بعد شكوك حول نهاية مهمة روبرت مالي، كمبعوث أميركي للشأن الإيراني، من عدمها، وعلى الرغم من عدم الإعلان رسمياً حتى الآن عن ذلك، يبدو أن هذه النهاية باتت حقيقة بعدما قامت الخارجية الأميركية قبل أيام بحذف سيرة مالي من موقعها الإلكتروني واستبدال صورته على حساب المبعوث الأميركي في “تويتر” بصورة أبرام بيلي.
إقصاء مالي من منصبه ليس حدثاً عادياً، فالرجل من أركان الدبلوماسية الأميركية تجاه إيران، المدشنة في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، والتي ولد من رحمها الاتفاق النووي المبرم عام 2015، وهي السياسة التي استؤنفت في عهد الرئيس الحالي جو بايدن.
وقاد مالي دبلوماسية بلاده في إطلاق مفاوضات نووية لإحياء ذلك الاتفاق، فيما جاءت الإطاحة به على خلفية تحقيقات أمنية مرتبطة بخلل في طريقة تعامله مع وثائق حساسة أو كما قالت صحيفة “طهران تايمز” الإيرانية شبه الرسمية، الأحد الماضي، بسبب محادثاته السرية مع السفير الإيراني في الأمم المتحدة في نيويورك سعيد إيرواني أو لقاءاته المستمرة مع ناشطين إيرانيين أميركيين في الولايات المتحدة.
رسمياً، قابلت إيران تعليق أو إقصاء مالي من منصبه بالقول إنها تنظر إلى السلوك الأميركي، وفق المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني. وأضاف في تصريحات أمس الإثنين، “أن مجيء ورحيل الأشخاص ليس أساساً لحكمنا” على أداء الإدارة الأميركية.
لا إنجازات لمالي
لكن الدبلوماسي الإيراني السابق، أبو القاسم دلفي، شكك بمصداقية ما ذُكر من أسباب حول الإطاحة بمالي من منصبه، قائلاً لـ”العربي الجديد” إن طرح واشنطن تلك الأسباب كان هدفه “التستر على حقائق ليست واضحة تفاصيلها بعد”.
وأضاف دلفي، الذي شغل منصب المدير العام لغرب أوروبا في وزارة الخارجية الإيرانية ومنصب سفير في دول عدة منها فرنسا: “إذا قمنا بتقييم سجل مالي من وجهة نظر أميركية فهو خلال قيادته المفاوضات من الجانب الأميركي لعامين لم يحقق إنجازاً ونتيجة كانت تريدها الإدارة الأميركية، خصوصاً في بدايات عمل هذه الإدارة، وعليه لم يحصل مالي على علامة جيدة”.
دلفي: ثمة عوامل أثناء المفاوضات خلقت صعوبات ومشكلات لمالي
وأشار إلى أن ذلك “ربما كان له دور في تشكّل قناعة بأن روبرت مالي غير قادر على الاستمرار بقيادة المفاوضات”، مضيفاً أن ثمة عوامل أثناء المفاوضات خلقت صعوبات ومشكلات لمالي، من معارضة شديدة من الجمهوريين والإسرائيليين، إلى الحرب الأوكرانية، والاتهامات الغربية لإيران بالتعاون مع روسيا.
وفي السياق، لفت دلفي أيضاً إلى المقاربة المختلفة لحكومة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي عن سلفه تجاه المفاوضات، وشروطها للتوصل إلى نتيجة وتوجهها نحو الشرق على حساب العلاقات مع الغرب، قائلاً إن هذا التوجه الذي جاء انطلاقاً من عدم الثقة بالغرب وأميركا كان من نتائجه “عدم تحقق أهداف المفاوضات”.
لكن الحرب الأوكرانية “كان لها مفعول أكثر من بقية العوامل”، بحسب الدبلوماسي الإيراني، الذي أضاف أن أحد مطالب الغربيين اليوم في المفاوضات النووية هو ابتعاد إيران عن الغرب. ولفت إلى أن أحد الشروط التي تحدث عنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أخيرا في اتصاله مع نظيره الإيراني “كان وقف الدعم الإيراني لروسيا حسب ما زعم ماكرون”. وعما إذا كان تغيير مالي يحمل رسالة بتبني الإدارة الأميركية توجّهاً أكثر تشدداً تجاه إيران، رأى الدبلوماسي الإيراني أنه “لا يحمل رسالة إلى إيران، وهو مرتبط بالوضع الداخلي الأميركي”.
روبرت مالي (برندان سميالوفسكي/ فرانس برس)
رصد
روبرت مالي يعتزم تقديم إحاطة للكونغرس الأميركي عن المفاوضات مع إيران
تبدّل في الموقف الأميركي؟
غير أن المتخصص في العلاقات الإيرانية الأميركية والاتفاق النووي، هادي خسرو شاهين، له وجهة نظر مختلفة، إذ قال إن غياب مالي “يحمل في طياته تغييرات على مستوى اتخاذ السياسات الأميركية تجاه إيران، لكونه عاملاً في السياسة الخارجية في الإدارات الديمقراطية لا سيما إدارتي أوباما وبايدن، وكان على قناعة رصينة بالعمل الدبلوماسي مع إيران وبناء الثقة معها لحل المشاكل، وكان الاتفاق النووي من ثمار جهوده”.
خسرو شاهين: غياب مالي يحمل في طياته تغييرات على مستوى اتخاذ السياسات الأميركية تجاه إيران
وأضاف خسرو شاهين، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن “التغييرات في السياسة الخارجية الأميركية تجاه إيران بدأت خلال الشهور الثلاثة أو الأربعة الأخيرة قبل الإعلان عن قضية التحقيق حول مالي وتعليق تصاريحه الأمنية”، مشيراً إلى تراجع تأثيره في السياسة الأميركية تجاه إيران مع استمرار عدم نجاح جهوده منذ يناير/كانون الثاني 2021 إلى اليوم.
ووفق الخبير الإيراني، فبسبب ضربات تلقاها الاتفاق النووي والتطورات الجيوبوليتيكية والسياسية، انتهى تاريخ صلاحية مالي وأفكاره، موضحاً أن ذلك أدى إلى نقل الملف الإيراني من الخارجية الأميركية إلى مجلس الأمن القومي الأميركي، وعكسه تولي بريت ماكغورك منسق شؤون الشرق الأوسط وأفريقيا في مجلس الأمن القومي الأميركي قيادة المفاوضات منذ أواخر إبريل/نيسان الماضي. علماً أن ماكغورك أجرى مباحثات غير مباشرة مع كبير المفاوضين الإيرانيين علي باقري كني في سلطنة عمان في 8 مايو/أيار الماضي.
ولفت خسرو شاهين إلى أن ماكغورك، كما يتضح من مقال منشور له في موقع “بلومبيرغ” الأميركي عام 2019، يؤمن بممارسة دبلوماسية مشفوعة بالضغوط تجاه إيران للوصول إلى نتيجة، مضيفاً أنه “لا ينبغي أن نتوقع أن يترك رحيل مالي تأثيرات كبيرة، لكون هذه التغييرات قد بدأت منذ أشهر، إلا أن ما يمكن أن يدفع لاستمرار تلك التغييرات والحد من الدبلوماسية تجاه إيران هو طبيعة ملف مالي وضغوط الكونغرس”.
وتابع أنه “في حال زيادة ضغوط الكونغرس على إدارة بايدن بسبب هذا الملف وإجبار إف بي آي على تسليم المزيد من المعلومات بشأنه، يمكن أن تتسع تبعاته السياسية للدبلوماسية تجاه طهران”، مؤكداً أن الاتفاق النووي “لن يكون له محل من الإعراب من الناحية التقنية في 18 أكتوبر/تشرين الأول المقبل”.
وعزا ذلك إلى انتهاء آجال قيود مفروضة على برنامج إيران الصاروخي، وحلول آجال تعهدات أميركية وإيرانية، لا إمكانية لقيام الطرفين بها، مثل ضرورة إلغاء عقوبات أميركية بقرار من الكونغرس، سبق أن تم تعليقها، وأن تقوم طهران في البرلمان بإقرار البروتوكول الإضافي الذي يشدد الرقابة على البرنامج النووي الإيراني، والمكمل لاتفاق الضمانات التابع لمعاهدة حظر الانتشار النووي بعد القبول به في الاتفاق النووي طوعا، لكنه تخلى عن تنفيذ البروتوكول اعتبارا من 22 فبراير/شباط 2022.
وعن أبرام بيلي خليفة مالي راهناً، قال الخبير الإيراني إنه “لا توجد معلومات عنه وهو ما يرجح أن خلفيته أمنية”، مؤكداً أنه “لن يكون بمقدوره القيام بالتأثير والدور الذي كان يمارسه مالي والقدرات التي كان يمتلكها”.
بدوره، استبعد الإعلامي الإيراني المقرب من الفريق المفاوض عباس أصلاني، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن يترك رحيل مالي “تأثيراً” على المفاوضات مع طهران، التي قال إنها مستمرة في عمان و”لم تصل بعد إلى النتيجة النهائية”، لافتاً إلى أن العقبات والتهديدات التي كانت إدارة بايدن تواجهها أكبر من أن يتغلب عليها مفاوض مثل مالي، وحتى بايدن نفسه أيضا لم يستطع التغلب عليها. وأضاف رئيس تحرير صحيفة “إيران ديلي” الإنكليزية الرسمية، أن فرص إحياء الاتفاق النووي قبل غياب مالي “كانت ضئيلة جداً جداً”، لافتاً إلى أنه “من غير الصحيح ربط هذا الواقع برحيله”.
العربي الجديد