لا يُعرف العراق إلّا بأنهاره، إلا بدجلته وفُراته، فحتى التسمية، العراق، التي عُرف بها، تعني، من بين ما تعنيه، قربه من البحر أو الأنهار، كما كان يُطلق أهل الحجاز على كل موقع قريب من نهر أو بحر، وقبلها كانت أوروك، في الحضارة السومرية التي تحوّلت في العهد الكيشي منتصف الألف الثاني قبل الميلاد إلى عراق، وهو أول استخدام بهذا اللفظ للبلاد التي عُرفت تاريخياً ببلاد ما بين النهرين أو وادي الرافدين، حيث ظهرت واحدةً من أعظم حضارات العالم القديم، والتي ما زالت لم تُبح بكل أسرارها التي طاولتها يد النسيان أو الاندثار وقلة الاهتمام.
يحتضر هذا العراق المنحدر مع انحدار دجلته والفرات، ليس بسبب ما حلّ به بعد غزوه عام 2003 وحسب، وإنما بسبب احتضار تلك الأنهار التي أوجدت معجزته الحضارية، وظلت ملهمة للإنسانية جمعاء بما حوته من علوم وتشريعات وفنون وآداب.
منذ أكثر من عقدين، وتحديداً مع الغزو الأميركي للعراق، وأرض الرافدين تعاني من قلة الإطلاقات المائية لنهري دجلة والفرات من تركيا، ومعها توقف تام للإطلاقات المائية من الروافد التي تصبّ في نهر دجلة من إيران أو الأنهار التي تتشكّل قادمة من ناحية الشرق … نعم قد يكون أحد الأسباب في قلة الإطلاقات المائية تلك شحّ الأمطار وربما التغيرات المناخية، غير أنّ السبب الأهم والأكثر تأثيراً أنّ دول المنابع ما عادت تُلقي بالاً للعراق، في ظل حكوماتٍ فاسدة ضعيفة وتابعة ذليلة، بل الأدهى والأمرّ أنّ دولة مثل تركيا سبق لها أن قدّمت عدة مقترحات لحكومة بغداد من أجل الاستفادة من مياه نهري دجلة والفرات، بدل أن تذهب هباءً إلى مياه الخليج العربي المالحة، من دون أن تتّخذ حكومة بغداد أي خطوة إيجابية تجاه تلك الطروحات والمشاريع الاستثمارية التي قدّمتها أنقرة لبغداد من أجل الاستفادة من مياه دجلة والفرات.
لا تبدو الحكومة العراقية معنيةً وسط تراكم ملفات عدة تؤشّر إلى فشل مزمن لحكومات ما بعد الغزو الأميركي
وتستمرّ المعاناة، معاناة عراق تنحسر مياهُه كما تنحسر ثرواته النفطية كما تنحسر قدراتُه البشرية في ظلّ حكومات المحاصصة والطائفية والتبعية، لنشهد على عصرٍ بات عبور دجلة من كرخه إلى رصافته يتم مشياً على الأقدام، وما عادت هناك من حاجة إلى جسوره التي تربط شرايين مدينة الرشيد والمنصور.
يقول وزير الموارد المائية في العراق، عون ذياب، في تصريح متلفز له، مطلع شهر يوليو/ تموز الجاري، إنّ العراق ربما يمر بأصعب مراحل الجفاف في تاريخه، الأمر الذي يُنذر بكارثة كبيرة قد تحلّ ببلاد ما بين النهرين، كارثة لن تقف عند حدّ التداعيات الاقتصادية التي تلحق بهذا البلد وإنّما تتعدّاه إلى تداعيات اجتماعية وديمغرافية، تتمثل في هجرة متصاعدة من الريف إلى المدينة، فإذا استثنينا القطاع الزراعي وما لحق به من تدمير ممنهج إثر شحّ المياه، فإنّ الهجرة من الريف إلى المدينة قد تفتح الباب واسعاً أمام تداعياتٍ لا يعرف أين يمكن أن تأخذ العراق الذي يعاني من أزماتٍ متراكمة ومتراكبة.
يفيد تقرير الإجهاد المائي للعام 2019 بأنّ العراق سيكون بلا أنهار في العام 2040، في وقت أطلقت فيه وزارتا البيئة والزراعة تحذيراتٍ من فقدان ما نسبته 50% من الأراضي الزراعية الصالحة بسبب الجفاف، وسط توقّعات بعدم تمكّن العراق من زراعة محاصيل زراعية عديدة عُرف بها، جرّاء هذا الوحش الكاسر الذي يهدّد بتصحّر أرض السواد التي كان نخيلها يلوح للراكب من بعيد.
في خضم مشكلةٍ من هذا النوع، تهدّد بفقدان العراق مياهه التي اشتُهر بها تاريخياً، لا تبدو الحكومة العراقية معنيةً بهذا الملف وسط تراكم ملفات عدة تؤشّر إلى فشل مزمن لحكومات ما بعد الغزو الأميركي وعدم القدرة على إيجاد أيّ حلّ لكثير منها، بسبب الفساد الذي يضرب أطنابه في أركان المؤسّسات العراقية المختلفة.
يمتلك العراق أدوات كثيرة يمكن أن يلاعب بها دول المنابع النهرية، غير أنه لا يُحسن استغلالها
نعم، قد تكون مشكلة الجفاف عالمية، والتصحّر والتغير المناخي أمر لا مفر منه، غير أن غياب الفعل المؤسّساتي الممنهج والقدرة على التعامل مع أزمة من هذا النوع فاقم المخاطر وفتح الباب أمام تداعياتٍ خطيرة، وصلت بنوابٍ في البرلمان العراقي إلى طرح حلول فيها من الغرابة الكثير، ومنها مبادلة النفط بالمياه مع تركيا!
لم تعد مشاهد الجفاف تثير اهتمام الحكومة العراقية، ولا نواب برلمانها، بل الأدهى والأمرّ أن كثيرين من هؤلاء الساسة متورّطون بسرقة مياه الأنهار من أجل مشاريعهم الاستثمارية، سواء المتمثلة بمزارع الأسماك أو حتى تلك المتمثلة بإقامة عشرات من المطاعم العائمة في استهتار بمستقبل البلاد، فمنذ أكثر من عقد والأزمة واضحة وجلية ترافقها غياب التحرّكات الجادّة التي يمكن لها أن تسهم بتخفيفها على الأقل، الأمر الذي يشير بوضوح إلى أن غياب الإرادة السياسية هو العامل الأهم في تفاقم هذه الأزمة.
يمتلك العراق أدوات كثيرة يمكن أن يلاعب بها دول المنابع النهرية، غير أنه لا يُحسن استغلالها، أو بالأحرى لا توجد النية لاستغلالها، لأسبابٍ كثيرة، لعلّ من بينها فقدان عنصر المهنيّة في إسناد المناصب في ظلّ توزيعها طائفيا وحزبياً، بغض النظر عن مهنية هذا المسؤول أو ذاك.
بعد أعوام قليلة، لن يجد طلاب المدارس دجلة، وهم يتغنّون بمطلع قصيدة محمد مهدي الجواهري: حييت سفحك عن بعد فحيّيني/ يا دجلة الخير يا أم البساتين … حينها فقط ستعرف الأجيال القادمة أي كارثةٍ حلّت بهذا العراق جرّاء ساسة لا يعرفون من العراق إلّا أنه مغنمٌ لتراكم الثروات.
العربي الجديد