تابع العالم بذهول الأحداث الخطيرة التي بدأت يوم الجمعة الماضية عبور قوات مرتزقة فاغنر المقاتلة في أوكرانيا نحو روسيا وإعلان زعيمها، يفغيني بريغوجين، زحفها نحو موسكو، وتلا ذلك وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ما حصل بالتمرد المسلح والخيانة والطعنة في الظهر، وانتهى هذا الفاصل الدرامي بوقف هجومه، والانسحاب بعد وصولها لمسافة 200 كيلومتر من العاصمة، فيما أسقط الكرملين التهم الجنائية الموجهة ضد قائد فاغنر، وإعلان توجهه إلى بيلاروسيا بموجب ما سماه «اتفاق إنهاء الأزمة».
رغم أن بريغوجين ما فتئ خلال الأشهر الماضية، يهاجم قيادات وزارة الدفاع والجيش في روسيا، فإن اتخاذه قرارا بالتمرّد المسلّح ضد «خونة الشعب» و«الحثالة» و«الأشرار» كما سماهم، هو أمر يفوق التصوّر من شخص كان جزءا أساسيا من المنظومة العسكرية والمالية الروسية، وكانت قواته تعتبر رأس الحربة في الهجوم على أوكرانيا، والتدخّل في مناطق عديدة من العالم، إضافة إلى معرفته الوطيدة ببوتين، الزعيم المعروف بعدم تسامحه مع أي معارضة، فما بالك بتمرّد مسلح يمكن أن يهدد العاصمة ويسقط منظومته العسكرية والأمنية.
إلى كونها أكبر عملية تحد حقيقي لسلطة بوتين، فإن تقدّم قوّات بريغوجين داخل روسيا، وسيطرته على مدينة روستوف، «من دون طلقة واحدة» كما قال (وحتى التقاط المواطنين الروس الصور معه) يمكن أن يؤشّر، من ناحية، إلى القبول الذي تلقاه انتقاداته العنيفة للقيادة العسكرية الروسية (ومن ورائها للقيادة السياسية طبعا) كما أنه يمكن أن يعبّر أيضا عن شعور الروس، العسكر والمدنيين المتزايد، بخطأ قرار بوتين، والدائرة الضيقة المحيطة به، بالهجوم على أوكرانيا، وخصوصا بعد تمكّن كييف من وقف الهجوم وإعلان بدء هجوم مضاد، وبعد التداعيات الاقتصادية المؤلمة لذلك القرار على روسيا وشعبها.
يزيد الأمر جسامة أن هذا الإقرار الضمنيّ بخطأ قرار بوتين باجتياح أوكرانيا يجيء من أحد أكثر الأشخاص نزوعا للتدخّلات الخارجية، وقائد أحد أكثر الأجهزة الروسية دموية وانتشارا.
يثير التقدم السريع لقوات فاغنر من دون عوائق لعدة مئات من الكيلومترات وفي يوم واحد التساؤل حول نفوذ بوتين، وتماسك القوات الروسية، وولاء قطاعات من الجيش له، وهذا ما يمكن أن يفسّر إعلان رمضان قديروف، زعيم الشيشان، إرسال قوات «أحمد» الخاصة لمواجهة قوات فاغنر، وهذا ما يرفع من حدة المفارقة حيث تتمكن قوات كثير منها من المرتزقة من اختراق روسيا وأن يكون المدافعون الأشرس عن بوتين وموسكو هم أبناء الجمهورية التي كان أحد مهندسي الحرب التي تعرضت له خلال الصراع مع موسكو بين 1999 و2009، وهذا حدث ذو وجهين، وسواء وصف بالخيانة، من بريغوجين، أو الولاء، من قبل قديروف، فإنه إشارة على حال بوتين وروسيا الكارثيين.
وقف «التمرّد المسلح» بهذه الطريقة «الدبلوماسية» أمر لا يتناسب مع شخصية بوتين أبدا، وفي ذلك دلالة على إدراك «القيصر» الروسي للخطر الهائل الذي كان يمكن أن يؤدي إليه الاشتباك العسكري مع قوات فاغنر، وشكّه ربما في إمكانية دحر تلك القوات، وكذا حسبان التداعيات السياسية والأمنية الكبرى التي يمكن أن ينشأ عنها.
انتهاء «الأزمة» على الشكل الآنف، على أي حال، لن ينهي تداعياتها المستقبلية داخل روسيا، وفي أوكرانيا، وكذلك في أنحاء العالم.
القدس العربي