العراق يواجه التشظي السياسي والطائفي

العراق يواجه التشظي السياسي والطائفي

_68409_71

“حق الحياة” منتهك في العراق، يقدّم هذا التصريح الذي تصدّر تقرير المفوضية العليا المستقلة لحقوق الإنسان توصيفا دقيقا للوضع المتردّي في العراق، منذ أن فتح الاحتلال الأميركي أبواب البلاد للتشظّي السياسي والطائفي.

ولا يستبشر المحللون السياسيون والباحثون المهتمون بالشأن العراقي تغييرا قريبا يمكن أن يضفي بعض التفاؤل على تقاريرهم الاستشرافية حول العراق في العام الجديد، فكلّ التحدّيات مازلت قائمة لأن أسبابها مازلت قائمة؛ بل إن الأسوأ قد يأتي إذا ما تواصل الوضع على حاله مهدّدا بقتل كل حقوق الحياة فيه.

ولا يزال الوضع معقدا مع تراجع عدد القبائل العربية السنيّة في ظل سيطرة القوات الشيعية على بغداد، بالإضافة إلى الأكراد، ومحاولتهم استغلال الأوضاع لتحقيق الانفصال التام عن بغداد، هذا طبعا بالإضافة إلى تنظيم الدولة الإسلامية.

وقد ركّزت التقارير الحقوقية الصادرة مؤخرا بالأساس على تزايد عدد انتهاكات حقوق الإنسان ضد السنّة بالتحديد، حيث يدعم تقرير صدر عن مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ما جاء في تقرير المفوضية العراقية، بأن انتهاك قدسية الحياة المقدّسة أبرز تحدّ يواجهه العراقيون اليوم مع ارتفاع الانتهاكات الطائفية وعمليات التطهير العرقي ومختلف أشكال الإرهاب.

وأفاد تقرير الأمم المتحدة، الذي نشر في الرابع من ديسمبر، أن المدنيين تعرضوا لعمليات خطف وحرق وقطع رؤوس في المناطق التي كان يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية، ثم استعادت السيطرة عليها عناصر من قوات الحشد الشعبي الشيعية. وحذّرت سيسيل بويلي، المتحدثة باسم المفوضية من أن العديد من المسلمين السنة في مناطق عراقية استعيدت من يد تنظيم داعش، يعانون من تزايد الهجمات وانتهاكات حقوق الإنسان.

ووصفت هذه الهجمات بأنها واسعة وتنتشر تدريجيا مع استعادة المناطق من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، لتدخل تحت سيطرة إما الميليشيات الشيعية أو القوات الكردية بما يبقي على التشظي في البلاد.

مسؤولية الولايات المتحدة

يرجع مركز جنيف الدولي للعدالة تفشّي العداء الطائفي في العراق إلى السياسات التي طبّقتها حكومات وضعها الاحتلال الأميركي، وهي التي وفرّت البيئة المناسبة لتردّي الأوضاع إلى ما وصلت إليه اليوم، وهي التي جعلت التقسيم وكوارث أخرى ماثلة للعيان.

وعلى غرار مركز جنيف الدولي للعدالة، حمّلت المسؤولة الأميركية إيما سكاي واشنطن المسؤولية على الوضع الذي آل إليه العراق اليوم. وقالت سكاي، التي خدمت سابقا في العراق)، في مقال نشرته شبكة “سي آن إن”، “لو لم تصر إدارة أوباما على تجاهل السياسيات المدمرة، فإن العملية الديمقراطية التي مهدت لها الولايات المتحدة بعد تدخلها في البلاد لم تكن لتتفكك، وكان يمكن أن نحول دون ظهور داعش. يجب علينا أن نتعلم من أخطائنا إن أردنا أن نقضي على الإرهاب، وأن نبدأ بتهيئة ظروف تسمح بهزيمة داعش عسكريا وأيديولوجيا”.

وتهيئة هذه الظروف تبدأ بمراجعة كلّ السياسة الأميركية الخاطئة، التي ازدادت تعقيدا منذ أن قبل الأميركيون بإيران “حليفا” في العراق. وقد برز المأزق الأميركي مؤخّرا عندما أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، الذي دعمته الولايات المتحدة ليخلف نوري المالكي، عن رفضه لدخول قوات برية أميركية إلى العراق وقال إن أي نشر لقوات برية أجنبية سيعتبر “عملا عدوانيا”.

وكان وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر قد أعلن في الثاني من ديسمبر الجاري، عن مخطط لنشر وحدة من القوات الخاصة بهدف تعقّب مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية في العراق. وذكر مسؤولون أميركيون أن هذه المبادرة تم تنسيقها مع العبادي، لكن “الائتلاف الحاكم والميليشيات الشيعية النافذة في العراق حذّرا من هذه الخطة، مما أثار الشكوك حول ما إذا كان العبادي لديه النفوذ السياسي الكافي لتأمين الاتفاق بشكل نهائي”.

ونشب خلاف مماثل بين تركيا والحكومة العراقية، حين قال العبادي إن نشر القوات التركية دون علم الحكومة العراقية يعد انتهاكا للسيادة الوطنية، وهدّد بالذهاب إلى مجلس الأمن الدولي، وذلك في معرض ردّه على نقل تركيا للمئات من الجنود إلى أحد المعسكرات في منطقة بعشيقة، شمال العراق، تمهيدا لاستعادة الموصل من قبضة داعش.

وأبلغ رئيس الوزراء التركي أحمد داودأوغلو العبادي بأن بلاده لن ترسل قوات إضافية إذا هدأت الحساسيات في بغداد. لكن لا يبدو أن الحساسيات ستهدأ في بغداد قريبا، وفق الباحثة الأميركية مارينا أوتاوي، التي ترى أن لامركزية بغداد هي السبب الرئيس في الوضع الحالي للعراق.

وتشير إلى أن السياسة التي تتبعها الولايات المتحدة لم تأت أكلها إلى حد الآن، وذلك لأن العديد من المراكز السلطة أصبحت أكثر صلابة، ولا تمثل الحكومة إلا أحد هذه المراكز، وهي بحاجة إلى القضاء على المراكز المستقلة الأخرى، فعلى سبيل المثال، لا يمكنها إجبار البيشمركة على تسليم سنجار، وليس لديها الكثير لتقدمه في سبيل إقناع أحدى الجماعات بالانضمام إلى السلطة المركزية.

السياسة التي تتبعها الولايات المتحدة لم تأت أكلها إلى حد الآن، وذلك لأن العديد من المراكز السلطة أصبحت أكثر صلابة، ولا تمثل الحكومة إلا أحد هذه المراكز

أزمة المركز

تشير الوقائع إلى أن بغداد لا تبسط سيطرتها على البلاد، لكن تبدو واشنطن متردّدة بشأن الاعتراف بأن هذا هو الحال السائد، بل إنها لا تزال تتبع نفس سياسة لمنع العراق من التفتت.

ولا تملك بغداد السيطرة على المحافظات الثلاث، التي تقع شمال شرق البلاد، والتي تشكل إقليم كردستان، منذ أن فرضت الولايات المتحدة منطقة حظر الطيران في عام 1991.

واليوم، تسيطر حكومة إقليم كردستان على الكثير من المناطق المتنازع عليها، والأخطر من ذلك أن ما لا تتحكم فيه حكومة كردستان يخضع لسيطرة داعش، وليس في يد بغداد. وتقول أوتاوي إن الأكراد يريدون الاستقلال. والسبيل الوحيد لهذا الهدف هو إضعاف الحكومة المركزية. كما وفقدت بغداد السيطرة على أجزاء كبيرة من المحافظات ذات الأغلبية السنية، واحتل تنظيم الدولة الإسلامية مساحات واسعة منها، وقد ساعده على ذلك،

وتقول الباحثة إن هناك عدم تطابق صارخ بين المطالب الأميركية المتمثلة في إقامة حكومة إصلاحية شاملة في بغداد يمكن أن تجمع البلد الممزق، والوضع الحقيقي في البلاد. فالعراق اليوم لا يتكون من ناخبين على استعداد لاحتضان حكومة مركزية تعمل بصورة ديمقراطية، ووضع كل الاعتبارات الأخرى وراءهم. ولا تتمثل المشاكل في الهويات الطائفية والعرقية فقط؛ بل المشكلة الأكبر، وفق مارينا أوتاوي، تكمن في أن عددا كبيرا من مراكز القوة والسلطة لها أجنداتها الخاصة وتدعمها تنظيمات مسلحة خاصة بها.

وتوضح هذا التشرذم مشيرة إلى أنه في إقليم كردستان يوجد أحزاب سياسية متنافسة مدعومة من ميليشيات تتنافس على السلطة. وفي المناطق السنية هناك الميليشيات القبلية، وعناصر من نظام صدام حسين، والسلطات المحلية المنتخبة، والمسؤولين الحكوميين الذين يحاولون السيطرة على المناطق التي لم يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية بعد. وهناك أيضا الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، والبعض الآخر من المبايعين للمرجع الشيعي آية الله علي السيستاني، ومجالس المحافظات الذين يريدون منحهم المزيد من السلطة. ولا تقتصر المسألة على مدى واقعية الأهداف والمطالب التي من شأنها أن تكون مفيدة للبلاد وللجهات الخارجية، بل تتمثل القضية في أن هذه القوى المتنافسة تحظى بالدعم ولا تريد أن تتلاشى في ظل حكومة مركزية شاملة.

وتخلص الباحثة الأميركية إلى أن عملية بقاء العراق موحدا تعتمد على إلحاق الهزيمة العسكرية ببعض مراكز السلطة، وعلى الأخص تنظيم الدولة الإسلامية، وبالتوازي مع ذلك تعتمد على ما إذا كان الآخرون على استعداد للتفاوض على اتفاق يخول لهم البقاء كجزء ضمن دولة موحدة. وهنا ينبغي على الولايات المتحدة إعادة تركيز أجندتها السياسية في العراق على مساعدة الأطراف المختلفة من أجل التوصل إلى اتفاق جديد بشأن مستقبل البلاد. فحتى لو تم تفكيك تنظيم الدولة الإسلامية في مختلف أنحاء البلاد، على غرار طرده من سنجار، فإن هذه الهزيمة لن تتحول إلى انتصار للعراق، إذا تواصلت السياسات المدمّرة على حالها.

صحيفة العرب اللندنية