سلسلة الكوارث البيئية الناجمة عن تفجير سدّ كاخوفكا الأوكراني، أسوة بجمهرة من العواقب العسكرية المباشرة القريبة أو غير المباشرة والبعيدة، قد تشير في ذاتها إلى تحوّل نوعي يشمل طبيعة العمليات ومساراتها بعد سنة من الغزو الروسي في أوكرانيا. غير أنّ الواقعة، بصرف النظر عن الجهة الروسية أو الأوكرانية المسؤولة عنها (حكاية تفجير أنبوب غاز «نورد ستريم» تُعلّم المرء الكثير من الحذر قبيل توجيه إصبع الاتهام)، تصنع مؤشراً إضافياً بالغ الدلالة والخطورة حول الذروة القصوى التي يمكن أن تبلغها مسارات اللجوء إلى نوعية خاصة من «الأسلحة»؛ الكفيلة، كما يُراد لها مبدئياً، بكسر الجمود الراهن الملحوظ في ترجيح كفّة الصراع.
المفردة الحاسمة هنا، والتي أخذت تتجاوز مستوى المسكوت عنه إلى المنطوق به، هي السلاح النووي وما إذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سوف ينتقل إلى استخدامه على أيّ نحو. المعطيات على الأرض تقول إنّ ضخّ 300,000 جندي روسي إلى القتال في أوكرانيا، وخلال فصل الشتاء تحديداً، لم يبدّل كثيراً في توازنات القتال ميدانياً. معطى آخر، مدهش ولافت، يقول إنّ دبابات روسية (سوفييتية، في الواقع) من إنتاج خمسينيات القرن الماضي شوهدت في بعض المعارك؛ وهذا يعني أنّ ترسانة السلاح الروسي آخذة في النضوب، ولم تعد بحاجة إلى المسيّرات الإيرانية وحدها.
السلاح النووي، إذن، حتى إذا كان «قُنيبلة» نووية تكتيكية وليس القنبلة النووية الأمّ الستراتيجية؟ الحذر يقتضي تفادي الجزم، غنيّ عن القول، وإنْ كان يقتضي في الآن ذاته الاحتكام إلى مقدار مطلوب من الترجيح. فإذا لم تكن ذريعة بوتين في اللجوء إليها هي «التهديد الوجودي» الذي تواجهه روسيا من جانب الولايات المتحدة والحلف الأطلسي والغرب عموماً، فإنها يمكن اليوم أن تدور حول الحفاظ على حياة مئات الآلاف من الجنود الروس المتمركزين في أوكرانيا للدفاع عن «بقاء روسيا الأمّ والوطن» ومقارعة «القطعان النازية» في كييف، كما يردّد إعلام الكرملين.
لا يصحّ أن تُنسى، في المقابل، عادات بوتين في التفاخر العسكري، الصاروخي والنووي معاً، سواء اقتضت المناسبة ذلك أم كان الحشو اللفظي واستعراض العضلات هو الدافع. ففي أواخر العام 2004 اجتمع بوتين مع أركان القيادة العسكرية الروسية وأنذر العالم بأنّ روسيا سوف تنشر في الأعوام القليلة القادمة أنظمة صواريخ نووية جديدة، متفوّقة على كلّ ما تمتلكه جميع القوى النووية الأخرى. كما بشّر بأنّ بلاده لا تكتفي بالأبحاث النووية والاختبارات الناجحة للأنظمة الجديدة، بل هي ستتسلّح بها فعلياً خلال السنوات القليلة القادمة: «أنا واثق أنّ هذه التطوّرات والأنظمة غير متوفرة لدى الدول النووية الأخرى، ولن تكون متوفرة في المستقبل القريب»….
لا هذه يجوز أن تُنسى اليوم، ولا تلك المعطيات سالفة الذكر حول الحال الميدانية العسكرية لمغامرة بوتين في أوكرانيا؛ خاصة لجهة الأدوار الآخذة في الانحسار للأسلحة التقليدية والقوّات البرّية، وهذه شكّلت الركيزة الأولى لعقيدة الدفاع السوفييتية/ الروسية الكلاسيكية، وكان خيار الردع النووي هو الركيزة الثانية. ولا يصحّ، أيضاً، إغفال قرار بوتين بنشر أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا، ليس بقصد تخزينها هناك بل كذلك على سبيل تدريب الجنود البيلاروس على استخدامها. وقبل ذلك بادر بوتين إلى تجميد معاهدة «نيو ستارت» التي تراقب إنتاج الأسلحة النووية بين واشنطن وموسكو.
وعلى نقيض تقديرات الإدارة الأمريكية، من مجلس الأمن القومي إلى الاستخبارات والبنتاغون، يرى كيفن رايان (العميد المتقاعد، والباحث في هارفارد، والملحق العسكري الأمريكي الأسبق في موسكو)، أنّ بوتين سوف يستخدم السلاح النووي في أوكرانيا. وسواء صدقت نبوءته الكارثية أم كذّبتها التطورات المتسارعة، فالأرجح أنّ ما بعد سدّ كاخوفكا لن يشبه ما قبل تفجيره، إذا كان للتشابه هنا أيّ معنى أصلاً.
القدس العربي