الجغرافيا السياسية والتعاون الاقتصادي

الجغرافيا السياسية والتعاون الاقتصادي

441
تثبت الأزمة الروسية التركية مجدداً أن أي صراع سياسي حاد، أو صدام عسكري يمكن أن يؤثر سلباً وخلال أيام أو أسابيع قليلة على علاقات اقتصادية وتجارية يتطلب بناؤها وتنميتها سنوات طويلة. وربما يجوز القول، إن هذه الأزمة تقطع الشك باليقين فيما يتعلق باستمرار أولوية الجغرافيا السياسية Geopolitics، وعمق تأثيرها في العلاقات الدولية، بعد أن خلق انتهاء الحرب الباردة قبل ربع قرن أملاً في نظام عالمي جديد يقوم على ما سُمي في ذلك الوقت جغرافيا اقتصادية Geoeconomics.

والمقصود بذلك، نظام عالمي تلعب العلاقات الاقتصادية والتجارية دوراً متزايداً في تفاعلاته، ويحدث في ظله انتقال تدريجي من نمط الصراعات الصفرية التي تسعى فيها دولة لأن تكسب كل شيء إلى حالة التنافس المُربح للجميع win-win game.
ورغم أن هذا الطموح مازال بعيد المنال، فقد كان له ما يبرره في لحظة سادها اعتقاد في أن العالم يدخل مرحلة جديدة مختلفة تماماً عن كل ما شهده عبر التاريخ. وكان مفهوم الجغرافيا الاقتصادية تعبيراً عن الآمال الكبيرة في تلك اللحظة التي بدا فيها أن العالم يتغير، فقد تصور كثير من الطامحين حينئذ إلى عالم جديد أن حجم اقتصاد أي دولة ونجاحها في تحقيق تنمية مستدامة سيصبح العنصر الرئيس في تحديد سياساتها، بدلاً من حجم إقليمها وموقعها وحدودها وطبيعة جوارها الجغرافي وقوتها العسكرية.
غير أن هذا الطموح بدأ في التراجع تدريجياً لأسباب عدة أهمها، وجود تطلعات سياسية واستراتيجية يصعب التخلي عنها أو إعادة صوغها بما ينسجم مع نمط التنافس المربح للجميع. وظهرت بوادر هذا التراجع قبل سنوات طويلة على مقالة والتر راسل المنشورة في مجلة «فورين أفيرز» (عدد مايو ويونيو 2014) تحت عنوان «عودة الجغرافيا السياسية.. انتقام القوى المراجعة». فدور الجغرافيا السياسية لم يختف أو يغب لكي يمكن الحديث عن عودته. لكن تصاعد الصراع الروسي الغربي على أوكرانيا أكد أن الجغرافيا السياسية مازالت المحدِّد الرئيس للعلاقات الدولية.
فقد خرج الدب الروسي من مكمنه مستنفراً، عندما وصل تمدد الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي إلى حدوده، وتجاوزت موسكو صدمة الهزيمة في الحرب الباردة، وشرعت في الثأر ممن رقصوا فوق ركام الاتحاد السوفييتي السابق.
وحدث ذلك في الوقت الذي حال فيه ضعف مستوى تطور الاقتصاد الروسي دون بناء علاقات مربحة له مع الاقتصادات الغربية الأكبر والأقوى والأكثر تقدماً وحداثة، لذلك لم يجد بوتين ما يخشى خسارته في العلاقات الاقتصادية مع الغرب، عندما قرر التحول من الدفاع إلى الهجوم.
ولذلك أيضاً كان من السهل أن يبدو التعاون الاقتصادي الروسي التركي الأكثر فائدة لطرفيه مقارنة بعلاقات كل منهما مع كثير من الدول الأخرى في مهب الريح فور تصاعد أزمة إسقاط الطائرة «سوخوي» في 24 نوفمبر الماضي، فقد أكدت الإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها موسكو ضد أنقرة بشكل فوري ومن دون تفكير أو تدبر، أن سياسات الجغرافيا السياسية تعلو على علاقات التعاون الاقتصادي.
ومع ذلك، فقد أظهرت هذه الأزمة أن وصول التعاون الاقتصادي إلى مستوى معين يمكن أن يساعد في وضع سقف لتصاعد الأزمة «الجيوسياسية». وكان التعاون الاقتصادي الروسي التركي قد بلغ هذا المستوى في الفترة الأخيرة، حيث أصبحت أنقرة ثاني أهم شريك تجاري لموسكو، وثاني أكبر مستورد للغاز منها في وقت يزداد فيه العرض في السوق العالمية ويقل عدد المشترين، وصارت روسيا في الوقت نفسه أحد أهم مصادر عائدات تركيا السياحية.
كما وصلت قيمة العقود التجارية بين البلدين حتى نهاية 2014 إلى 44 مليار دولار، في ظل تنامي التعاون الذي أثمر مذكرة تفاهم بين شركتي «غاز بروم» الروسية و«بوتاش» التركية لمد أنابيب عبر تركيا تحت البحر الأسود لنقل الغاز وتصديره إلى أوروبا. وقد أصبح هذا المشروع الحيوي للطرفين في مهب الريح، وكذلك مشروع إنشاء أول محطة نووية في تركيا بتقنية روسية.
ورغم ذلك لم يكن التطلع إلى دور أكبر للاقتصاد والتجارة في العلاقات الدولية مجرد وهم أو خيال، فإذا كان كل هذا التعاون الاقتصادي بين موسكو وأنقرة لم يحل دون بلوغ الصراع بينهما حافة الهاوية في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي، فقد وضع حداً لانفلاته وأضعف احتمال الانزلاق إلى هاوية الحرب التي وقف العالم على حافتها.
د.وحيد عبدالمجيد
صحيفة الاتحاد الإماراتية