تصاعدت وتيرة المواجهة التركية الروسية على الأرض السورية، وأفضت إلى خسائر مباشرة للجانبين معًا، وذلك بعد قيام أنقرة في الرابع والعشرين من نوفمبر الماضي بإسقاط طائرة روسية من طراز SU 24، ادعت أنقرة أنها اخترقت الأجواء التركية، بما أوجد إشكالية مركبة؛ شكلت من ناحية، سابقة أولى في مسار علاقات الدولتين المضطرب منذ عقود خلت، ومن ناحية أخرى، ارتباطًا بأن الحادثة لن تُمثل فحسب محركًا رئيسيًّا في صوغ نمط العلاقات المستقبلية بين الطرفين، وإنما من شأنها كذلك تحويل المواجهة غير المباشرة التي دامت لسنوات مضت في الميدان السوري إلى مواجهة شبه مباشرة، ما يعني مزيدًا من الخسائر المحتملة للجانبين معًا وإن بدا ذلك بدرجات متفاوتة.
ومع أن حادثة الطائرة الروسية ليست مُنشئة للتوتر وإنما كاشفة لحدته وساهمت في تصعيده، فإنها بدت مقصودة من قبل الجانب التركي، وذلك ارتباطًا بعدد من المحركات الأساسية، أولها، أن سابقة اختراق الأجواء التركية تعددت من قبل الجانب الروسي، وثانيها، يتعلق بالطبيعة غير المقصودة لعملية الاختراق، فقرب الأراضي التركية من تمركز القوات الروسية، في قاعدتي “حميميم” و”طرطوس”، تدفع باستحالة تجنب اختراق أجواء تركيا كغيرها من دول جوار سوريا، في بعض الحالات الطارئة. وثالثها، أن التصعيد التركي من خلال التصريحات الرسمية ودعوة حلف الناتو للاجتماع، بعد إسقاط الطائرة الروسية التي لم تقم بعمليات استطلاع داخل الأراضي التركية، يشير إلى أن تجاوز قواعد الاشتباك في التعاطي مع الطائرة الروسية تخطى قواعد العلاقات التي اتسمت بالتوتر لتجتاز خط المواجهة.
حسابات الربح والخسارة:
ترتب على ما سبق أن تبنت موسكو خطابًا تصعيديًّا مباشرًا على أكثر من مستوى، فيما تبنت أنقرة خطابًا سياسيًّا وعسكريًّا مزدوجًا تراوح بين التصعيد والتهدئة مع تحركات غير مباشرة هدفها الردع في مواجهة إجراءات روسية تصعيدية غير المسبوقة. وتتلخص الخسائر والمكاسب لكل طرفٍ على النحو التالي:
أولا- على المستوى العسكري: اتخذت روسيا مجموعة من الإجراءات المتصاعدة والمرتبة بعناية، والتي استهدفت: من جانب أول، قطع الروابط العسكرية مع تركيا، ومن جانب ثانٍ، “عزل” سماء سوريا، وإحباط أي حديث تركي أمريكي عن منطقة آمنة في شمال سوريا، من خلال إجراءات استباقية شملت نشر منظومة صواريخ S400، بما حد من قدرة تركيا على شن أي هجمات جوية داخل الأراضي السورية، وذلك بعد “تغليف” الأجواء السورية، وإدراجها تحت سيطرة “النفوذ الجوي” الروسي، ليتكون ما يمكن أن نطلق عليه “حظر جوي انتقائي”، ومن جانب ثالث، تسليح المقاتلات الروسية بصواريخ جو – جو، بما يعني الاستعداد لأي مواجهة محتملة مع سلاح الجو التركي.
وأفضى ذلك إلى أن معادلة مختلفة وقواعد مغايرة طُبقت أثناء سريان الأزمة الروسية – التركية، حيث عملت موسكو على تعزيز الوجود العسكري في قاعدة اللاذقية، كما اتجهت بالتوازي مع ذلك لتأسيس قاعدة عسكرية أخرى في منطقة الشعيرات في ريف حمص الجنوبي، بحيث يتواجد فيها عدد من الطائرات الروسية بالإضافة إلى عناصر من الاستخبارات وقوات خاصة.
وعلى جانب موازٍ، صعَّدت روسيا من استهداف كافة القوى والميليشيات المحسوبة على تركيا في الشمال السوري، وضربت كل خطوط إمداداتها، وتم إخضاعها للسيطرة النارية الروسية المركزة، بهدف إحباط مخطط القيادات التركية لتطبيق قواعد الاشتباك التركية في الشمال السوري، وذلك انطلاقًا من إستراتيجية رئيسية تتبناها القيادة الروسية تستهدف تحويل كل مشكلة يواجهها التواجد العسكري في سوريا إلى فرصة لتعزيز شرعيته، وتوسيع نطاق العمليات العسكرية المقصودة منه، لتبدو وكأنها تنطلق من عقيدة دفاعية وليست استباقية هجومية.
ثانيًا- على الصعيد السياسي: صعَّدت موسكو من لهجتها حيال تركيا، وتم رفض عقد أية لقاءات ثنائية تجمع الرئيسين الروسي والتركي، كما أعلن الكرملين عدم عقد أي لقاء بين الجانبين على هامش قمة المناخ في فرنسا. وفي هذا الإطار بدا الخطاب الروسي تصعيديًّا من خلال حلقات غير منفصلة تستهدف استنزاف تركيا سياسيًّا عبر تصريحات وإجراءات شبه يومية تتسم بالتصاعد التدريجي لإبطال أي أفكار خاصة بأن الزمن كفيل “بردم القضية”. وقد بدا من ذلك التركيز على قضيتين محوريتين.
أولى تلك القضايا تتعلق بالتعاملات “المشبوهة” لتركيا مع التنظيمات الإرهابية في سوريا، والتي تتضمن شراء النفط من تنظيم داعش، في عمليات غير شرعية يتورط فيها بعض أفراد عائلات الرئيس التركي ذاته، وكان الهدف الروسي من إعلان ذلك عبر منابر مختلفة منها وزارة الدفاع ذاتها، التأكيد على جدية الاتهامات الروسية، وإثبات أن تركيا ليست معنية بمحاربة التنظيمات المتطرفة التي تستهدفها روسيا بالتنسيق مع بعض القوى الغربية كفرنسا، خصوصًا بعد أحداث 13 نوفمبر التي جعلت من الدولتين شبه شريكين في الحرب ضد الإرهاب في سوريا.
وتتعلق الثانية بإحباط أي مشروعات سياسية لأنقرة تستهدف خلق فضاء جغرافي يشهد تجميع التركمان وبعض القيادات السورية التي منحت الجنسية التركية، في منطقة باتت كل المعاملات فيها تتم بالليرة التركية، لتصبح منطقة نفوذ متمدد يمكن أن يلحق حين تتهيأ الظروف بالأراضي التركية. وهذا يعني أن المواجهة بالأساس بين الطرفين ارتبطت بامتلاك كل منهما تصورًا استراتيجيًّا مختلفًا لبقاء شبه دائم على الأراضي السورية، خصوصًا أن موسكو بدورها تخطط لإقامة خمس قواعد عسكرية في سوريا، هذا بالإضافة إلى خططها الخاصة بإعادة تأهيل ميناء طرطوس.
ثالثًا- على المستوى الاقتصادي: لحقت الإجراءات الروسية الاقتصادية بالتوجهات العسكرية والقرارات السياسية في التعاطي مع تركيا، حيث اتبعت موسكو سلسلة متلاحقة من التدابير العقابية، شملت إلغاء إعفاء الأتراك من تأشيرة دخول روسيا، وحظر عمل مواطني تركيا في روسيا، ومطالبة المواطنين الروس بمغادرة تركيا، وإلغاء رحلات الطيران العارض (الشارتر) الجوية بين البلدين، وتوصية شركات السياحة بالامتناع عن تنظيم أي رحلات سياحية إلى تركيا، فضلا عن وقف التعامل مع الشركات التركية التي قدر حجم أعمالها في روسيا بما يتجاوز 60 مليار دولار، كما اتخذت إجراءات لوقف استثمارات تركية قدرت بما يناهز 10 مليارات دولار، كما تم احتجاز عدد من رجال الأعمال الأتراك بعد توجههم للمشاركة في مؤتمر بموسكو. وقد أقرت روسيا بالإضافة إلى ذلك مجموعة من الإجراءات الانتقائية، منها وقف استيراد المنتجات التركية.
كما تم تعليق العمل في مشروعات إستراتيجية، أهمها مشروع خط السيل الجنوبي، والذي يشمل مد أربعة خطوط أنابيب عبر تركيا ومنها إلى الدول الأوروبية بطول يبلغ نحو 910 كم، وتم أيضًا تجميد الاتفاقيات الخاصة بإنشاء المفاعلات النووية، والتي قدرت تكلفة بنائها بنحو 20 مليار دولار، وذلك من أجل إنجاز مشروع محطة “أك كويو” الذي يُمثل أول مشروع محطة نووية في تركيا، ويتضمن بناء 4 مفاعلات بقدرة 1200 ميغاوات.
وبينما قد تؤثر هذه العقوبات على روسيا كونها ذات طبيعة مزدوجة، وتأتي في وقت تعاني فيه روسيا من صعوبات اقتصادية وتستهدف دولة تشكل خامس أكبر شريك تجاري لروسيا – فإن آثارها المباشرة على أنقرة قد تغدو أعمق، فهي ترتبط مع روسيا بعلاقات تجارية بلغت قيمتها العام الماضي نحو 31.5 مليار دولار، وإذا تم الأخذ بعين الاعتبار “تجارة الخدمات” فإن مؤشر التبادل التجاري الكلي (بضائع وخدمات) بلغ في عام 2014 ما يقارب 44 مليار دولار.
وقد وصل معدل التبادل التجاري بين البلدين للأشهر التسعة الأولى من العام الحالي نحو 18.1 مليار دولار، منها 15 مليار دولار هي صادرات روسيا إلى تركيا التي تشكل واردات الطاقة حصة الأسد فيها، حيث تعتمد تركيا على واردات الغاز والنفط الروسية، فتؤمن الأولى للثانية نحو 56% من احتياجاتها من الغاز، وزهاء نصف حاجتها من البترول.
الخيارات المطروحة لروسيا وتركيا:
بناءً على المعطيات السابقة، لا تبدو حادثة إسقاط الطائرة قضية عابرة في سياق مستقبل الأزمة الروسية التركية، وإنما هي على الأرجح قد تشكل علامة فارقة على مرحلتين في تاريخ هذه الأزمة، ذلك أن كل طرف يسعى إلى تشكيل فعل رادع في مواجهة الطرف الآخر، فتركيا من جهتها تتجه لتكثيف تعاونها مع قطر لتعويض أي نقص محتمل في إمدادات الغاز الروسية، ولضمان استمرار دعم مزدوج لفصائل المعارضة بأسلحة نوعية قد يكون منها صواريخ أرض جو، وذلك بالتوازي مع فتح مخازن السلاح التركي أمام بعض الفصائل السورية.
يتزامن مع ذلك، اتجاه أنقرة لنشر بعض منظومات الحرب الإلكترونية البرية (منظومة كورال) على حدودها الجنوبية بالتوازي مع نشر بعض الغواصات التركية بالقرب من تمركز القوات البحرية الروسية، هذا بالإضافة إلى فتح القواعد العسكرية التركية أمام المقاتلات الألمانية والفرنسية والبريطانية.
وفي المقابل، فإن روسيا اتجهت لتصعيد تدريجي للعقوبات الاقتصادية على تركيا، كما أقدمت على إرسال أسلحة نوعية للنظام السوري، وتوجيه دعم عسكري غير مسبوق للمقاتلين الأكراد، وتكثيف عمليات استهداف المليشيات المسلحة بالقرب من الحدود التركية، مع تزويد الجبهة الشمالية السورية بصواريخ “إسكندر”، استعدادًا للبدء في عمليات واسعة النطاق على طول الحدود المتاخمة لتركيا. وعلى ما يبدو فإن الطرفين قد أكملا استعداداتهما لـكافة السيناريوهات ومن ضمنها “سيناريو الكارثة”، ما يعني أن التوترات الروسية التركية قد تستمر، لوقت إضافي، بما يشمله ذلك من احتمالات تصاعد إرهاق الجانبين ووقوع إصابات أو حوادث مفاجئة ناتجة عن تصاعد حدة الاحتكاكات العسكرية أو المشاحنات السياسية.
محمد عبدالقادر
المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية