بعد التحركات المكوكية لرئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في سياق الانفتاح على المحيط العربي منذ تسلمه المنصب في أكتوبر (تشرين الأول) 2022، يعاد طرح التساؤلات ذاتها المتعلقة بمعوقات فتح باب الاستثمارات والانفتاح الاقتصادي، سواء مع المحيط العربي أو بقية دول العالم.
ولا ينفك رؤساء الوزراء المتعاقبون في العراق منذ عام 2003 وحتى الآن عن إطلاق وعود الاستثمار والتنمية والانفتاح على العالم اقتصادياً، إلا أن أياً من تلك الوعود لم يتحقق طوال العقدين الأخيرين نتيجة عوامل عدة لعل على رأسها سطوة الميليشيات المسلحة على أجهزة الدولة والسلاح المتفلت وتفشي الفساد.
وعلى رغم إبداء السوداني حماسة شديدة في محاولة استكمال خطوات رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي في إتمام الصفقات الاقتصادية سواء مع مصر والأردن والسعودية، إلا أن مراقبين يشككون في إمكان تحقيق ذلك في الأقل خلال الأعوام المقبلة.
في السياق اختتم أمير دولة قطر تميم بن حمد آل ثاني زيارته إلى العراق الخميس الماضي بتوقيع عدد من الاتفاقات ومذكرات التفاهم في مختلف المجالات الاقتصادية، إذ أعلن من بغداد عزم بلاده استثمار 5 مليارات دولار في عدد من القطاعات خلال الأعوام المقبلة.
وقال رئيس الوزراء العراقي إن المحادثات “تناولت مجالات مختلفة من بينها التعاون الأمني والمعلوماتي بما يصب في الحفاظ على الأمن المشترك والإقليمي”.
رسائل إلى الدول الغربية
لا تبدو الإشكالية متعلقة برئيس الوزراء أو إمكان إتمام تلك الشراكات الاقتصادية فحسب، فعلى رغم ما يبديه من حماسة شديدة إزاء تحقيق بعض من تعهداته، إلا أن التحديات الأمنية والسياسية ربما تعوق إمكان أن يتخذ السوداني أية خطوات تتعدى توقيع الاتفاقات الشكلية كما كان يحدث في كل مرة يقدم فيها رئيس وزراء عراقي على توقيع مثل تلك الاتفاقات.
ويرى رئيس منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مؤسسة “غالوب” الدولية منقذ داغر أن الإشكال الرئيس في خصوص الشراكات والمشاريع التي يطرحها رؤساء الوزراء هو “قلة الثقة المتبادلة بين العراق وجيرانه اعتماداً على تاريخ من الإخفاقات السياسية والاقتصادية وهو ما يحتاج إلى وقت طويل لترميمه”، مبيناً أن ما يحفز عدم الثقة أن “المنظور السياسي هو الحاكم في ترويج تلك المشاريع”.
ويضيف داغر لـ”اندبندنت عربية” أن ما يجري حالياً هو إرسال رسائل إلى الدول الغربية مفادها بأن “الحكومة العراقية منفتحة على المحيط العربي وليست تابعة لإيران”، لافتاً إلى أن الغاية الرئيسة من محاولات الانفتاح هي “تسويق تلك الفكرة”.
ولعل الأجدى من بدء تفاهمات وشراكات جديدة، كما يعبر داغر “استمرار وتفعيل المشاريع السابقة”، مبيناً أن ما يعرقل ذلك يتمثل في “إرادة كل رئيس وزراء على إرسال رسائل داخلية وخارجية من تلك التفاهمات، مما بات سمة دائمة للحكومات المتعاقبة في العراق”.
طهران وحدود الانفتاح
كما هي الحال مع كل الحكومات المتعاقبة في العراق، تواجه حكومة السوداني تحديات عدة في ما يتعلق بتوفير أجواء سياسية وأمنية واقتصادية سليمة، خصوصاً مع سطوة سلاح الميليشيات الموالية لإيران والإشكالات السياسية المستمرة وتفشي الفساد في مفاصل الدولة.
ولا يمكن أن تكون الإرادة السياسية لرئيس الوزراء وحدها كافية في ترجمة التفاهمات مع المحيط العربي إلى استثمارات على أرض الواقع، إذ يعاني العراق منذ أعوام عدم استقرار البيئة الاستثمارية وعمليات ابتزاز لشركات عالمية خلال السنوات الماضية، فضلاً عن احتكار أجنحة سياسية رئيسة للأنشطة الاقتصادية في البلاد.
في السياق يعرب أستاذ العلوم السياسية هيثم الهيتي عن اعتقاده بأن ما يجري في سياق انفتاح العراق على المحيط العربي “لا يتعدى المساحة الدبلوماسية”، مبيناً أن غاية الحكومة العراقية هي “إعطاء تصور للداخل والخارج بأن الأوضاع باتت مستقرة”.
ويستبعد أن تواجه دعوات السوداني إلى الانفتاح الاقتصادي على المحيط العربي بتصعيد من قبل الجماعات الموالية لإيران في المرحلة الحالية، لافتاً إلى أن المختلف هذه المرة هو أن “طهران ستكون هي الفاعل الرئيس في رسم حدود هذا الانفتاح من خلال أذرعها السياسية والمسلحة وهو ما يقيد أي إرادة انفتاح حقيقي وإن كانت نوايا رئيس الوزراء صادقة”.
ويشير الهيتي إلى أن “حجم القيود المفروضة على الدولة من قبل قوى اللادولة سيجعل من أي استثمارات مع أية دولة غير طهران محكومة بمدى استفادة تلك الأطراف منها”، مبيناً أن هذا الأمر يضع أي رأس مال عربي يحاول الاستثمار بالعراق “في مواجهة مخاطرة كبيرة”.
مسار طويل
ويعتقد مراقبون بأن أمام أي رئيس وزراء عراقي مهمة شاقة قبل الانطلاق نحو تحقيق شراكات اقتصادية حقيقية سواء مع الدول العربية أو بقية دول العالم، تتلخص في إنهاء سطوة الجماعات المسلحة في البلاد على مؤسسات الدولة ومحاربة الفساد الكبير الذي تعدت حدوده مئات مليارات الدولارات خلال العقدين الأخيرين.
وفي كل مرة يحرز فيها العراق تقدماً على صعيد التفاهمات الاقتصادية مع المحيط العربي، تشن الجماعات الموالية لإيران حملات إعلامية لتهديد تلك التفاهمات، إذ شنت شخصيات سياسية وزعماء فصائل مسلحة موالية لإيران في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 هجوماً واسعاً على أية تفاهمات محتملة بين بغداد والرياض.
ويرى المتخصص في الشأن الاقتصادي رمضان البدران أن بناء علاقات العراق الاقتصادية مع محيطه العربي لا يزال محكوماً بكل من إيران والصين وروسيا التي تتحكم بمعظم الجهات السياسية والمسلحة النافذة في الداخل العراقي، مبيناً أن رئيس الوزراء “لا يعد الفاعل الرئيس في تحفيز تلك الشراكات وتنفيذها وأمامه مسار طويل في تفكيك تلك الجهات أو التفاهم معها”.
ولا يستبعد البدران احتمالية تمرير عدد من الشراكات الاقتصادية التي يسعى إليها السوداني، خصوصاً في حال “ضمان تلك الجماعات المسلحة وأذرعها السياسية مصالحها الاقتصادية”.
ولعل ما يجعل مهمة رئيس الوزراء الحالي “أسهل من سابقيه” كما يعبر البدران هو إمكان سماح إيران والصين بـ”فسح مجال معين لاستثمارات خارج سيطرتهما لإنجاح تجربة الجماعات الموالية لهما شريطة عدم الإضرار بمصالحهما”.
ويبدو أن الأوضاع السياسية والاقتصادية السيئة التي تعيشها طهران وتطور العلاقة بين الصين والسعودية سيسهمان إلى حد ما “في إمكان تحفيز هذه الشراكات”، بحسب البدران الذي يشير إلى أن تلك التطورات “ستدفع الصين إلى فرض بعض الشروط على طهران بعدم دفع أذرعها إلى إثارة أية إشكالات تعرقل تفاهماتها الكبيرة في المنطقة”.
وعلى رغم كل ذلك، يعتقد البدران بأن الاستثمارات العربية والأجنبية التي بالإمكان إتمامها في العراق خلال المرحلة المقبلة “ستكون مرهونة بالشروط الإيرانية- الصينية بشكل لا يضرب مصالحهما الاقتصادية أو السياسية في البلاد”.
ويختم أن “ما يجري في الفترة الحالية اقتصادياً يشبه إلى حد ما فرض طهران على أذرعها في العراق عدم استهداف السفارة الأميركية أو بدء أي تصعيد مع واشنطن”.
وتسيطر جهات حزبية وسياسية منذ أعوام على معظم النشاط الاقتصادي في البلاد وهو نشاط أحادي الجانب يعتمد فيه العراق بشكل شبه كامل على استيرادات تصل إلى حدود 60 مليار دولار سنوياً، الأمر الذي يعتبره متخصصون المعرقل الرئيس لنشوء أي استثمارات إنتاجية في البلاد.
ويصف خبراء اقتصاديون العراق بأنه بات يمثل الرئة الاقتصادية التي تعتاش عليها طهران في أزماتها الاقتصادية المستمرة، فضلاً عن استشعارها أن هذا القطاع ربما يمثل وسيلة للعراق في التخلص من السطوة الإيرانية من خلال بناء تفاهمات مع محيطه العربي.
اندبندت عربي