوبات الغربية، عززت موسكو علاقاتها مع قوى دولية غير غربية مثل الصين والهند. وكان تجسيدًا لهذا التحول، الاتفاق الذي عقد سنة 2014 ولمدة ثلاثين عامًا، بين غاز بروم الروسية ومؤسسة النفط الوطنية الصينية على مد أنابيب الغاز من سيبيريا بقيمة 400 مليار. ولم يقتصر التعاون بين البلدين على المجال الاقتصادي، بل عقدت شبكة “آر تي” الإعلامية الروسية اتفاقًا للتبادل مع وكالة “شينخوا” الصينية للأنباء مكَّن موسكو وبيجين من توحيد خطابهما الإعلامي بشأن الدعوة إلى عالم متعدد الأقطاب، ومواجهة الانتقادات التي تتعرض لها سياسات البلدين في وسائل الإعلام الغربية.
وإذا كان التدخل الروسي في سوريا قد أعاق حينها تطوير علاقات موسكو مع بلدان شرق أوسطية محورية مثل تركيا والعربية السعودية، فإنها استطاعت في خضم ارتدادات ضم القرم أن تجد موطئ قدم لها في إفريقيا وأميركا اللاتينية، كما كانت الحال مع سودان عمر البشير و زمبابوي روبرت موغابي، وفي فنزويلا وبوليفيا وكوبا.
بروتوكول مينسك اتفاقيات لم تعد السيف الروسي لغمده
ستسهم اتفاقيات مينسك-اثنين التي وقَّعها الطرفان، الروسي والأوكراني، في بيلاروسيا، بدايات 2015 في تحقيق ما يصفه الكتاب بـ”تجميد الصراع” على مدى خمس سنوات. وفي الأيام الأخيرة من حكم بيترو بوروشينكو سيطفو على السطح موقف كييف الرافض لسلوك الكنيسة الروسية الأرثوذكسية في أوكرانيا، وتندلع أزمة بحر آزوف. وسيسعى الرئيس الجديد لأوكرانيا حينها، فولودومير زيلينسكي، إلى تحقيق حل سلمي للصراع في إقليم دونباس، كما يقول الكتاب، مع اتخاذ خطوات متسارعة في الآن ذاته في اتجاه توطيد التعاون الأمني مع الغرب وسحق من يصفهم بعملاء روسيا في أوكرانيا. ورغم توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار، فإن التصعيد طبع الفترة التي أعقبت صعود زيلينسكي إلى سدة الحكم، مع منح روسيا جوازات سفر لأكثر من 200 ألف منحدر من دونباس، وحثِّ زيلينسكي الخطى الرامية إلى تمهيد الطريق أمام بلاده للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف النيتو من خلال تعديل دستوري، وتضييقه الخناق على المناهضين لهذا التوجه.
وقد كان نجاح التدخل الروسي في بيلاروسيا الداعم لألكسندر لوكاشينكو، والتدهور الحاد في علاقات موسكو بالغرب، وسعي الرئيس الأميركي، جو بايدن، لتوحيد صف الدول الغربية، والقبضة الحديدية لبوتين على شؤون روسيا الداخلية، من الأسباب التي خلقت ظروفًا مناسبة لشن هذه الحرب. كما كانت مناورات الدفاع الروسية على الحدود الأوكرانية وفي البحر الأسود 2021 التي احتفظت بعدها روسيا بحضور عسكري كبير على الحدود، وفق السردية الأوكرانية، خطوة تصعيدية في هذا الاتجاه. وتزامن هذا مع تصعيد في التصريحات الروسية بشأن الروابط التاريخية بين الروس والأوكران بلغ ذروته مع مقال لبوتين وآخر لنائبه في مجلس الأمن القومي، ديمتري ميدفيديف. ومع نهاية 2021 وبداية 2022 كثفت موسكو من استعداداتها العسكرية على الحدود الأوكرانية، لتعترف في الثاني والعشرين من فبراير بجمهوريتي دونباس (لوغانسك ودنيتسك)، وتوقع معهما معاهدة صداقة وتعاون، ثم تبدأ ما سمته بالعملية العسكرية الخاصة بعد ذلك بيومين.
“العملية العسكرية الخاصة” والعقوبات الغربية
يناقش الكتاب في الفصل الرابع مسار الحرب والشعارات التي رفعتها موسكو لتبريرها، وفي مقدمتها نزع سلاح أوكرانيا، من خلال تدمير البنية العسكرية لكييف، والقضاء على مخزونها من الأسلحة الغربية، وتحييد قدراتها البيولوجية والكيميائية المحتملة، لإحباط مشاريعها المشتركة مع واشنطن لشن حرب بيولوجية، كما تقول موسكو. ويرى الكاتب أن الدول الغربية واصلت تقديم الأسلحة لكييف رغم تصعيد بوتين للهجته التهديدية وإصداره أمرًا بوضع قوات نووية إستراتيجية قيد الوضع الخاص للقتال. أما بشأن تطوير الأسلحة الكيمائية، فيسوق تفنيد الأمم المتحدة والولايات المتحدة لها، ويقر رغم ذلك بما كان لها من دور في تجييش المشاعر المناهضة للغرب في روسيا. أما الشعار الآخر الأبرز من بين الشعارات الروسية، فقد كان استئصال النازية من أوكرانيا وهو الشعار الذي أسال الكثير من حبر المنظِّرين الروس للحرب في أوكرانيا وطغى على تصريحات المسؤولين في موسكو، وكان محاولة روسية، وفق الكاتب، للربط بين هذه الحرب والحرب العالمية الثانية.
يقول الكتاب: إن موسكو مُنيت بضربات إستراتيجية رغم تحقيقها انتصارات تكتيكية في هذه الحرب، ويعيد ذلك إلى عجز سلاحها الجوي عن فرض سيطرة مطلقة في الأجواء الأوكرانية، وإلى التراتبية الجامدة للجيش الروسي ومحدودية أداء الكتائب القتالية المساعدة (فاغنر وقوات قاديروف الشيشانية وميليشيات جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك)، وإلى تقديرها الخاطئ لما سيحظى به تدخلها من قبول في أوكرانيا. وكانت موسكو، كما يَـسوق الكتاب، تسعى في بداية حربها إلى تطويق العاصمة، كييف، وخلق أجواء مناسبة لتنصيب شخصية موالية لها رئيسًا للبلاد. أما في المناطق الجنوبية والشرقية، فقد استطاعت روسيا التقدم على محور خيرسون، بعد سيطرتها على جزيرة الثعبان، لتستولي على ميلوتوبل، وفي الناحية الشرقية بسطت سلطانها على مساحات واسعة من جمهورية دونيتسك وعلى كامل جمهورية لوغانسك الشعبية باستثناء سفردونيتسك وليستشانسك.
تجاهلت الدول الغربية مخاوف مثل تلك التي أبداها المستشار الألماني، أولاف شولتس، إزاء إمدادات الطاقة إلى أوروبا، وبدأت في فرض عقوبات اقتصادية يصفها الكتاب بالموجعة للاقتصاد الروسي. فبحلول مارس/آذار 2022، كان نحو مليار من الأصول الروسية قد جُـمِّد. ويرى الكاتب أن رفض بوتين تبني الدعوات الانعزالية المطالبة بتجميد أموال الشركات الغربية في روسيا وتمديده لإلفيرا نابيولينا ذات التوجه الليبرالي محافظةً للبنك المركزي أسهم في حصر انكماش الاقتصاد الروسي في حدود 3%، سنة 2022، بعد أن كانت بعض التوقعات (المعهد الدولي للمالية International Institute for Finance) قد قدرت أن يصل إلى 15%.
وبقوة طغت السردية الوطنية في روسيا بالتوازي مع التضييق المتصاعد على الخطاب المناهض للحرب، وتجلى ذلك في الحديث المتصاعد عن “طابور خامس” وعن استخدام الرمز “Z” على الآليات العسكرية وحظر منصتي تويتر وميتا. وبدا وكأن دوائر الحكم المحيطة ببوتين ظلت متماسكة في دعم الحرب، فباستثناء انشقاق مبعوث روسيا بشأن تغير المناخ، لم تسجل استقالة مسؤول سام احتجاجًا على هذه الحرب. ومع تمادي روسيا وأوكرانيا ومن خلفها الدول الغربية في تصعيد مستويات النزاع، برز الدور التركي وتعاظم، لتستضيف إسطنبول، في نهاية مارس/آذار، مفاوضات كانت الأهم منذ بدء الحرب، ورغم فشل العراب التركي في وقف الحرب، فقد نجح في فتح ممرات إنسانية.
حرب روسيا الصيفية: “انتصارات صغرى”
كانت سيطرة الروس خلال الصيف على ليستشانسك ثاني أكبر مدنية في جمهورية لوغانسك، كما يورد الكتاب، انتصارًا باهظ الثمن. أما في دونيتسك، فقد سجلت روسيا، باستيلائها على مدينة سفر-دونيتسك، ثاني أهم إنجاز لها في الحرب بعد الاستيلاء على ماريوبول. ويعرِّج الكتاب على ما يصفها بجرائم حرب، كما حدث في نهاية يوليو/تموز في أولينيفكا حيث أعدمت أكثر من خمسين جنديًّا معتقلًا من كتيبة آزوف الأوكرانية، وادعت سلطات دونيتسك الموالية لموسكو أن الأوكرانيين هم من قتلوهم لإخراسهم عن تقديم شهاداتهم بالأوامر التي تلقوها من كييف.
ومع تدفق السلاح الغربي (أنظمة الدفاع المضادة لسلاح الجو الأميركية ومضادات الدبابات البريطانية والمدافع والصواريخ)، بدأت أوكرانيا هجومًا مضادًّا مكَّنها من استعادة جزيرة الثعبان وبسط سيطرتها من جديد على نحو 15% من مقاطعة خيرسون التي يرى المؤلف أن سكانها قاوموا إجراءات موسكو الرامية إلى دمجهم في الفضاء الروسي (اعتماد الروبل وفرض حمل جواز السفر وإذن العمل الروسيين للتقدم للوظائف).
قمح ونووي وغاز
ينسجم الكتاب مع الرأي الغربي القائل: إن موسكو استخدمت الحبوب سلاحًا في حربها في أوكرانيا ووضعت العالم على شفا مجاعة جرَّاء استهدافها لموانئ تصدير الحبوب الأوكرانية، لاسيما ميناء أوديسا، قبل توقيع صفقة الحبوب بوساطة تركية وإشراف أممي في الثاني والعشرين من يوليو/تموز 2022. ويسوق، نقلًا عن مصادر صحفية غربية، مثل بلومبيرغ، أن موسكو استولت على محصول خيرسون من الحبوب، لتصدِّره عبر شبه جزيرة القرم التي شهد إنتاجها من القمح زيادة تجاوزت 100% بين عامي 2021 و2022. وفي لحظة أخرى فارقة من لحظات الصراع، شهد محيط المحطة النووية في زابوروجيا التي سيطرت عليها روسيا، مطلع مارس/آذار 2022، مواجهات تبادل الطرفان الاتهامات بشأنها، وبلغت ذروتها مع تضرر إمدادات الطاقة ونظام التحكم في الإشعاع، أغسطس/آب الموالي، قبل الاتفاق على زيارة وفد من الوكالة الدولية للطاقة الذرية للمحطة.
وفي منتصف العام (2022)، خفضت روسيا ضخها للغاز عبر خط “نورد ستريم” إلى 20% من سعته، وبررت ذلك برفض كندا إعادة توربين كان قيد الصيانة لديها؛ وهو الإجراء الذي لم تستسغه الدول الأوروبية؛ إذ كان التوربين خارج لائحة العقوبات الغربية على موسكو، كما يورد الكتاب. وتصاعدت إجراءات الدول الغربية ضد موسكو، فبدأت خفض اعتمادها على الغاز الروسي، ووضعت مجموعة السبع سقفًا أعلى لسعر النفط الروسي في السوق الدولية، ما حدا بموسكو إلى وقف تصدير الغاز عبر خط “نورد ستريم، في سبتمبر/أيلول 2022.
وفي صيف 2022، تعززت قدرات كييف، كما يسرد الكتاب، على إصابة أهداف على الحدود مع روسيا، كما حدث في مقاطعة كورسك الروسية.
هجوم أوكراني مضاد مقابل تعبئة روسية
في نهاية سبتمبر/أيلول 2022، بدأت أوكرانيا هجومًا مضادًّا في جبهة خيرسون، فاسترجعت بعض ما خسرت خلال بدء الهجوم الروسي في مناطق في الجنوب، واستعادت مقاطعة خاركيف في الشرق. وقد ظل بوتين حذرًا في إعلان تعبئة عسكرية عامة، رغم مطالبة أصوات من بينها الرئيس الشيشاني رمضان قاديروف بذلك. واكتفى المسؤولون الروس بتعبئة جزئية لقيت بعض الرفض ونجم عنها خروج أعداد كبيرة من الشبان المستهدفين بالتجنيد للقتال في صفوف القوات المسلحة الروسية إلى بلدان أجنبية، لتمكِّن موسكو لشركات خاصة، من أبرزها فاغنر، وتفتح أمامها السجون لتجنيد مقاتلين في صفوفها من بين المدانين في السجون الروسية. وفي سبتمبر/أيلول، أعلن بوتين ضم المناطق الأربع التي سيطر عليها أو على بعضها في شرق وجنوب أوكرانيا (لوغانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون) بعد استفتاء أشرفت عليه موسكو.
وقد أثارت خسارة موسكو السيطرة على مناطق من بينها بلدة ليمان في دونيتسك والهجوم الأوكراني على مضيق كيرش في القرم موجة نقد لمسار الحرب دفعت موسكو إلى تصعيد ضرباتها لتشمل كييف، بداية أكتوبر/تشرين الأول 2022. لاحقًا، ستنسحب روسيا من خيرسون ما وراء نهر دنيبر، في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، ويتجمد خط الجبهة بين الطرفين. وبالتوازي مع ذلك، صعَّدت روسيا من تصريحاتها ملوحة بالردع النووي إذا هُـددت الأراضي الروسية.
عزلة روسيا عن الغرب وفضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي
سعت الدول الغربية إلى تقليم أظافر روسيا وأدوات تأثيرها دون هوادة، فضغطت على كبار الشخصيات السياسية لفك ارتباطها بالشركات والمؤسسات الروسية، كما جرى مع المستشار الألماني ورئيس الوزراء الفرنسي الأسبقين، غيرهارد شرودر وفرانسوا فييُّـون. ومع فقدان موسكو لهذه الأصول الدبلوماسية، أصبح تأثيرها محصورًا في حركات من أقصى اليمين وأقصى اليسار، مع بعض المواقف المتحفظة على العقوبات الغربية ضد روسيا في إيطاليا وهنغاريا واليونان. وفي شمال أوروبا حذرت روسيا من طموحات فنلندا والسويد الانضمام إلى حلف النيتو، وتبعات ذلك على الاستقرار في المنطقة(2).
وفي منطقة البحر الأسود حيث وسعت روسيا حضورها بضمها للقرم سنة 2014، ظلت العقوبات الأوروبية على موسكو تواجَه بعض التحفظ. ويُرجع الكتاب ذلك في بلغاريا إلى المشاعر الودية للبلغاريين تجاه روسيا ذات الدور التاريخي في إزاحة هيمنة العثمانيين عن البلد، وإلى دوافع اقتصادية أيضًا. وعلى العكس من ذلك، كانت مواقف رومانيا التي سمحت للولايات المتحدة بنشر قوات محمولة جوية على أراضيها. أما مولدافيا فقد نأت بنفسها عن دعم العقوبات على روسيا، وكانت موسكو حاسمة في رفض أي انخراط للنيتو في خاصرة مولدافيا الرخوة (ترانسنيسترا Transnistria) ذات الاستقلال المعلن من جانب واحد، والتي يقطنها ناطقون باللغة الروسية. وفي جورجيا، حيث تعترف موسكو باستقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في شمال البلاد، شهد الموقف مع استمرار الحرب في أوكرانيا بعض الانزياح إلى صف الدول الغربية. وفي غرب البلقان، يرصد الكتاب “مساعي روسية هادفة لزعزعة الاستقرار” في تلك المنطقة مستغلة الأزمات الحدودية والعرقية، والانسجام بين موسكو وبلغراد والتعاون الأمني بينهما، والمشاعر الودية التي تحتفظ بها نخب سياسية وإعلامية صربية لروسيا، وتداعيات تدخل النيتو أثناء تفكك يوغسلافيا.
أما بيلاروسيا، فيصفها الكاتب بأنها “شريك في الحرب يلجم نفسه تفاديًا للعقوبات الغربية”، ويدعو لعدم حشر موسكو في الزاوية تفاديًا لكارثة نووية. وفي جنوب القوقاز وآسيا الوسطى، تبنَّت أرمينيا الحياد مع غموض في الموقف من الحرب التبس به موقف أذربيجان كذلك، واكتفت كازاخستان بتقديم دعم إنساني لأوكرانيا.
إذ تُولِّي روسيا وجهها شطر الشرق
كانت تصريحات المسؤولين الصينيين بشأن مسؤولية الولايات المتحدة عن التصعيد في أوكرانيا ورفضهم وصف حرب روسيا في أوكرانيا بالغزو وتضامن بيجين مع موسكو في وجه العقوبات الغربية، والزيادة في التبادلات التجارية بين موسكو وبيجين بنسبة تجاوزت 132.3% خلال الشهور الثمانية الأولى من 2022 دليلًا على جنوح البلدين إلى الاعتماد على بعضهما البعض. ويجسد اتفاقا التعاون بين شركة غاز بروم الروسية وشركة النفط الوطنية الصينية، وبين مؤسستي “آر تي” و”شينخوا” الإعلاميتين، هذا التقارب المطرد بين البلدين. وكانت مناورات “فوستك” العسكرية المشتركة في أغسطس/آب 2022 حدثًا غير مسبوق. ورغم كل هذا، يشير الكاتب إلى حذر بيجين من الاصطفاف التام مع موسكو، فالصين ظلت دائمًا ترغب في تقديم نفسها صوتًا يدعو إلى التهدئة ووسيطًا محتملًا بين طرفي الحرب(3). أما الهند التي تبنَّت الحياد، فيفسر الكتاب موقفها بجذور تاريخية تعود للحقبة السوفيتية، ودعم موسكو حينها مطالب نيودلهي في جامو وكشمير، فضلًا عن التعاون الاقتصادي، واعتماد الهند على موسكو في تطوير منظومة أسلحتها، لاسيما المنظومات الدفاعية المضادة لسلاح الجو. وقد نجحت موسكو في جذب بيجين ونيودلهي إلى الاقتراب أكثر من مواقفها، رغم ما يطبع العلاقات الصينية-الهندية البينية من توتر جرَّاء نزاعهما الحدودي.
أما طهران، فتصدح بالخطاب الروسي الرافض لتمدد النيتو ذاته، وبتبعاته على أمن منطقة أوراسيا. ويعزز اكتواء كلا البلدين بالعقوبات الأميركية من توسع التعاون بينهما على عدة مستويات، لاسيما على المستوى العسكري. وينقل الكتاب عن صحف غربية مد إيران لروسيا بمعدات عسكرية من بينها مضادات للدبابات وصواريخ، فضلًا عن مسيرات شاهد.
وبالنسبة لقوى الدرجة الثانية في جنوب آسيا وجنوب شرقها، وسَّعت موسكو من شراكاتها وأحرزت بعض التقدم؛ وذاك ما تجلى في موقف باكستان التي كان رئيس وزرائها المطاح، عمران خان، أكثر انسجامًا مع بوتين، على عكس قائد جيشها، قمر جافيد بجوا، الذي دان حرب روسيا على أوكرانيا. ويبدو موقف بنغلاديش أكثر معاضدة لموسكو، إذ رأت في العقوبات الغربية، وتبعاتها على الأمن الغذائي العالمي انتهاكًا لحقوق الإنسان، كما وسَّعت موسكو شراكاتها مع فيتنام وتايلاند وإندونيسيا وماليزيا. وقوَّت روسيا من شراكاتها مع دول تعاني عزلة على المستوى الدولي مثل كوريا الشمالية التي اعترفت بضم روسيا لجمهوريتي دونباس، كما دافعت ميانمار عن حرب الحرب في أوكرانيا. ورغم أن موسكو لم تعترف بحكم طالبان في أفغانستان، فإن التعاون بين البلدين مرشح للنماء مع اعتماد روسيا سفيرًا للإمارة الإسلامية.
وفي منطقة المحيطين، الهندي والهادي، تزامن رفض حلفاء واشنطن التقليديين لحرب روسيا في اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، مع عودة النزاع بين طوكيو وموسكو بشأن جزيرة كوريل للواجهة. أما أكثر المواقف راديكالية تجاه موسكو، فكان في أستراليا التي لم تكتف بالعقوبات التجارية واستهداف الأوليغارشيا الروسية، بل زوَّدت أوكرانيا بالسلاح. وهي مواقف يرى الكاتب أنها أجهضت أحلام موسكو في التوسع في منطقة عُرفت بعلاقاتها الوثيقة مع واشنطن.
التأثير المرن لروسيا جنوبًا
تمكنت تركيا من الاضطلاع بدور محوري في الصراع الأوكراني جرَّاء تبنيها موقفًا رافضًا للحرب وداعمًا لوحدة أراضي أوكرانيا وإبدائها قلقًا تجاه وضع التتار ذوي الأصول التركية في القرم، ورفضها في الآن ذاته فرض عقوبات على موسكو أو قطع جسور التواصل معها. راوحت تركيا بين تقديم الدعم الإنساني والعسكري لأوكرانيا، بما في ذلك تقديم مسيرات بيرقدار واستقبال رافضي الحرب ومنتقديها، وبين تعزيز التبادلات التجارية مع روسيا. ويعرض الكتاب تهم أوكرانيا لأنقرة بالمساهمة في تهريب الحبوب من أوكرانيا ويخلص إلى أن “عناد” أنقرة سيمكِّنها من مواصلة تخفيف أثر العقوبات الغربية على روسيا ويجعل منها قناة خلفية للتواصل بين أطراف الصراع.
وقد رفضت إسرائيل فرض عقوبات على روسيا، في محاولة للحفاظ على التنسيق الأمني القائم بين البلدين في سوريا، ولم تخل العلاقة من تراشق إعلامي تجسد في تصريحات سيرغي لافروف عن الأصول اليهودية لهتلر، مقارنًا إياه بزيلينسكي، وخطاب ناقد للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين في دوائر الحكم الروسية إثر تصويت إسرائيل على طرد روسيا من لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.
أما في العالم العربي، فقد جاء موقف سوريا، وفق التوقعات، داعمًا لروسيا في حربها دون مواربة، وقد شهد نشاط روسيا الحربي في سوريا تراجعًا كبيرًا تجلى في انخفاض ضرباتها العسكرية في الصحراء السورية وتراجع حصيلة القتلى الناجمة عن أعمالها العسكرية إلى أدنى مستوى لها منذ 2015.
ورغم الشراكات العسكرية الوثيقة التي تربط دول الخليج بواشنطن، فقد اتسم موقفها من الحرب في أوكرانيا بالحذر والابتعاد عن الاصطفاف التام مع الدول الغربية؛ وذاك ما انعكس في المحادثات الروسية-الإماراتية، في فبراير/شباط من العام الماضي (2022)، وحضور الطرفين، الروسي والأوكراني، في معرض الرياض للدفاع، تعبيرًا عن حياد الرياض واهتمامها بالاضطلاع بدور وسيط في هذه الحرب. يفسر الكاتب موقف دول مجلس التعاون الخليجي بلامبالاة هذه البلدان تجاه الحرب، وتوق دول الخليج لعالم متعدد الأقطاب، فضلًا عن العلاقات الاقتصادية، لاسيما بالنسبة لدولة الإمارات. أما في عمَّـان التي لم تُدن حرب روسيا، فقد جاءت تصريحات العاهل الأردني، عبد الله الثاني، عن أهمية حضور روسيا في سوريا في خلق توازن أمام الحضور الإيراني. وفي لبنان والعراق، كان الانقسام على خطوط طائفية، جنح فيه أنصار طهران إلى دعم موسكو.
وفي إفريقيا تبدو المواقف شبيهة بلا مبالاة دول الخليج تجاه الحرب، باعتبارها شأنًا أوروبيًّا، مع فارق الأثر الذي كان لهذه الحرب على الأمن الغذائي في القارة. ومقابل الغياب الدبلوماسي لأوكرانيا من القارة السمراء، استفادت روسيا من حضورها التاريخي المعتبر، وجعلت من إفريقيا، خلال سنة 2022، محورًا مهمًّا لتفادي آثار العقوبات الغربية؛ إذ زادت من حجم تبادلاتها مع إفريقيا خلال النصف الأول من العام بنسبة 34 في المئة مقارنة مع نفس الفترة من 2021، وواصلت مشاريعها في مجالات الطاقة والتعدين والتدريب العسكري، لاسيما في مشروع الضبعة للطاقة النووية في مصر، والمنطقة الحرة في الشاطئ الشرقي لجنوب إفريقيا. وكان تدفق الذهب السوداني، برعاية قائد الدعم السريع، محمد حمدان دقلو، عبر دبي الإماراتية، ضروريًّا للبنك المركزي الروسي في صموده في وجه العقوبات الغربية، كما ينقل الكتاب. وقد امتدح الرئيس الدوري للاتحاد الإفريقي حينها، رئيس السنغال ماكي سال، نية روسيا معالجة أزمة توريد الحبوب إلى إفريقيا.
وفي أميركا اللاتينية يقرأ الكتاب تحولًا في تقدير الموقف الروسي لأهمية هذه القارة مع تغير مواقف هذه البلدان من حرب روسيا في أوكرانيا، وانتخاب كولومبيا رئيسًا ذا ميول يسارية. وقد نأت المكسيك بنفسها عن المواقف الأميركية، وكان خطاب الرئيس البرازيلي السابق، جايير بولسونارو، إعادة لموقف بوتين بشأن أخوة الروس والأوكران. وهكذا عززت موسكو من علاقاتها مع القوتين الأهم في القارة: البرازيل والأرجنتين. أما حلفاء روسيا التقليديون من مناهضي الهيمنة الأميركية (كوبا ونيكاراغوا وفنزويلا) فقد تعزز التعاون معهم باتفاقيات في مجالات الأمن والدفاع والتبادل الإعلامي، ما مكَّن، وفق الكتاب، للسردية الروسية عن الحرب في أوكرانيا على مستوى أميركا اللاتينية. ووصل التقارب مثلًا بفنزويلا عرض استخدام الروبل الروسي في منتجعاتها لجذب السياح.
خاتمة
في خاتمة الكتاب، يقدم صامويل راماني ما يمكن اعتباره مرافعة لإثبات براءة روسيا من تحقيق أي انتصار محوري في حربها على أوكرانيا. أما قرائن هذه البراءة فهي انسحابها “المذل” من محيط العاصمة، كييف، و”فشل” هجومها على أوديسا، و”استسلامها” في خاركيف، ووحدة صف الدول الغربية في دعم كييف. وما تحققه روسيا من صمود في وجه العقوبات الغربية، فإنما يعود لارتفاع أسعار الطاقة، وللصمود غير المتوقع، وفق تقدير الكاتب، للروبل الروسي.
وليست المرافعة أعلاه النقطة الوحيدة التي قد لا يتفق القارئ بشأنها مع الكاتب. فحتى مع استصحاب براءة الباحث في العلوم الاجتماعية مما قد يطبع مقاربته لقضية شائكة وذات أبعاد إنسانية وأخلاقية، كالحرب، من انحسار في المسافة بين الذات والموضوع، لا يخلو الكتاب من تعميمات يمكن وصفها بالمتحيزة، لاسيما بشأن موقع روسيا على الساحة الدولية. ففي فصله المعنون بـ”عزلة روسيا عن الغرب وفضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي”، يناقض العنوان الرئيسي المضمون والعناوين الفرعية. فالدول المطلة على البحر الأسود ودول جنوب القوقاز ووسط آسيا تبدو عند التفصيل في مواقفها أقرب في معظمها إلى موسكو من دول غرب أوروبا، بغض النظر عن الأسباب والمبررات التي يرى الكاتب أنها لجمت هذه البلدان عن الانصياع وراء المساعي الغربية الرامية إلى عزل روسيا وحصارها.
يقف راماني في بعض الأحيان على مسافة من هذا الصراع تسمح له برصد مواقف دول خليجية ترى في حرب روسيا على أوكرانيا “شأنًا أوروبيًّا خالصًا”، لا تجد الإمارات والسعودية مثلًا غضاضة في تجاوز المقاربة الأوروبية الأميركية له، كما ينقل الكتاب. بيد أن هذه المسافة تنحسر أحيانًا، فيبدو الكاتب وكأنه يحاول أن يجعل من مقاطعة موسكو والتضحية بالعلاقات معها الموقف الصائب سياسيًّا. أما البلدان التي لم تنسجم مع بروكسل ولندن وواشنطن في حصار روسيا، فيجد الكاتب نفسه مضطرًّا لتقديم مبررات بشأن مواقفها تتعلق غالبًا بعلاقاتها الاقتصادية مع موسكو أو ارتباطها التاريخي بالاتحاد السوفيتي. وهكذا يبذل من الجهد في شرح وتفكيك مواقف البلدان الأقرب لموسكو (خاصة من الجنوب) ما لا يبذل في تبرير مواقف الدول المنسجمة مع الرؤى الأميركية والأوروبية من الحرب. وذاك ما يوحي للقارئ بأن الكاتب ينحو نحو ممارسة “عنف إبستمولوجي” -إن نحن استعرنا استخدام الفيلسوفة الهندية، سبيفاك، لهذا المفهوم الفوكوي- يأخذ من عملية الإنتاج المعرفي أداة لنزع الشرعنة عن معارف الآخر، أي مواقفه السياسية وتموقعه على خريطة التحالفات الدولية.
لا يتجاهل الكتاب المزاعم الروسية بشأن صعود النازية في أوكرانيا، لكنه لا يذهب في نقاش الأمر أبعد مما تذهب أغلب وسائل الإعلام الغربية حين يحاجج بمحدودية انتشار النزعات والأفكار النازية في أوكرانيا(4)، بينما يستفيض في تحليل طبيعة نظام بوتين، وما يلتبس حكمه، كما يرى، من طبيعة فاشية وشمولية وفردية. ولا تبدو السردية الروسية في أحيان كثيرة، بالنسبة للكاتب، سوى دعاية مضللة، بينما يقدم رواية كييف دون تعقيب.
وإذ يتتبع الكاتب الدور المتعاظم لروسيا في إفريقيا، لاسيما في منطقة الساحل، فإنه لا يلاحظ الشعبية المتزايدة لروسيا وبوتين لدى قطاعات واسعة من الشبان الداعمين للقائدين العسكريين في كل من مالي وبوركينا فاسو، كما تجلى في مظاهرات عديدة شهدها البلدان خلال العامين الأخيرين(5). ويقدم الكاتب ملاحظة دقيقة بشأن الفجوة اللغوية بين روسيا والقارة الإفريقية حيث تطغى منذ قرون اللغات الإنجليزية والفرنسية والبرتغالية، لكن تغيب عنه الجهود الروسية الرامية إلى جسر هذه الهوة، كما أعلن عنها وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، خلال جولته في غرب إفريقيا مطلع العام الجاري (2023)(6). وتتجلى أهمية القارة الإفريقية في إستراتيجية موسكو في إعلان السياسة الخارجية لروسيا الصادر مطلع أبريل/نيسان الماضي (2023). ويجد خطاب موسكو بشأن احترام استقلال الدول الإفريقية ودعم تحرير آخر جيوب الاستعمار الغربي منها (جزيرة مايوت الفرنسية وأرخبيل تشاغوس البريطاني) صدى إيجابيًّا لدى قطاعات واسعة من النخب الإفريقية.
ولم ير راماني الذي أصدر كتابه قبل ثلاثة شهور أن السنة الجارية (2023) قد تحمل حلًّا لهذا النزاع، فروسيا لا تستطيع كسب المعركة ولا تتحمل خسارتها في الآن ذاته. أما أوكرانيا فتصر على تحرير جميع أراضيها، بما في ذلك شبه جزيرة القرم، واسترجاع الأخيرة قد تكون كلفته حربًا نووية. هكذا يوصد راماني أبواب الحل أمام أكبر أزمة تعرفها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، ليتوقع للقارة العجوز أن تعيش سنة أخرى على وقع هذا الصراع، وهكذا تسير الأمور بالفعل حتى الآن.
مركز الجزيرة للدراسات