أوكرانيا واتخاذ القرار في روسيا

أوكرانيا واتخاذ القرار في روسيا

منذ مقالتي الأخيرة هنا أتابع ما يصدر من أخبار وتصريحات في غاية التفاؤل عن مصادر غربية بأن أيام بوتين أصبحت معدودة وأن النصر الغربي أصبح وشيكاً.

كما سمعت تصريحاً غريباً لمدير الاستخبارات المركزية الأميركية ويليام بيرنز بأن الهزة الروسية وفرت فرصة نادرة وفريدة ومحورية لتجنيد عملاء روس لمصلحة الولايات المتحدة، وهي أخبار وتصريحات ومواقف أرى فيها كثيراً من السطحية تعكس عدم فهم لطبيعة المؤسسات والشخصية الروسية أو تجاهل لحجم الدولة العميقة في البلاد، وهو ما استغربته من بيرنز الذي كان سفيراً لدى موسكو وقد اعتدت منه المواقف الحكيمة خلال عملي سفيراً في واشنطن.

وبعيداً من الموقف الغربي حاولت استيضاح وفهم دائرة صنع القرار الروسي المحيطة بالرئيس بوتين في شأن أوكرانيا، كما راجعت لقاءاتي الشخصية والمباشرة مع بعضهم خلال عملي الدبلوماسي والسياسي كوزير لخارجية مصر في 2013-2014، ولا جدال أن صاحب القرار الرئيس والحاسم هو الرئيس بوتين الذي ذكر في لقاء جمعني ووزير الدفاع آنذاك عبدالفتاح السيسي بموسكو أوائل 2014 أن الغرب عامل بلاده بعدم الاحترام وأنه سيستعيد هيبة بلاده، وهي شكوى كررها أيضاً في لقاءات جمعتني معه بعد مغادرة منصب وزير الخارجية.

ووجدت أن سكرتير مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف وهو بمثابة مستشار الأمن القومي من أقرب المقربين لبوتين، ومنذ السبعينيات خلال وجودهما في ليننغراد كما عمل معه في الاستخبارات الروسية، وتولى بعده مباشرة ولمدة تسعة أعوام رئاسة الـFSB الاستخباراتية، وهو المسمى الجديد لـKGB.

والتقيته في خريف 2013 بناء على إلحاح لافروف الذي وصفه لي بأنه أفضل قناة لتوصيل المعلومات إلى بوتين الذي كان على سفر حينذاك، ودام اللقاء أكثر من ساعتين برز فيه اهتمامه الشديد وقلقه من أن يحيي التطرف في الشرق الأوسط مشكلات لروسيا في الشيشان، وكان ملماً بالتفاصيل وصاحب النظرة الأمنية الحادة، مهتماً بالسيناريوهات المختلفة والمؤامرات والخطط المعدة مسبقاً للتعامل معها.

ويتردد أنه دافع في اجتماع روسي عالي المستوى قبل أحداث أوكرانيا بأيام معدودة بأن الولايات المتحدة تستهدف إضعاف روسيا، وهو ما صرح به وزير الدفاع الأميركي عقب  اندلاع العمليات العسكرية، وهذا لا يعني أن الهجوم الروسي كان القرار الصائب لأن المعارك العسكرية لم تحسم لمصلحة روسيا حتى الآن، بل ترتب عليها توسيع وجود دول حلف شمال الأطلنطي على الحدود الروسية.

ومن الدائرة المصغرة أيضاً الرئيس الحالي لـFSB ألكسندر ليتفينينكو الذي تولى هذا المنصب بعد باتروشيف مباشرة، وهو كذلك من كوادر KGB السابقة، وتعود أصوله السياسية لمدينة ليننغراد أيضاً، وترجح المصادر أنه رجل أمن وتأمين لمصلحة بوتين وليس منظراً سياسياً.

وعلى المستوى العسكري فأقرب المقربين لبوتين وزير الدفاع سيرغي شويغو، وهو شخصية مسيسة تردد أنه ربما يكون خليفة بوتين قبل أن تخرج العمليات العسكرية في أوكرانيا عن السيناريوهات المتوقعة والمطلوبة روسياً.

وشويغو ليس من الكوادر العسكرية مثل من سبقوه في هذا المنصب في النظام الروسي، علماً أن دولاً غربية عدة تعين شخصيات مدنية وزراء للدفاع، وتترك الجوانب العملياتية لرئيس الأركان، ويحسب لشويغو أنه من المنظرين الروس الذي يستمع إليهم بوتين، وقد التقيته أكثر من مرة خلال اجتماعات (2+2) المصرية- الروسية لوزيري الدفاع والخارجية لمصر وروسيا، فوجدته جاداً وملماً بملفاته وإنما مقل في الحديث خارج تخصصه.

أما رئيس الأركان فاليري غيراسيموف، فهو أطول من تولى هذا المنصب منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وكان له دور مهم في حرب الشيشان عام 1999 عبر السيطرة على القرم، لذا كلف بالتخطيط للعمليات في أوكرانيا ولا يزال في موقعه على رغم تعثر القوات الروسية في تحقيق النتائج المتوقعة.

وهناك شخصيات دبلوماسية واقتصادية مهمة بينها بالطبع وزير الخارجية لافروف ورئيسة البنك المركزي إلفيرا نابيولينا، وكان لهما دور مهم في التصدي للهجمة السياسية الغربية والعقوبات الاقتصادية التي فرضت على البلاد، وكلاهما مشهود له بالكفاءة العالية في مجال عمله، وقد تزاملت مع لافروف كوزيري خارجية وكان قوياً في طروحاته قليل التوتر، ونجحت نابيولينا في التحصين الأولي لكثير من الموارد الاقتصادية.

مع هذا أستبعد أن يكونا في الدائرة المصغرة حول بوتين على الدوام ولاحظت أن تصريحات وزير الخارجية الروسي قبل اندلاع المعارك كانت متناقضة، كما أن بعض لقاءاته النقاشية بعد ذلك عكست عصبية غير معتادة من الدبلوماسي المحنك صاحب التجارب الكثيرة والخبرة الطويلة.

وهناك آخرون مقربون لبوتين وقد يتناوب بعضهم داخل الدائرة وخارجها بحسب الموضوع والظروف، فضلاً عن دور مجلس الأمن القومي الروسي، ويصدر نائبه ميدفيديف عدداً من التصريحات المتشددة، وإنما أهم ما يجمع المقربين أنهم من “أهل الثقة” الملازمين للرئيس الروسي عبر مراحله السياسية المختلفة الذين يشاركونه الأفكار والتوجهات  والتجارب الأمنية الاستخبارية.

ولا غبار على أنه كان هناك خطأ روسي سياسي استراتيجي وجسيم في الهجوم على أوكرانيا كاملة في أول الأمر، مما جمع الغرب في سلة واحدة داعمة لحلف شمال الأطلنطي، وتعددت الأخطاء العسكرية العملياتية في تقدير قدرات وعزيمة الدفاعات الأوكرانية، كما اتخذت قرارات سياسية متسرعة لضم أراضٍ رسمية ثم الانسحاب من بعضها.

وهي أخطاء تعكس سوء تقدير الدائرة المصغرة أو المطبخ السياسي للموقف، أو أنه لم يكن يصله أو يتقبل معلومات وآراء متنوعة ومختلفة، وطبعاً جاء تمرد “فاغنر” نهاية يونيو (حزيران) الماضي ليكشف عن خلل في آليات اتخاذ القرار الروسي، استدعى مراجعة عاجلة وغير تقليدية. ولعل روسيا والعالم أجمع يتفهم ويقدر أهمية تأمين معلومات وافية وآراء ثاقبة وعقول حكيمة في اتخاذ القرارات الوطنية والدولية المهمة.

اندبندت عربي