30 يونيو وإعادة تمركز مصر

30 يونيو وإعادة تمركز مصر

أنعم الله على مصر بميزتين فريدتين، الموقع الجيو استراتيجى النادر، الذى أسس لمكانتها فى النظام الدولى منذ القدم، فعلى الرغم من التغيرات التى طرأت على مصر عبر التاريخ، وعلى توازن القوى الدولى، فإن الأهمية الإستراتيجية لمصر ظلت مهمة واستثنائية، كما أن وضوح الهوية المصرية والإجماع الوطنى عليها أضاف إلى ثبات بل وازدياد الدور الإقليمى والدولى لمصر، ولقد فشلت كل المحاولات للنيل من كل من الهوية والمكانة الاستراتيجية، وخلال السنة التى سرق فيها الإخوان المسلمون عرش مصر، كرسوا جميع السبل الداخلية والخارجية لتشتيت الهوية، ومن ثم الانتماء والوطنية، وتقزيم الدور المصرى فى إطار وهم الخلافة لتتحول مصر من دولة إقليمية مركزية إلى دولة تابعة لتنظيم هلامى غير شرعى.

ولم تكن ثورة المصريين فى 30 يونيو غضبة شعبية ضد الإخوان فقط، ولكنها أيضا كانت تعبيرا عن إرادة مصرية صادقة وتلقائية للحفاظ على الهوية الوطنية، وإعادة تمركز الدولة المصرية مرة أخرى على الساحتين الإقليمية والدولية، ومن المعلوم للكل كيف حاول الإخوان وبإصرار التآمر على الدولة المصرية، وتأليب بعض الأطراف الدولية عليها، وهو ما لم يتحقق نظرا لوضوح الإجماع الوطنى على إعادة بناء الدور المركزى لمصر والحفاظ على الهوية الوطنية التى يجمع عليها المصريون.

ولقد أوضحت الدراسات المتعلقة بنشأة النظم الإقليمية بعد الحرب العالمية الثانية حتمية توافر دولة أو دول تلعب دورا مركزيا داخل الإقليم، فمثلا فى التجربة الأوروبية لعبت فرنسا وألمانيا هذا الدور، وفى جنوب شرق آسيا تلعب الهند الدور ذاته، وفى أمريكا اللاتينية هناك البرازيل والأرجنتين… وهكذا ومما ساعد على بناء النظام الإقليمى العربى، وجود مصر كدولة إقليمية مركزية، تلعب دورا فاعلا فى تكثيف عوامل التكامل والتعاون والاندماج، وتسعى إلى احتواء ومقاومة عوامل التفكك أو الشقاق، ولاشك فى أن إحدى ثمار ثورة 30 يونيو تكمن فى اعادة تمركز الدولة المصرية فى إقليمها العربى، وفى النظام الدولى، والحفاظ على مكانتها كدولة محايدة نشيطة تستمد قوتها من الإجماع الوطنى على هويتها وشخصيتها المستقلة، ولقد ساعدها على ذلك ما اتخذته من سياسات واتجاهات وسلوك خارجى يميز بين علاقات الصداقة والود من ناحية، واستقلال القرار السياسى الوطنى من ناحية أخرى، والتمييز أيضا بين علاقات التعاون من ناحية والتنوع فى السياسة الخارجية بما يخدم المصالح القومية، فقد انطلقت مصر خلال السنوات العشر السابقة إلى توثيق التعاون مع القوى الدولة الرئيسية فى النظام الدولى، الولايات المتحدة، وروسيا، والصين والاتحاد الأوروبى، واليابان والدول الإقليمية الفاعلة، كما اتجهت إلى تنويع مصادر السلاح من أهم الدول المنتجة والمصدرة للسلاح مثل الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وألمانيا وغيرها، واتجهت مصر وبقوة إلى القارة الإفريقية بغية التنسيق والتعاون الانمائى مع الدول الإفريقية، وتيسير التجارة البينية ومشروعات البنية التحتية المشتركة، وفى أثناء رئاسة مصر للاتحاد الإفريقى ومجموعة الكوميسا أرست مصر أسس الشراكات الإفريقية، والتى تتطور عبر الرئاسات المتتالية، وقد برز ذلك بوضوح فى مؤتمر المناخ الذى عقد فى شرم الشيخ 2022 والتوافق الإفريقى على التمويل العادل لمواجهة قضايا البيئة، وما تلاه من الدعوة إلى التحول من التعهدات المالية إلى تنفيذها، ومن ثم إحساس المواطنين بجدوى الاجتماعات والمشاورات الدولية، وشاركت مصر فى القمم الروسية الإفريقية، والصينية الإفريقية، والتى تحاول الدفع بالتنمية الإفريقية إلى آفاق أرحب تتوافق مع الظروف الدولية الصعبة، ولاشك فى أن زيارات الرئيس السيسى لكل من أنجولا وزامبيا وموزمبيق تؤكد مدى تجذر العلاقات المصرية الإفريقية فى نسيج السياسة الخارجية المصرية.

ولقد أثمرت ثورة 30 يونيو بتوثيق العلاقات المصرية العربية بعد أن نجحت مصر فى دحر الخطر الإخوانى بصورة تضمن سلامة وأمن واستقرار النظام الإقليمى العربى، ولقد تعاونت مصر مع الدول العربية الشقيقة، وعلى رأسها، السعودية والإمارات لتطهير الدولة العربية من التهديد الإخوانى إلى الأبد، وهو التعاون الذى يتحول إلى التنمية القطرية والإقليمية فى ذات الوقت، ويتوافق ذلك مع الأدبيات السياسية الموثقة، والتى ترى أن التعاون الذى يتبع التنسيق الأمنى والشراكة فى التصدى للعدو المشترك هو شرط أساسى لبناء بيئة تنموية مستدامة، وتلعب مصر مع أشقائها العرب دورا حيويا فى تسوية الخلافات مع دول الجوار، إيران وتركيا، لتهيئة بيئة إقليمية أكثر سلاما وأمنا لكل أطرافها، ولاشك فى أن هذه المصالحات الإقليمية يمكن أن توفر فرصة نادرة لتحييد الصراع الدولى على المنطقة والخروج من عباءة أى طرف دولى يسعى للهيمنة على الدولة الوطنية.

وانطلقت مصر بعد 30 يونيو إلى تكثيف المناورات العسكرية البحرية والجوية والبرية مع الجيوش العربية، وذلك لحماية الممرات البحرية، وعلى رأسها الخليج العربى والبحر الأحمر وخليج عدن وباب المندب تحسبا لأى تهديدات تمس التجارة الدولية أو سلامة الموانى والمرافئ العربية.

ـ ولما كانت ثورة 30 يونيو هى ثورة مستمرة لإعادة تمركز مصر وتوثيق العلاقات العربية المصرية فى عالم متغير، فمن المؤكد أن السنوات المقبلة ستشهد عملا جادا وفعالا فى مسألتين مهمتين، الأولى : تطوير جامعة الدول العربية وزيادة صلاحياتها لكى تتحول إلى أداة فعالة فى قضايا التكامل العربى، والثانية الحوار العملى حول انشاء الحلف الاستراتيجى العربى على شاكلة حلف الاطلطنى لمواجهة التهديدات المحتملة للأمن القومى العربى ولدرء المخاطر.

د. عبدالمنعم المشاط

صحيفة الأهرام