كان لا بد من حدوث شيء داخل روسيا بعد أن طال غزو أوكرانيا، وليس التمرد العسكري الذي قاده يفغيني بريغوجين صاحب مرتزقة “فاغنر” سوى احتجاج على أمر وطلب لأمر.
الاحتجاج على إدارة وزير الدفاع الجنرال شويغو ورئيس الأركان الجنرال غيراسيموف وكبار الضباط للحرب التي لعب فيها دوراً مهماً على جبهة باخموت بدعم من الرئيس فلاديمير بوتين، وطلب “العدالة” علناً والسلطة عملياً.
فمنذ بدء الغزو في الـ 25 من فبراير (شباط) 2022 والأنظار مركزة على اتجاهين، أولهما مصير أوكرانيا التي حاول بوتين إنكار وجودها وإلغاء تاريخها بالادعاء أنها جزء “مسروق من أرض روسيا عندما أقام البلشفيك الاتحاد السوفياتي عام 1922 وأنشأوا جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية”، وثانيهما مضاعفات الحرب داخل روسيا.
الغرب فاجأ موسكو بالدعم العسكري والمادي الهائل لكييف من حيث لم يفعل شيئاً عند غزو جورجيا وضم القرم، وروسيا التي سمّت الحرب “عملية عسكرية خاصة” وجدت نفسها في مأزق لا مخرج منه.
أستاذ العلوم السياسية في جامعة “بوردو” كايل هاينز رأى “أن الحرب تسببت بتدمير روسيا معنوياً، جيشها تحطم، واقتصادها على رغم مرونته في مواجهة العقوبات سيستمر في التدهور بسبب تصفية الاستثمارات الدولية وتفاقم الفساد الداخلي وهجرة الشباب المتعلم”.
أندريا كيندال تايلور ومايكل فورمان قالا في “فورين أفيرز” إن الغزو” جعل روسيا أضعف عسكرياً واقتصادياً وجيوسياسياً، وبوتين يمارس أسلوب المقامر، وكلما خسر ضاعف الرهان وخسر أكثر”.
وليانا فيكس ومايكل كيماج كتبا أن “على الغرب الاستعداد للفصل التالي من حرب الخيار الكارثية لبوتين، والروس لن يسيروا وراء القيصر إلا إلى نقطة معينة حيث ينقلبون عليه إذا قادتهم الحرب إلى فاقة عامة”.
وليس أخطر على السردية الروسية من تمرد بريغوجين سوى ما قاله، فهو اعتبر أن الضباط الكبار خدعوا بوتين وقدموا له معلومات خاطئة، واتهم شويغو بأنه دفع إلى الحرب ليحصل على رتبة مارشال، وكشف عن أن المبرر المعلن للحرب ليس صحيحاً، وهو القول إن أوكرانيا ستهاجم روسيا بالتفاهم مع الـ “ناتو”.
لكن عملية بريغوجين تطرح أسئلة كثيرة، فكيف كان مسموحاً له بأن يتهم كبار الضباط بالخيانة والتقاعس في حين صدر قانون في موسكو للحكم بالسجن 15 سنة على من ينتقد الحرب؟ ألم يكن تحت حماية بوتين وهو أصلاً “طباخ الكرملين”؟ وكيف انتقلت قواته التي احتلت باخموت وسلمتها للجيش الروسي من أوكرانيا إلى روسيا بلا عوائق؟ وكيف سيطرت على مدينة روستوف على بعد 200 كيلومتر من موسكو وهي مركز قيادة العمليات العسكرية بإدارة رئيس الأركان الجنرال غيراسيموف الذي قال بريغوجين إنه هرب؟ ولماذا جرى تطبيق قانون مكافحة الإرهاب في موسكو وتم قطع الطرق إليها بالحواجز الترابية؟ أليس لأن الخوف كان قوياً؟
بعض الأجوبة في “الصفقة” التي أجراها رئيس بيلاروس ألكسندر لوكاشنكو مع صديقه القديم بريغوجين بموافقة بوتين، فلا محاكمة للمرتزقة الذين تمردوا وسيطروا على مواقع عسكرية في روستوف وجوارها بل دعوة إلى توقيع عقود مع وزارة الدفاع، ولا عوائق أمام عودتهم لمواقعهم على الجبهة، والاتهام الجنائي ضد بريغوجين جرى سحبه، وقبول المحكومين بالسجن في الجيش صار قانوناً وقعه بوتين من ضمن قوانين أخرى في يوم واحد على طريقة الأنظمة في العالم الثالث، ولوكاشينكو يضمن بريغوجين في بيلاروس.
الواقع أن بوتين في حاجة إلى “فاغنر” التي خسرت 10 آلاف رجل في معركة باخموت، لا فقط في حرب أوكرانيا بل أيضاً في حروب ليبيا والسودان وسوريا كما في عدد من الدول الأفريقية، وليس واضحاً إن كان بريغوجين قد لعب دوره بالاتفاق مع بوتين، لكن المؤكد أن الرئيس الروسي يمارس التلاعب بمساعديه ودفعهم إلى أن يلعب بعضهم ضد بعض من أجل الحفاظ على السلطة والحيلولة دون المفاجآت.
وإذا كان الغرور دفع بريغوجين إلى التمرد على قيادة الجيش وصولاً إلى السلطة فإن أمثلة عدة مشابهة سبقته في التاريخ، من المماليك الذين صاروا سادة إلى رضا بهلوي الذي انقلب على سادته وأعلن نفسه الشاه الجديد، ومن تمرد الإنكشارية أيام السلطنة العثمانية إلى تمرد والي مصر محمد علي وحربه في سوريا على السلطنة، وصولاً إلى تمرد الجنرالات الفرنسيين المتعصبين في الجزائر على الجنرال ديغول.
الانطباع السائد من خلال القراءة في رد فعل موسكو على تمرد بريغوجين هو أن بوتين في أضعف حالاته حتى إشعار آخر، لكنه ذئب جريح لا أحد يعرف مدى ما يفعله للانتقام.
اندبندت عربي