نشرت مجلة “بوليتكو” في نسختها الأوروبية مقالا أعده جيمي ديتمر، قال فيه إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هو “أستاذ المساومة في السياسة العالمية”، ففي قمة الناتو التي عقدت في الأسبوع الماضي بليتوانيا أغضب الرئيس شركاءه وأعداءه على حد سواء حيث حرف المفاوضات الدبلوماسية لصالحه.
وقال إن فيكتور أوربان، رئيس وزراء المجر، يشبه في إزعاجه لحلفائه الأوروبيين تركيا أردوغان. وأي شخص كان يعتقد أن طول حكم الرئيس التركي كان سيقلل من قدرته على المفاجأة، عليه التحرر من هذا الوهم ومراقبة رحلة الرئيس التركي الكبرى للقمة السنوية للناتو في فيلنيوس، الأسبوع الماضي.
فقد أدهش أردوغان الحلفاء الغربيين وفلاديمير بوتين، من خلال دعمه الواضح لمحاولة أوكرانيا الانضمام للحلف العسكري، قائلا إن البلد الذي مزقته الحرب “يستحق عضوية الناتو”، وأتبع هذا الكلام برميه قنبلة مستحيلة مقابل رفع الفيتو عن انضمام السويد إلى الناتو: على الاتحاد الأوروبي أن يدفع طلب عضوية تركيا في الاتحاد المتوقف منذ وقت طويل.
وبدا أن القمة ستنحرف عن مسارها وهو التركيز على أوكرانيا. وقبل رحلته إلى ليتوانيا قال أردوغان “يجب ألا يتوقع أحد مني تنازلات أو تفاهمات”. وفجأة دار دورته الكاملة، وبعد ساعات من الدبلوماسية المجنونة، صافح الزعيم التركي الأمين العام للناتو يانيس ستولتنبرغ ورئيس الوزراء السويدي أولف كريسترسون اللذين بدت علامات الارتياح عليهما. فقد رفع الفتيو عن انضمام السويد بعد عرقلة الملف لأشهر لأن ستوكهولوم تدعم وتقدم الملجأ للناشطين الأكراد الذين تصفهم أنقرة بالإرهابيين. وحتى بطريقته الزئبقية فقد فاجأ أردوغان الجميع.
ويرى ريتش أوتزين، الزميل غير المقيم في المجلس الأطلنطي أن أردوغان من خلال لي السياسات والتحول وتغيير المواقف، حقق عددا من التنازلات الجوهرية “عليك الاعتراف بأن أردوغان لعب ورقته بشكل جيد فيما يتعلق بالمصالح القومية التركية”. وفي الوقت نفسه، وجدت روسيا نفسها خاسرة عندما قرر أردوغان وبدون مقدمات تسليم قادة وحدة أزوف الذين احتجزهم بناء على طلب روسي لحين انتهاء الحرب. واشتكى المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف من خرق تركيا “الثقة”، وقال بيسكوف متذمرا “لم يخبر أحد روسيا بعملية التسليم” و”كان من المتوقع أن يظلوا في تركيا حتى نهاية النزاع”.
وفي البداية تبدو ألعاب أردوغان زئبقية وفوضوية، لكنها تحمل كل علامات المساومة واللياقة العثمانية في سوق إسطنبول الكبير، مع خلاف أن السقف أعلى. وبالنسبة لأوتزين فما فعله أردوغان، في الأسبوع الماضي هو ما يفعله دائما، حيث يحاول اللعب على كل الأطراف والمساومة المتقلبة، وليس مجرد إبقاء قدمي السويد في النار بسبب الناشطين الأكراد. وقال أوتزين إن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أساءوا قراءة أردوغان فيما يتعلق بملف توسيع الناتو وعضوية السويد فيه. فهم يرون فيه “شخصا سيئا ويقوم بمحاضرة السويد بطريقة قاسية وبدون داع حول عضويتها لكي يتراجع بعد الضغط المناسب والنشط من الغرب”.
إلا أن أوتزين الذي عمل في وزارة الخارجية، في المجال المدني والعسكري وعمل في مكتب تخطيط السياسات يرى أن هذا الموقف ليس صحيحا، فلم يكن لدى أردوغان أي نية للوقوف أمام عضوية السويد، لكنه كان يبحث عن الصفقة الأفضل. فتركيا، عضو في أهم حلف عسكري في العالم، وكان الأتراك راغبين، مبدئيا بتوسيع الحلف و”أعتقد أن أردوغان كان يلعب لعبة تقوم على فكرة أنه سيسمح للسويد في النهاية بالدخول، ومعرفة هذا مع قرب القمة فإنه كان يستطيع زيادة خياراته الجيدة والحصول على التنازلات”، كما يقول أوتزين.
ومن بين التنازلات شراء 40 طائرة أف-16 ومعدات لتحديث الطائرات التي تملكها تركيا. ففي الوقت الذي نفى فيه مستشار الأمن القومي جيك سوليفان أي رابطة بين الدعم التركي للسويد وصفقة أف-16، لكن أي محقق جيد يعرف أن المصادفة نادرة. وطالما عارض المشرعون الأمريكيون الصفقة لتركيا وتعرضوا لضغوط في الأسبوعين الماضيين من إدارة بايدن لكي يتخلوا عن معارضتهم، حيث ازدادت الجهود مع قرب القمة. واستطاع الزعيم التركي تحقيق تنازلات أبعد من المقاتلات حسب الأكاديمي التركي إيمري أوسلو، فالدول الغربية ستقوم برفع العقوبات التي فرضت على أنقرة عام 2019. فقد كانت هذه العقوبات ردا على شراء أنقرة نظام أس-400 الدفاعي الصاروخي من روسيا والتوغل التركي في شمال- شرق سوريا.
وفي البيان الصادر عن الناتو بعد لقاء أردوغان مع ستولتنبرغ وكريسترسون جاء: “لن تكون، مبدئيا أي قيود وعقبات وعقوبات للتجارة والاستثمار بين الحلفاء. وسنعمل باتجاه إزالة هذه العقبات”، وكان هذا مكسب كبير للزعيم التركي. وقال أوسلو إن أردوغان ضغط لرفع العقوبات عن قطاعات الطيران لأسباب تتعلق بالدولة والعائلة “تعتبر صناعة الطيران مهمة لمشروع أردوغان وبناء مجمعات صناعية عسكرية، ومعظمها تعود إلى مصالح يملكها المقربون منه وصهره سلجوق بيرقدار”.
وفي الوقت الذي لا تزال الدول الغربية تتعافى من الأساليب القاسية التي استخدمها أردوغان إلا أن رد روسيا كان صعبا، ولأول مرة تنتقد موسكو تزويد أنقرة بالمسيرات إلى أوكرانيا التي تستخدمها وبفعالية جيدة. وتنتظر روسيا توضيحات من أنقرة حول تسليم أسرى الحرب. واشتكى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لنظيره التركي هاكان فيدان حول الدعم العسكري “المدمر” لأوكرانيا.
وأدت تحركات أردوغان بالمعلقين والساسة الأوروبيين للتساؤل إن كان قد حول نظره من جديد للغرب. فلطالما تساءلوا عن استدامة علاقة بوتين- أردوغان. وبدأت عندما أسقط الطيران التركي مقاتلة روسية قرب الحدود التركية- السورية في 2015، وتساءل البعض إن كانت العلاقة ستنهار بسبب الطموح الجيوسياسي الكبير لهما، فقد كان على جانبي الصراع في سوريا وليبيا. إلا أن بوتين وأردوغان استطاعا تجزئة العلاقة والمواقف في القضايا الحساسة، وكان لدى أردوغان ورقة رابحة، فقد رفض فرض العقوبات الغربية على روسيا. ويأمل بالتفاوض مع بوتين على تمديد اتفاقية نقل الحبوب عبر البحر الأسود، ومن المحتمل تكرار عرضه بلعب دور الوسيط بين روسيا وأوكرانيا.
ويعتقد أوتزين أن أردوغان لن يتخلى عن أسلوب اللعب مع الجميع، تماشيا مع السياسة الخارجية التقليدية “بالنسبة له فالقرار أن يكون في صف الغرب لا يتماشى مع شخصيته”.
القدس العربي