من رحم الحرب الباردة ولدت حركة عدم الانحياز عام 1961، بجراحة دقيقة من زعماء يوغوسلافيا والهند ومصر وإندونيسيا وأفغانستان، قبل انضمام إيران إلى الحركة بعد فترة وجيزة من انتصار الثورة خلال عام 1979، كمحاولة جماعية للابتعاد من الأضرار التي قد تنجم عن المنافسة ومعارك المعسكرين الشرقي والغربي اللذين كانا في تلك الفترة متحالفين ضد بعضهما البعض تحت إطار حلفي شمال الأطلسي (الناتو) و(وارسو).
آنذاك أعتقد قادة دول عدم الانحياز أن الاصطفاف والتحالف مع أحد القطبين الكبيرين يمكن أن يقود دولة صغيرة إلى حرب غير مرغوب فيها ويعرض مصالحها وأمنها القومي للخطر. وهذا الاعتقاد كان واقعاً لا سيما في المراحل الأولى من الأزمات الدولية، خصوصاً أثناء فترة الحربين العالميتين الأولى والثانية.
وهناك مشاهد أخرى في تاريخ العلاقات الدولية، فبعض الدول الصغيرة (ذات القوة المحدودة) والضعيفة ومن أجل حماية نفسها من القوى الكبيرة المجاورة لها، تقيم علاقة صداقة وتتحالف مع دولة قوية أخرى على رغم المسافة الشاسعة بينهما. وعلى سبيل المثال لا الحصر، كانت أفغانستان قد لجأت إلى ألمانيا لحماية نفسها من تهديد دولة مجاورة قوية كروسيا مثلاً. وفي الوقت نفسه عندما شعرت إيران بالتهديد من روسيا أقدمت على بناء علاقة صداقة مع ألمانيا، بالتالي وبالنظر إلى هذا الواقع، وحتى بداية الحرب العالمية الثانية، فإن البنية التحتية لهذين البلدين (أفغانستان وإيران) كانت ألمانيا المصدر أو مصدرها دول أوروبية متحالفة مع برلين.
إيران نموذجاً
في واقع الأمر، العلاقة مع الدول القوية التي تقع على مسافة جغرافية بعيدة تعد أقل خطراً مقارنة بدولة قوية جارة. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أظهر التدخل الروسي في أذربيجان وكردستان إيران بوضوح أنه إذا ما كان هناك فراغ في السلطة فإن الدولة القوية ستحتل جارتها الضعيفة. فالروس صنفوا تهديداً لإيران سواء في عهد القياصرة أو في الحقبة السوفياتية. ولهذا السبب، كان النظام الملكي في إيران بداية الأمر على علاقة ود وصداقة مع ألمانيا النازية، بينما وبعد الحرب العالمية الثانية لا سيما بعد هزيمة ألمانيا اقترب من الولايات المتحدة ليخلق توازناً ضد الاتحاد السوفياتي.بعد الحرب العالمية، أدى تطور القوات الجوية الأميركية إلى تعزيز إمكانية دعم واشنطن لدول الشرق الأوسط مما عزز وجودها في تلك المنطقة، وتحديداً الخليج العربي أكثر فأكثر. وبقيت العلاقة الإيرانية-الأميركية قوية حتى عام 1979، إلا أنه بعد الثورة الإسلامية قررت طهران فجأة ومن دون أن تأخذ بالحسبان الكلفة والفائدة تبني استراتيجية سياسية كان العنوان الرئيس لهذه “لا شرقية ولا غربية”.
ومن أخطاء النظام الإيراني في السياسة الخارجية هو أنه اتجه سريعاً نحو الشعارات السياسية غير المدروسة والمتمثلة بـ”لا شرقية ولا غربية” من دون أن يأخذ بالحسبان التبعات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأمنية والثقافية والتعليمية.
هذه السياسة أثبتت فشلها مع بدء الحرب الإيرانية – العراقية في 22 سبتمبر (أيلول) 1980، إذ سرعان ما دفع النظام الإيراني إلى الشرق ورفع أعلام الاتحاد السوفياتي من تحت أقدام الجنود الإيرانيين ما اعتبر تحولاً آخر غير متوقع في السياسة الخارجية، مثله مثل القرارات الخاطئة التي اتخذت خلال السنوات الماضية. هذا التحول أيضاً كان غير مدروس ولم يأخذ في الحسبان مسألة الكلفة والفوائد التي قد تنجم عنه، أو في الأقل لم تتم مناقشة هذا القرار بدقة وتأنٍ، هذا وفي الوقت الذي كانت قطع غيار الطائرات والأسلحة الأميركية لا تزال تشتريها طهران عبر الوسطاء والسماسرة الإسرائيليين، أصبحت حركة عدم الانحياز تمثل السياسة الرسمية للبلاد.
وتبنت حركة عدم الانحياز شعارات عبر الرئاسة الدورية للدول الأعضاء على مدار الـ62 عاماً الماضية أي منذ تأسيسها، وتم الإعلان عنها مع كل دورة رئاسية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن خلال رئاسة مصر كان شعار الحركة هو “التضامن الدولي من أجل التنمية والسلام”، وأثناء رئاسة فنزويلا “السلام والسيادة والتضامن من أجل التنمية”، وأخيراً رفعت إيران شعار “السلام المستدام من خلال الحوكمة العالمية المشتركة”.
لكن اختيار طهران هذا الشعار أظهر مدى تغلغل الأفكار المثالية الخيالية في أذهان القادة الإيرانيين. وفي هذا الخصوص، يمكن طرح سؤالين أولاً، هل من الممكن لمجموعة من الدول في العالم غير قادرة على توفير أمنها بشكل فردي وجماعي وكذلك غير منضمة إلى أي تشكيل عسكري أو أمني أن تمارس السيادة على دول العالم وأن تنال هذه الدول السلام الدائم؟
أما السؤال الثاني، كيف لإيران إقامة “سلام مستدام من خلال الحوكمة العالمية المشتركة؟” ونظامها الحاكم في طهران يحظى بسمعة نمطية دولية تقوم على تبني شعار جاهز هو “الموت لـ…”، ومكان النقاط الثلاث هنا يتغير اسم دولة بحسب مدى قربها أو خلافها مع إيران.
صعوبات واضحة
بعد عقود، لا تزال فكرة الوحدة الأوروبية غير راسخة بصورة كاملة في الكثير من الحالات، فالحوكمة العالمية المشتركة لا تتحقق من دون تعزيز الروابط الدولية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية ولا سيما التفاهم السياسي المشترك، بالتالي فكيف للنظام الإيراني الذي لا يحترم الحقوق الاجتماعية للشعوب والأقليات القومية والدينية والجنسانية أو حتى الأحزاب السياسية داخل حدوده أن يدعي إقامة سلام دائم من خلال الحوكمة العالمية المشتركة؟
خلال السنوات الـ44 الماضية اتبع النظام الإيراني سياسة القطيعة في العلاقات على المستوى الدولي، وليست لديه الرغبة الحقيقية والقدرة على بناء علاقات طبيعية مع المجتمع الدولي، فالتوسع الإيراني في البلدان الإسلامية المجاورة أو منطقة الشرق الأوسط عموماً يهدف إلى تعزيز التطرف. ولم يتسامح النظام الإيراني مع المذاهب الأخرى بأي شكل من الأشكال في أي نقطة من العالم فحسب، بل حاول بث الفرقة واستهداف الأنظمة المختلفة. وفي هذا السياق، شهدت دول في الشرق الأوسط بشكل أو بآخر احتجاجات واختلافات داخلية بدعم من النظام الإيراني، والبحرين واليمن والعراق وأذربيجان ليست سوى أمثلة للدول التي تضررت من نظام طهران. فهل هذا هو السبيل لتحقيق “السلام المستدام من خلال الحوكمة العالمية المشتركة”؟!
بكين – موسكو
في الحالة الصينية – الروسية، تتبنى إيران موقف الصمت حيال حقوق الإيغور في الصين وعن حقوق الشيشان في روسيا. أي أن الحالة الوحيدة الواضحة التي تمكنت طهران من التأقلم معها سياسياً هي بكين وموسكو، ولعل هذا التقارب لم يتحقق فقط على حساب القضايا المتعلقة بمسلمي هذين البلدين والصمت حيال حقوقهم، بل تقدم طهران تنازلات اقتصادية أيضاً. علاوة على أن تعاون إيران مع روسيا في الحرب ضد أوكرانيا وصل إلى حد المشاركة في قتل الآلاف من الأوكرانيين ودعم موسكو في حربها ليس له أي تبرير قانوني.
وعليه، فإن الدولة التي تدعي “عدم الانحياز” تدعم الدول المسؤولة عن تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ سياسي واقتصادي وأمني! وليس من المعلوم والواضح أنه كيف يمكن لدولة أن توقع عدداً من الاتفاقات السرية مع روسيا والصين والتي تذكرنا بحقبة الاستعمار، ثم تدعي أن “حركة عدم الانحياز هي رد فعل طبيعي ضد القوى العالمية الكبرى والمتغطرسة”.
أخيراً وليس آخراً، فإن دور النظام الإيراني في النزاعات الإقليمية والصراعات بين الدول العظمى هو خير مثال على عدم الإيمان بمبادئ حركة عدم الانحياز. وفي هذا الإطار، فإن إيران تتعاون مع روسيا في الحرب على أوكرانيا سياسياً وعسكرياً، وتزود موسكو بالأسلحة التي تستخدم يومياً في العمليات العسكرية ضد المواطنين الأوكرانيين واحتلال أجزاء من أراضيهم، بالتالي كيف يمكن الجمع بين هذا السلوك والممارسات والأفعال لكي تدعي “عدم الانحياز” و”رد الفعل ضد القوى المتغطرسة”؟
اندبندت عربي