حين منع بوتين تصدُّع حلف الناتو

حين منع بوتين تصدُّع حلف الناتو

ربما هي واحدة من أهم المفارقات التاريخية في عصرنا الحديث، أن يأتي رئيسٌ تناصب بلاده حلف شمال الأطلسي (الناتو) العداء، ليُخرج هذا الحلف من حال الموت السريري التي عانى منها سنوات، ويعيد له الحياة، مع مَدِّه بعناصر جديدة من أسباب القوة. هذا ما فعله الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، حين غزت قوات بلاده أوكرانيا، قبل سنة ونصف السنة. يومها استشعرت الدول الأوروبية خطراً داهماً قد لا يتوقّف عند حدود أوكرانيا، فسارعت إلى تغيير سياساتها، وتبديل عقائدها، لتزيد من تسلحها وتقوّي تحالفاتها. ومن الدول الأوروبية مَن تخلّت عن حيادها، وقرّرت الانضمام إلى هذا الحلف لتحظى بحمايته من القوات الغازية. أوصلنا هذا كله إلى صورة التناغم والتفاهم والوحدة الذي رأيناها في قمة الحلف أخيراً في عاصمة ليتوانيا، وهو مشهدٌ لم نعهده منذ سنوات.
من يرى قادة الدول المشكّلة حلف الناتو الذين اجتمعوا قبل أيام في قمّة الحلف في فيلنيوس الليتوانية على ما هم عليه من ألفة، وسعي إلى تخطّي العقبات، وحل المشكلات العالقة لزيادة قوّة هذا الحلف، لا يصدّق أن هؤلاء هم أنفسهم الذين سادت الفرقة وقلة الثقة بينهم قبل سنوات، وجعلت الجميع يعتقدون أن الحلف صار قاب قوسين أو أدنى من الانهيار. ولعل الكلام الذي خرج به الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أواخر سنة 2019، ووصَّف فيه حال الحلف، عشية إحياء الذكرى السبعين لتأسيسه، حين قال لمجلة إيكونوميست: “ما نعيشه حالياً هو الموت السريري لحلف الناتو”، لعله التوصيف الأصحّ لما وصل إليه هذا الحلف العسكري الأكبر في العالم من وهنٍ وتنافرٍ بين أعضائه، نتيجة التحدّيات التي كانت تواجهه، وهددت مصيره يومها. وكان الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، قد سبق ماكرون بتوصيفٍ مشابه حين قال، في لقاء صحافي بداية سنة 2017: “إن حلف الناتو عفا عليه الزمن، لأنه لا يتصدّى للإرهاب”، وذلك حين طالب بتقاسم عبء تمويله.

فقد الأوروبيون الأمل في أي عملٍ مشتركٍ مع الولايات المتحدة في ظل ترامب

وسّع ماكرون من انتقاداته وتوقعاته بشأن منظومة غربية أخرى، الاتحاد الأوروبي، حين حذّر من اختفاء أوروبا عن الخريطة الجيوسياسية إذا لم تحدث فيها يقظة إدراك لوضعها القائم، في ظل الاستقطاب الدولي الحادّ نتيجة صعود الصين، ونتيجة عدم تحبيذ ترامب فكرة المشروع الأوروبي الواحد، وما يترتّب على ذلك من سياسات انعزالية، اتضحت في سياسة ترامب التي تقول بـ “أميركا أولاً”. وكان الأوروبيون قد فقدوا الأمل في أي عملٍ مشتركٍ مع الولايات المتحدة في ظل ترامب. بل ذهبوا إلى توقّع حدوث حرب تجارية بينهم وبين الولايات المتحدة، حين أخذ ترامب يتحدّث عن التجارة بين الطرفين، وعن استغلال الأوروبيين أميركا. كما وصل به الأمر حد الإفصاح عن موقفه الحقيقي من الاتحاد الأوروبي في لقاء له مع شبكة “سي أن أن” أواسط سنة 2018 عبر القول: “إن الاتحاد الأوروبي خصم”. ولم يتوقّف ترامب هنا، إذ تطرَّف فصنَّف هذا الاتحاد الخصم الرئيس للولايات المتحدة بين خصومها الكُثر. وكان هذا الكلام أشبه بدقّ إسفين في الثقة بين الطرفين جعلت الأوروبيين يتحدّثون عن “سيادة أوروبية” أكبر، وعن تشكيل قوة عسكرية أوروبية موحّدة، يستعيضون بها عن حلف الناتو الذي يجمعهم مع أميركا وغيرها. وحتى بعد مغادرة ترامب البيت الأبيض، ساد اعتقاد لدى محللين أوروبيين بأن الأمل ضعيف في عودة العلاقات بين ضفّتي الأطلسي إلى ما كانت عليه قبل ترامب.

سيكون انضمام السويد، كما انضمام فنلندا قبلها، بمثابة العتبة الجديدة التي سيدخل الحلف من تحتها إلى حقبة جديدة

قبل يوم الغزو الروسي لأوكرانيا، في 24 فبراير/ شباط 2022، لم يكن أحدٌ يتخيّل أن هذا الواقع يمكن أن يتبدّل يوماً مهما بُذل من جهد، ومهما ظهرت دعوات إلى طي الخلافات، ومهما جرت محاولات للنفخ في روح الحلف أو حتى روح الاتحاد الأوروبي. حتى عندما فاز جو بايدن بالانتخابات الرئاسية الأميركية، اتُّهم من عوّلوا على عهده بأن يغيّر هذه الحال بالسذاجة. كان ذلك نتيجة التغيّرات الجيوسياسية والتغيّرات التي طرأت على أمزجة الشعوب مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض، ومساهمته في نشر الفكر الشعبوي على جانبي الأطلسي، وظهور شعبويين من اليمين المتطرّف الأوروبي الذين وضعوا نصب أعينهم تقويض المؤسّسات، وتفكيك الاتحاد الأوروبي، والاتحادات الأخرى، والدعوة إلى الانعزالية والتقوقع داخل الدولة القومية. أما حالياً، فليس أدلّ على سعي جميع دول حلف الناتو الجدّي إلى التوافق وطي الخلافات من أجل تقوية الحلف، مهما كان الثمن، سوى الموافقة المبدئية على طلب الرئيس التركي رجل طيب أردوغان، إعادة إطلاق مفاوضات انضمام بلاده إلى الاتحاد الأوروبي، الطلب الذي بُتَّ سابقاً في تأجيل البحث فيه، كذلك طلبه رفع العقوبات عن تركيا، مقابل موافقته على انضمام السويد إلى الحلف. وسيكون انضمام السويد، كما انضمام فنلندا قبلها، بمثابة العتبة الجديدة التي سيدخل الحلف من تحتها إلى حقبة جديدة. جعل التهديد الروسي الجميع يتفقون أنها ستكون لافتة من جهة العمل المشترك للوقوف في وجه هذا التهديد، وتقديم كل ما يلزم من أجل تقوية الحلف، لدرء تهديداتٍ مشابهة للتهديد الروسي.

عدم إعادة بوتين حساباته المتعلقة بحربه على أوكرانيا أعطى أوروبا مزيداً من الدفع باتجاه زيادة قوّة تحالفاتها وزيادة إنفاقها العسكري

كانت أوروبا ودول عدة تعيش في عصر من الرخاوة قبل غزو أوكرانيا، فالجميع كان كما قال رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، قد سلَّم أن “الحرب ليست سمة العصر الحالي”. هذه الجملة التي وجّهها إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حين التقاه على هامش قمة منظمة شنغهاي في سمرقند، في سبتمبر/ أيلول 2022، مشدّداً على أهمية الحوار لحل المشكلات مع أوكرانيا، غير أن عدم تفكُّر بوتين بهذه الجملة، وعدم إعادته حساباته المتعلقة بحربه على أوكرانيا أعطى أوروبا مزيداً من الدفع باتجاه زيادة قوّة تحالفاتها وزيادة إنفاقها العسكري، بل وزيادة وتيرة سباق التسلح في القارّة.
قال مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، في مؤتمر صحافي قبل توجهه للمشاركة في قمّة “الناتو” في عاصمة ليتوانيا الأسبوع الماضي: “عندما شنّ بوتين هذه الحرب، توقَّع أن تنقسم وحدة الغرب وأن يتصدّع حلف الناتو”. لكن الحلف الذي كان يُغالب سكرات الموت، جاءه بوتين وفعل ما لم يستطع أحد أن يفعله من أجله، جعل الحياة تدبُّ فيه من حيث قدَّر أن غزوه أوكرانيا سيضرّ به.

العربي الجديد