أعطى المرشد الأعلى للنظام الإيراني الضوء الأخضر هذه المرة بكثير من الوضوح للسير بالمفاوضات مع الولايات المتحدة الأميركية حول البرنامج النوويوالوصول بها إلى نتائج مفيدة. وموقف خامنئي جاء خلال لقائه مع العاملين في البرنامج النووي والمسؤولين عنه، راسماً سقف المطالب والتنازلات، متهماً الوكالة الدولية بعدم التزام التعهدات التي قدمتها لإيران في الاتفاق الذي وقع بتاريخ الرابع من مارس (آذار) 2023 خلال زيارة مدير الوكالة رافاييل غروسي إلى طهران على رغم تقيّد إيران بالاتفاق.
السقف الذي وضعه خامنئي لحجم التنازلات يكشف عن طبيعة المفاوضات التي تدور خلف الكواليس وما الذي تطلبه الإدارة الأميركية من النظام الإيراني من أجل الوصول أو التوصل إلى تفاهم لإعادة صياغة اتفاق يلبي هواجس الطرفين ويساعد على تفكيك الأزمات الناتجة من العقوبات وتداعياتها الاقتصادية.
كلام خامنئي كان واضحاً لجهة تمسكه بشرط أساسي في أي مفاوضات أو اتفاق جديد، ويؤكد ضرورة عدم الوقوع في فخ أي شروط قد تفرض على طهران تخريب منشآتها النووية أو كما حصل في مفاعل “أراك” للماء الثقيل عندما أجبرت، بناء على اتفاق عام 2015، على ملء قلبه بالأسمنت وكلّفها وقتاً وأموالاً لإعادة تفعيله وتشغيله بعد قرارها خفض التزاماتها النووية في ذلك الاتفاق عام 2019، رداً على قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب الانسحاب منه.
وهذا التمسك بالشروط يهدف إلى فرض المسار الذي يريده النظام في أي اتفاق جديد وأن يكون تحت سقف القانون الذي سبق أن سنّه البرلمان الإيراني في الأشهر الأخيرة من رئاسة حسن روحاني للسلطة التنفيذية، وتحول إلى عائق أمام مساعيه لاستئناف المفاوضات في حينها، ويكشف للمرة الأولى عن أن المرشد الأعلى كان الجهة التي وقفت وراء هذا القانون الذي أقر بسرعة غير طبيعية والذي يلزم أي حكومة الحفاظ على البرنامج النووي وتطويره.
الكشف عن هذه المحادثات غير المباشرة سبقتها أيضاً مباحثات مباشرة جرت في محيط الأمم المحتدة في نيويورك بين المندوب الأميركي الخاص في الأزمة النووية روبرت مالي ومندوب إيران الدائم في الأمم المتحدة محمد سعيد إيرواني الذي سبق أن لعب دوراً تفاوضياً في المفاوضات النووية وأيضاً في محادثات إعادة العلاقات مع السعودية كمساعد لأمين المجلس الأعلى للأمن القومي حينها علي شمخاني.
أن يدخل المرشد على خط الجدل الدائر حولها بشكل علني، يعني أن الأمور أو المفاوضات التي تدور خلف الكواليس وصلت إلى مراحل متقدمة وأن النقاشات دخلت في التفاصيل حول مستويات التخصيب وأنشطة المنشآت وأجهزة تخصيب اليورانيوم، بخاصة في إشارته التي تضمنت كلاماً واضحاً عن البنى التحتية لهذا البرنامج عندما قال “يجب ألّا يُمسّ بالبنى التحتية للصناعة النووية. طوال هذه الأعوام أنجز المديرون والمسؤولون والناشطون في هذه الصناعة أعمالاً مهمة وأسسوا بنى تحتية مهمة. قد ترغبون في عقد اتفاقات ضمن بعض المجالات، لا ضير في ذلك، إعقدوا الاتفاق، لكن يجب ألا تُمسّ البنى التحتية وألا يجري تخريبها، إنها نتاج جهود الآخرين”.
في مقابل هذه المواقف وما يدور من حديث حول إمكان التوصل إلى اتفاق “موقت” أو صيغة تفاهم تضمن لواشنطن التزام النظام الإيراني وقف أو تجميد عمليات التخصيب بمستوى 60 في المئة، وفي مقابل تحرير الأرصدة الإيرانية المجمدة في البنوك الغربية، إضافة إلى عودة إيران لأسواق الطاقة وبيع النفط والحصول على عائداتها المالية التي تساعد في إعادة تفعيل الاقتصاد الإيراني وحل الأزمات المعيشية، فإن هذا الاتفاق الذي يسوّق له، ربما يدخل النظام في أزمة مصداقية على المستوى الداخلي، بخاصة في ظل السقف الذي وضعته الحكومة الجديدة برئاسة إبراهيم رئيسي التي رفعت شعار التفاوض من أجل الوصول إلى اتفاق أفضل وأكثر إنصافاً من الاتفاق الذي وقعته حكومة روحاني في يوليو (تموز) 2015.
وعلى رغم تأكيد وزير الخارجية حسين أمير عبدالليهان ومسؤول المفاوضات باقري كني تمسك طهران بالاتفاق وعدم الانسحاب منه ومحاولة تجنب الحديث عن الاتفاق السابق وإعادة إحيائه، إلا أن هذا الاتفاق يشكل الأساس لعملية تفاوضية تهدف إلى إلغاء العقوبات، وأن الطموح الذي تسعى وراءه الحكومة التي تمثل المنظومة الحاكمة والدولة العميقة هو الحصول على مكاسب أكبر من داخل النقاط التي جاءت في هذا الاتفاق، لذلك، فإن أي عملية تفاوضية في الظاهر وبحسب تأكيد أقطاب المنظومة، لن تذهب إلى اتفاق موقت لأنه سيعتبر بمثابة الهزيمة للنظام والمرشد باعتباره تنازلاً لا يمكن تسويغه في ظل الشعارات والمواقف التي تمسّك بها وأفشل كل الجهود الدولية والإقليمية التي سعت إلى إعادة إحياء المفاوضات.
التطورات المتسارعة على المسار النووي والحوار المباشر وغير المباشر مع الإدارة الأميركية، تعزز الاعتقاد بوجود تحول أساسي في قراءة النظام الإيراني للمرحلة المقبلة وأن الحوار مع واشنطن يأتي استكمالاً لمسار من الانفتاح وإعادة ترميم العلاقات مع المحيط الجغرافي لإيران، بدأت بالاتفاق مع السعودية، ومن ثم دول الخليج، ووضع مساعي إنهاء القطيعة مع مصر على طاولة التفاوض وصولاً إلى محاولة استيعاب التوتر مع جمهورية أذربيجان، ومن المفترض أن يساعد التفاهم مع واشنطن على استكمال مسار الحلول في الملفات الإقليمية العالقة، بحيث يكون النظام منتظماً في مسار تعاوني بديلاً عن المسار الصدامي الذي اعتمده في العقود الماضية.
اندبندت عربي