في أول زيارة خارجية له بعد إعادة انتخابه زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان جمهورية شمال قبرص التركية وأذربيجان، ووجه رسائل للعالم حول ضرورة الاعتراف بجمهورية شمال قبرص التركية. وتأتي هذه الزيارة ضمن تقاليد الدولة التركية، إذ إن كل شخص يتولى منصباً في تركيا تكون أولى رحلاته الخارجية إلى شمال قبرص.
ودعا أردوغان خلال زيارته لشمال قبرص جميع دول العالم إلى الاعتراف بجمهورية شمال قبرص التركية، وشرح أسباب ضرورة هذا الاعتراف، مشيراً إلى أنه سيزور الجزيرة مرة أخرى في الـ20 من يوليو (تموز) المقبل، ليؤكد أنه مهتم ومتابع لهذه القضية.
في الحقيقة ما جرى هو استمرار لعملية بدأت منذ فترة، أي منذ انتخاب إرسين تتار رئيساً لجمهورية شمال قبرص، حين قال في حملته الانتخابية إنه إذا فاز سيصر على حل الدولتين، كما هي رؤية حكومة أنقرة أيضاً وخصوصاً أردوغان.
لن يوافقوا
ودار كثير من النقاشات والمفاوضات بخصوص قضية قبرص، ونوقشت مرات عدة، ولكن في عام 2017 باتت تركيا مصرة على خيار حل الدولتين بعدما اتضح أن القبارصة اليونانيين لن يوافقوا على أي اتفاق يقضي بتقاسم السلطة وتقاسم كل شيء، وهذا ما أعلنه الرئيس أردوغان في الـ20 من يوليو (تموز) 2021 للمرة الأولى، وأعرب إرسين تتار في العام نفسه عن ذلك مرات عدة. كما دعا أردوغان العالم إلى الاعتراف بجمهورية شمال قبرص في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكن اليوم يبدو من خلال حملة انتخابات التجديد النصفي في شمال قبرص أن أحزاب المعارضة ستتخلى عن هذا الخيار في حال فازت، وعموماً فإننا من خلال تصريحات أردوغان الأخيرة نستنتج أن تركيا ستبقى مصرة على حل الدولتين في قبرص، وهذا الحل أسهل على تركيا في عالم متعدد الأقطاب. وبمعنى آخر فإن ترويج تركيا لجمهورية شمال قبرص التركية في عالم متعدد الأقطاب، مقارنة بالعالم أحادي القطب، يحتوي على شروط أكثر ملاءمة.
دور الغرب
وعندما ننظر إلى المسألة من هذه الناحية فإن العالم الغربي هو المسؤول الأكبر عن عدم حل القضية القبرصية حتى الآن، لأنه جعلها “مربكة” بإصراره على القول دائماً “الحل والحل” فقط، ومحاولته استغلال بعض نقاط ضعف تركيا وأخطائها، بينما الهدف الوحيد هو إخراج تركيا من الجزيرة، لذلك من الخطأ الكبير أن نتوقع أن تحل هذه القضية من خلال وصفات العالم الغربي أو من خلال النوايا الحسنة التي لا وجود لها في الأصل، فمن المحتمل أن تحل هذه القضية من الجهات الفاعلة الرئيسة بخلاف الغرب، والدول التي تنتمي إلى العالم التركي في العالم متعدد الأقطاب.
أذربيجان بعد أن حررت أراضيها التي كانت محتلة لم توقع حتى الآن معاهدة سلام رسمية مع أرمينيا، لكن بعد توقيع هذا الاتفاق من المحتمل جداً أن تعترف بجمهورية شمال قبرص التركية، وربما تفعل ذلك قبل توقيع الاتفاق، إذ إن تصريحات رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان تعطي بعض القرائن حول هذا الموضوع، إذ إنهم يقولون مستعدون للاعتراف بكاراباخ كجزء من أذربيجان، كما أن جبل أرارات الموجود في الشعار الرسمي لأرمينيا “لا يعني شيئاً بالنسبة إليه”، إضافة إلى ذلك ستجد تركيا مزيداً من الفرص للترويج لجمهورية شمال قبرص التركية في العالم متعدد الأقطاب، وسترى أن ضغط العالم الغربي عليها في هذا الصدد خف، لكن هذا لن يحدث من تلقاء نفسه، لذلك هناك حاجة إلى سياسات خاصة لكل دولة، وروسيا واحدة من هذه الدول.
موقف روسيا
روسيا كانت دائماً تؤيد الحل الفيدرالي في قبرص تحت مظلة دولة واحدة، لكن عندما نفكر في الأمر بعد اليوم فإن مثل هذا الحل لا يتوافق مع المصالح القومية لروسيا، لنفكر في الأمر ماذا سيحدث عندما تتحول هذه الجزيرة إلى دولة واحدة بأي “حل”؟ ضمن هذا الحل سيتعين على تركيا أن تصافح كلاً من الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي، وبذلك فإن دولة قبرص التي ستنشأ بعد هذا الحل ستصبح هي الأخرى أيضاً عضواً في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وروسيا مستعدة للمخاطرة بحرب كبيرة حتى لا يتوسع الناتو في أوكرانيا، وهي (روسيا) أيضاً شرعت في حرب كبيرة ضد الغرب بأسره، وجزيرة بارزة مثل قبرص لديها القدرة على السيطرة على شرق البحر الأبيض المتوسط بأكمله، لماذا تهبها للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي؟
النخبة الروسية وخبراء السياسة الخارجية الروس الذين يتابعون هذه القضية كانوا يؤكدون أن هذا هو الحل (الحل الفيدرالي)، عبر القول “نعم هذه سياسة سابقة، لكن ضمن الظروف الحالية لم يعد ذلك مفيداً لروسيا”، كما أنه خلال الأيام التي سبقت حرب أوكرانيا وما تلا ذلك، فعل اليونان والقبارصة اليونانيون كل شيء ضد روسيا، وشاركوا في العقوبات عليها، وفتحوا أراضيهم لاستخدام الغرب، وجميع القواعد في اليونان تستخدم ضد روسيا، ولذلك فإن روسيا باتت تعتبر القبارصة اليونانيين من فئة الدول المعادية، ولهذا يوجد حاجة إلى مبادرة هنا.
صفقة متكاملة
إذا كان الحل هو “حل الدولة الواحدة”، وهو سيناريو مطروح، فسيكون ذلك بفضل اتفاق تركيا مع الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي، وهذا يبدو أنه غير مرجح لأن سياسات القبارصة اليونانيين لا تسمح بذلك، وفي الوقت ذاته ستقترب تركيا من الغرب أكثر، وهذا ما لا تريده روسيا، لذلك هناك حاجة إلى مفاوضات جديدة مع روسيا، بعبارة أخرى لدى روسيا أسباب كافية للاعتراف بجمهورية شمال قبرص التركية، لكن هذا لا يحدث تلقائياً، وإنما ضمن صفقة.
خلال هذه الفترة تتحرك تركيا نحو اتفاق سلام في سوريا، وأعتقد أنه وفرت بيئة مناسبة لمناقشة القضية بين الرئيسين أردوغان وبوتين، لكن السؤال ما الذي ستحصل عليه روسيا إذا اعترفت بجمهورية شمال قبرص؟
الجواب هو أنه سيمنع قطعة أرض مهمة جداً مثل قبرص من أن تصبح منطقة تابعة للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، كما سيمنع دولة مهمة مثل تركيا، التي ازدادت أهميتها بالنسبة إلى روسيا في حرب أوكرانيا، من أن تصبح بؤرة بعيدة من الغرب، لذلك من مصالح روسيا الاستراتيجية أن تعترف بجمهورية شمال قبرص التركية، فمن المفيد العمل مع روسيا في هذه القضية.
وكما أسلفت فإن الاعتراف بجمهورية شمال قبرص التركية لن يحدث من تلقاء نفسه، فنحن بحاجة إلى سياسات منفصلة لكل بلد، وأعتقد أن مثل هذه السياسة في روسيا ستؤدي إلى نتائج، وقد رأيت أن ذلك ممكناً من خلال محادثاتي مع النخبة الروسية، ولقاءاتي مع الصحافيين الروس.
اندبندت عربي