ظاهراً، وفي العمق، تشكل العسكرة الإرهابية المتنامية، بسماتها التكفيرية الخاضعة لأوامر من نظروا لـ “الفسطاطين”، وأدلجوا “الفكر الإسلاموي”، وساهموا في إصدار مراسيم “الخليفة” والأمراء والولاة الذين عينهم، واحدة من ظاهرة الإرهاب الحديث والمعاصر، والأكثر تعولماً، ذاك الذي يتسرطن، كلما أوغل في نزوعه السلطوي، في بحثه عن مكامن السلطة الفعلية، وترسم مسلكياتها القمعية، وإحلال فنون القتل والتفجير والإرهاب بديلاً للسياسة، حتى، وإن وصل الأمر إلى تقديس إحلال الموت بديلاً للحياة، على قاعدة كون القتل والإرهاب الإجرامي إنما هو السبيل الأوحد للوصول إلى هدف “قطف” السلطة السياسية والدينية، في اندماجهما المتعمد لتوليد وإنتاج استبداد شمولي عتيق يتجدد، وتوتاليتارية حديثة، توائم بين متطلبات صيرورة السلطة على شاكلة تلك القديمة، وسيرورتها واحدة من متطلبات عصر الحداثة بتقنياتها المعولمة.
وإن تكن ظاهرة العسكرة قديمة، قدم التوجهات السلطوية لبعض الفرق “الإسلاموية”، إلا أنها، اليوم، تبدو في تفشيها وتناميها لدى فرقٍ كثيرة وصولاً إلى قواعدها وعناصرها الصغرى، نوعاً من عسكرة قسرية عنيفة وإرهابية ضد الغير أو الآخر، وإرعابية ضد عناصرها الذاتية وقواعدها الداخلية، في مواجهة احتمالات التمرد، أو الارتداد عن مبايعة رأس الإرهاب التكفيري أو رؤوسه، كيفما تجلى أو يتجلى نمط التنظيم أو الفرقة، وصولاً إلى “مؤسسة الخلافة” رأس سنام ذاك الإرهاب وتلك العسكرة التي بلغت الأوج في إسفافها لتجنيد حتى الأطفال في معسكراتها التدريبية، وحضهم على القتل ذبحاً، والإجرام والتفنن في النحر والسحل والتفجير.. وإلى آخر قائمة العسكرة الإرهابية، وتشويه الطفولة وقتل جوهرها الإنساني، تمهيداً لقتل المجتمع ونحر الدولة، وتفتيت اجتماعهما وإجماعهما على تقديس الحياة، بدلاً من تقديس الموت.
تجلت ظاهرة العسكرة الإرهابية عبر مجموعة من المراحل، ربما كانت بدايتها في هجمات سبتمبر/أيلول 2001، حيث مثلت نخبة النخبة “صاحبة الفلسطاطين”، ومن قبلها تركيز وجودها في أفغانستان، وبدعم سلطات عديدة للدول، المرحلة الأولى لظاهرة العسكرة الإرهابية، إلى أن وصلنا إلى مرحلة وسيطة، مثلت فيها شرائح واسعة من النخبة القيادية “الإسلاموية” الطلائع الأولى لبدء تفشي ظاهرة العسكرة على نطاق واسع، ومن خارج إطار التنظيمات والفرق، وصولاً إلى قطاعات مجتمعية طالما كانت “محيّدة” عن خوض هذا المعترك. وهنا، باتت العسكرة الإرهابية تتفشى على نطاق أكثر توسعاً، وامتداداً حتى الخوارج العربية والإسلامية.
وما تشهده أوروبا اليوم واحدة من نتائج تلك العسكرة التي نشأت وانطلقت من أفغانستان،
وصولا إلى القارات كلها، بحيث بات التدين “الإسلاموي” يرتبط بعسكرةٍ لا مثيل لها، عسكرة لا تعرف الحدود والضوابط والمعايير، لا الدولتية ولا المجتمعية ولا الدينية، ولا الأخلاقية، على أن القائمين بها لا يمتون بأي صلة للإنسان في ملكوته الدنيوي، وفي حياته الأقدس من دنس الموت السلطوي، وجحيمه الرابض في ثنايا أيديولوجيات التعسكر والتكفير وإرعاب النفس البشرية، مما قد تلاقيه، إذا لم تستجب لأوامر أعداء الحياة الإنسانية ونواهيهم، من أكاذيب دعاة “الفسطاط الأوحد”، وهم يتسيّدون سلطة الأمر والنهي، وما على الآخرين سوى قتل الحياة والاستمتاع بالموت قبل الموت، سمعاً وطاعة لأولي الأمر، الخارجين عن نواميس مجتمعاتهم وقيمها وأخلاقها، وكل المشتركات الإنسانية التي يجري التضحية بها، على مذبح قيامة ما لن يقوم لخلافتهم قائمة، في زمن اندثرت فيه العديد من أشكال الاستبدادات الشمولية، ولم تعد الأديان وقفاً على دعاة يدعون الناس إلى “الموت الرحيم”، وقداسته المدّعاة، وترذيل الحياة ورجمها بكل أنواع العسكرة الإرهابية والتكفيرية.
وتدلل العمليات التفجيرية والهجمات المسلحة التي ازدادت، أخيراً، داخل البلدان العربية وفي الخارج (أوروبا تحديدا) أننا في مواجهة إرهاب متعسكر، أو عسكرة إرهابية، تعتمد على بعض أنماط من عامة الناس، ربما من غير المتدينين، وليس على فئاتٍ من النخبة، كما وليس استناداً إلى أفراد معزولين متفردين ووحيدين، على ما درج الإرهاب أن ينمط ذاته، أو أن يحتفظ بمعايير خاصة به، اعتماداً على “ذئب متفرد”، فقد بتنا أمام نمط من “ذئاب متعددة”، تتبع سلوكاً وحشياً في شن عملياتها وبتقنيات عالية، قد تفوق أحدث تقنيات تدريبات الجيوش الحديثة، على ما يقدر خبراء مكافحة الإرهاب في العالم.
أخطر ما يمكن الوصول إليه من استنتاجات، أن تتحول مجتمعاتنا إلى بؤر لتخريج إرهابيين محترفين، يجرفهم تيار العسكرة الإرهابي نحو القيام بعمليات محلية، أو يجري استقدام أو تصدير إرهابيين إلى الخارج، يشاركون أمثالهم في عملياتٍ ضد بلدان يعيشون فيها في منتهى الأمان والاستقرار، فما كان جزاؤها إلا هز استقرارها وارتكاب المجازر الوحشية والقتل والتفجير والإرهاب.
إنها قمة العبث، العبث بالدين وبالدولة وبالمجتمع، وبأخلاقياتٍ لم تتخلق مجتمعاتنا بها إلا بالتشارك مع قيم وأخلاقيات إنسانية، ليست تختلف عن منطلقات أي دين أو مجموعة بشرية، على عكس هذا النمط الإرهابي ومعاييره العسكرية الخارجة عن كل القوانين، والمعايير الدولية المتعارف عليها، كونها تمثل مشتركاتٍ لا يمكن إلا القبول بها في عالم لنا، على الضد من عوالم لهم ليست لنا على الإطلاق.
ماجد الشيخ
صحيفة العربي الجديد