لا يسع بكين الاكتفاء بالمرتبة رقم 2 من بعد واشنطن، ولا يسع واشنطن أن تفقد المرتبة رقم 1.» بهذه المعادلة يختتم بيار غروسيه، المؤرخ الفرنسي للعلاقات الدولية، كتابه الصادر مطلع هذا العام، «الحرب الباردة الجديدة؟ المواجهة بين الولايات المتحدة وبين الصين».
وهذه المواجهة كما يتقفى أثرها، ويجادل في احتمالاتها، لا تحدث عنده في عالم مواز للحرب الروسية على أوكرانيا.
فهل يدفع الأسلوب الروسي في التعاطي مع البلد الجار واشنطن للإقلاع عن سياسة «الالتباس الاستراتيجي» حيال تايوان، حيث لا تعترف بها، وتمدّها مع ذلك بالسلاح، وتحذّر من ضمّها بالقوة؟
ما ينبّه إليه غروسيه أن الحرب في أوكرانيا شكّلت فرصة غير منتظرة اغتنمتها تايوان لرفع درجة التجهز حيال أي سيناريو صيني مشابه حيالها. «فكما أنقذت الحرب الكورية نظام تشانغ كاي تشيك، لأن إدارة ترومان أزمعت في حينه على حماية تايوان من هجوم صيني (في سياق هذه الحرب) بعد أن كانت مستعدة لتركها إلى حال سبيلها (قبل ذلك)، فهكذا تأتي (حرب) أوكرانيا لتنقذ تايوان مرة أخرى، بالتخفيف أكثر فأكثر من خطر عدوان صيني».
في الوقت نفسه، ثمة اختلاف أساسي بين حال أوكرانيا وحال تايوان. فأوكرانيا لا تقدّم نفسها على أنّها «روسيا الوطنية». هذا بخلاف تايوان.
فحتى العام ألفين كانت الجزيرة محكومة، سلطوياً ثم بالانتخابات، من الحزب الوطني المهزوم في الحرب الأهلية التي اندلعت في البر الصيني، الكيومنتانغ.
والكيومنتانغ كان يغالي في القومية وينتقد أي تفريط بالسيادة الصينية يمكن أن يبدر من طرف الشيوعيين الحاكمين في بكين.
أما الجيل الجديد من حكام الجزيرة فلم يعد كيومنتانغياً. لم يعد يسعى للمزايدة على الصين الشيوعية من موقع القومية الصينية. بل صار يسعى لتكريس انفصاله عنها بدولة أمة مستقلة.
في المقابل، الحزب الشيوعي الصيني الحاكم في بكين منذ 1949 صار يشبه الحزب الوطني، الكيومنتانغ، وثقافته وطروحاته، أكثر مما يشبه حزب ماو تسي تونغ! بالتوازي، فإن تجربة ديمقراطية ليبرالية ناجحة في شعب تعتبره الصين الشعبية جزءاً من أمتها – وهو رسمياً كذلك في وثائق تايوان الرسمية نفسها – يلغي أي وجاهة لخطاب الخصوصية الثقافية الذي يعتبر أن الصين القاريّة غير متجهزة حضارياً لاستقبال الديمقراطية الليبرالية التي على النمط الغربي. لقد توطدت الديمقراطية الليبرالية في تايوان بشكل لا يقارن مع هشاشتها في التجربة الأوكرانية. بالتالي، هي مشروع قابل للعدوى باتجاه البرّ الصينيّ حتى وهي تطلق العنان للفكرة الاستقلالية الحاسمة باتجاه الصين.
يصعب تخيّل كيف يمكن تجاوز الستاتيكو الملتبس أمريكياً بصدد تايوان (عدم الاعتراف بها من بعد الاعتراف بالنظام الشيوعي في الصين، وعدم السماح للأخير في الوقت نفسه بضمها). في الوقت نفسه، يصعب تخيّل اقتدار الصين الشعبية في عصرنا دون مسعى منها لإعادة تحريك المسألة التايوانية. لو أن الكيومنتانغ كان لا يزال في السلطة في تايبيه لكانت الأمور أسهل بما لا يقاس. ولجرى اعتماد صيغة التئام بين الصينين على قاعدة المصالحة بين حزبي الحرب الأهلية، والاعتراف الضمني من طرف المنتصرين في هذه الحرب، الشيوعيين، بأنهم، في زمن ما بعد الماوية، استعادوا شيئاً من روحية تشانغ كاي تشيك. اللافت في المقابل، في كتاب غروسيه، تشديده على أن حقل الدراسات العسكرية في الصين يولي اهتماماً مثابراً، منذ ما يزيد عن أربعين عام، لحرب 1982 بين الأرجنتين وبريطانيا في المالوين / الفوكلاند وتجري المقايسة على هذه الحرب بالنسبة إلى الوضع في تايوان، كالمقايسة بين تحرك الأسطول البريطاني نحو المالوين والتحرك الأمريكي نحو تايوان إذا ما تعرضت لهجوم صيني.
يمكن تقسيم مسار العلاقة بين الولايات المتحدة وبين الصين الشعبية الى ثلاث مراحل تاريخية. العداوة بين 1949 و1972. ثم التقارب، بدءاً من المواجهة المشتركة مع الاتحاد السوفياتي وصولا إلى دور الصين في انجاد الغرب مالياً بعد أزمة 2008
ومع أن الجهد لبناء أسطول صيني ضخم وعصري يبدأ من تلك اللحظة تقريباً، لحظة حرب المالوين، إلا أن الصين لا تزال بعيدة عن تشكيل أسطول يمكن مقارنته بالأسطول الأمريكي، مثلما أن مسعى الصين لإعادة صياغة النظام المالي العالمي لا تزال بعيدة عن مقارعة مركزية الدولار واليورو ضمن هذا النظام.
فهل فعلاً ظفرت الصين بالمرتبة رقم 2 على الصعيد الكوكبي أم أنها مرتبة لم تزل شاغرة منذ انهيار الإتحاد السوفياتي، ومعه الحرب الباردة الماضية، دون أن يستدعي ذلك تحلل الحلف الأطلسي المنتصر، بسبب من ضمور الخصم، و»تأطلس» سائر أعضاء حلف وارسو السابق في بلدان أوروبا الشرقية والوسطى؟
يميل كتاب غروسيه الى استشراف مرحلة مديدة للتزاحم الأمريكي الصيني، مستبعداً في الوقت نفسه حتمية التصادم الحربي المباشر بين القوتين كما استحالته. هو تصادم ممكن، غير مرجح، وغير مستحيل. وبعد كل شيء كم من حرب جرى افتراضها موشكة ولا مفلت منها وما اندلعت بعد ذلك؟ وكم من حرب كتب الكثير حول استحالة وقوعها ثم قاد التصعيد المتبادل إليها، حتى ولو أن طرفي التصعيد كانا يزينان لأنفسهم بأنه لن يصل الى مستوى الحرب؟ الهام في كتاب بيار غروسيه بالأحرى هو التذكير الى أي حد تجارب الماضي، وتحديداً «دروس نهاية الحرب الباردة» السابقة، تلعب دوراً في تأطير مسارات التناقض بين واشنطن وبكين في قرننا هذا.
لقد كان لغروسيه قبل كتابه الأخير مساهمة ملفتة في كتابة تاريخ الحرب الباردة التي دارت رحاها في القرن الماضي منظوراً لها من آسيا. ذلك في كتابه «تاريخ العالم يُصنَع في آسيا» (2019). ويذهب غروسيه الى أن الحرب الباردة انطلقت مبكراً في آسيا، ومنذ العشرينيات، في سياق القلق الغربي من تسرّب الأفكار الشيوعية ورؤى موسكو إلى الحركات الثورية المناهضة للاستعمار في شرق وجنوب شرق القارة.
وغروسيه يعيد التشديد في كتابه الراهن أيضاً على أن الحرب الباردة لم تكن إلا سلسلة حروب ساخنة في آسيا بدءاً من الحرب الكورية. الا أن الحرب الباردة الآسيوية تقرأ بالثلاثية القطبية بين واشنطن وبكين وموسكو لا بالثنائية القطبية على غرار الحرب الباردة، التي اكتفت بأن تكون باردة، في أوروبا. وتاريخ الحرب الباردة في القرن الماضي زحلت فيه الصين من موقع متصادم حربياً، بالمباشر، مع الولايات المتحدة، على الأرض الكورية 1950-1953، أو على جبهة تايوان (أزمة المضيق 1954-1955)، إلى موقع التواطؤ الصيني الأمريكي في مواجهة الاتحاد السوفياتي في السبعينيات، وصولاً إلى الاجتياح الصيني لشمال فيتنام عام 1979.
يمكن تقسيم مسار العلاقة بين الولايات المتحدة وبين الصين الشعبية الى ثلاث مراحل تاريخية. العداوة بين 1949 و1972. ثم التقارب، بدءاً من المواجهة المشتركة مع الاتحاد السوفياتي وصولا إلى دور الصين في انجاد الغرب مالياً بعد أزمة 2008. والمرحلة الثالثة هي التي دخلنا فيها بدءاً من وصول تشي جينبينغ الى السلطة في بكين 2012. المرحلة الثالثة لا تقتصر فقط على أن الصين دخلت باب المنافسة على الهيمنة العالمية مع أمريكا. بل في أنها تعطي مدلولاً أيديولوجيا لذلك. وهذه نقطة مهمة في كتاب غروسيه. بمعنى أن الصين الحالية تتعامل مع أزمة 2008 على أنها دشنت مرحلة مأزقية للغاية في تاريخ الرأسمالية العالمية، بالشكل الذي أعاد فيه تحيين كل من الماركسية والاشتراكية. إنما بشرط الخصائص الصينية. بصيغة أخرى، عند الصين أن نموذجها في رأسمالية الدولة داخل وخارج الرأسمالية في آن. مناقشة ذلك ليس مجالها الآن. لكن هذا التصور حول متغير 2008 وأثره العميق على الرأسمالية أساسي لفهم التصورات التي تحكم الصين حالياً. في الوقت نفسه، يذكر غروسيه إلى أن الصين الشيوعية، على اختلاف مراحلها وتقلبها، لم تعتبر يوماً أن الحرب الباردة انتهت كي تعود. بل أنها مستمرة، إنما المطلوب فيها عدم خوض الحرب بشكل متسرع، غير مدرك لشروطه.
المطالعة التي يقدّمها بيار غروسيه محبوكة بشكل فطن، من ناحية ربط الجيوسياسي بالأيديولوجي، والعلاقات الدولية بالتمثلات حولها، كما من ناحية عدم إحالة المستوى العسكري مباشرة إلى الاقتصاد، أو العكس. يبقى أن الحاجة لفهم مسار العلاقة بين الصين وبين روسيا اليوم لا تجد ضالتها في هذا الكتاب، الذي يكاد يكتفي باهتمام الصين بأن لا تنزلق الى دفع فاتورة أفعال روسيا. لكنه اعتبار لحظوي. خاصة إذا ما قيس باللوحة التي يظهرها الكتاب. لوحة تشكل مجموعة من التقاطعات المواجهة للصين بين اليابان وأستراليا وفيتنام والهند، فيما تقف أمريكا في الخلفية. ألا تدفع سياسة احتواء الصين في إقليمها بكين نحو موسكو على نحو أكثر استراتيجية مما قد تظهره السياسة الصينية الرسمية؟
القدس العربي