“الأطلسية” خياراً دائماً لفرنسا في مواجهة روسيا

“الأطلسية” خياراً دائماً لفرنسا في مواجهة روسيا

ثمّة إجماع في العالم على أن حرب أوكرانيا التي أطلقتها روسيا في 24 فبراير/ شباط 2022، أعادت إحياء دور حلف شمال الأطلسي بعدما كان في حالة “موت سريري”، كما سبق ووصفه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019. لا أحد ينكر أيضاً أن هذه الحرب أكّدت مكانة الولايات المتحدة بوصفها الضامن الأول الذي لا يُسْتَغنى عنه لأمن أوروبا. لا جدال في هذا كله. لكن هناك مسألة أخرى مثيرة للجدل، تتعلق بانعكاسات حرب أوكرانيا على العلاقات الفرنسية الأطلسية، فمنذ تأسيس “الناتو” سنة 1949، تتأثر هذه العلاقات بمتغيّرات الظروف. تارةً تحافظ فرنسا على أعلى درجات التلاحم مع الحلف. تارةً أخرى تتّخذ مسافة منه، بحثاً عن استقلالية استراتيجية أو عن سياسة دفاعية أوروبية مستقلة لكن من دون “طلاق”. ثم يأتي ظرف جديد ليعيدها إلى كنف الحلف على غرار عودة “الابن الضال”، بحسب تعبير بعضهم. واليوم بمناسبة الحرب الأوكرانية، تتصرف فرنسا على أساس أن الأولوية حاليا هي لمواجهة العدوانية الروسية ضد أوروبا، ولو على حساب تلك الاستقلالية التي تطمح إليها تاريخياً. لذا، تُرْضيها يقظة “الناتو” وتُبدي التزاماً فاعلاً فيه، حتى لو بدت هي والأوروبيون ملتحقين بحكم الواقع بالأميركيين.

رد “الناتو” في صميم السياسة الفرنسية
ما إن اجتاحت القوات الروسية الأراضي الأوكرانية حتى ردّ الغرب بحزم، مشدّداً على وحدته وفارضاً عقوبات اقتصادية قاسية على موسكو. استنفر “الناتو” دعماً لأوكرانيا ولتدريب قواتها ومدّها بالسلاح المتطوّر الذي ساعدها على المقاومة والصمود. عزّز قواته على أراضي الدول الأعضاء في أوروبا الشرقية والوسطى، في رسالة ردع لروسيا في حال أرادت توسيع نطاق عدوانها. كذلك، جاء سيناريو انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف تطوّرا من شأنه تعميق تفوّقه الجيوسياسي. ثم التأمت قمة مدريد، في 29 يونيو/ حزيران 2022، التي بلورت “مفهوما استراتيجيا جديدا” لحلف الناتو، يتعامل مع روسيا بوصفها تمثل “أكبر وأهم تهديد مباشر لأمن الحلف وللسلام والاستقرار في المنطقة الأوروبية الأطلسية”. وهو موقفٌ أُعِيد التأكيد عليه في قمة فيلنيوس، عاصمة ليتوانيا، يومي 11 و12 يوليو/ تموز الحالي.
لقد وجد “الناتو” نفسه أمام اختبار تاريخي. إما أن يردّ دفاعاً عن سيادة أوكرانيا، ولكن أيضاً عن أمن أوروبا، وفق منظور يعتبر أن “أوكرانيا اليوم تحمي أوروبا”، على حد قول ماكرون في خطاب ألقاه في منتدى غلوبسيك في العاصمة السلوفاكية، براتيسلافا، في 31 مايو/ أيار 2023، أو أن يتقاعس، فتنتصر روسيا وتخطو خطوة إلى الأمام نحو استعادة سيطرتها على مناطق نفوذها السابقة، ما يشكّل تهديداً جيوسياسياً خطيراً ليس لأوروبا وحسب، بل لهيمنة الولايات المتحدة خصوصاً. هذه الحسابات الاستراتيجية هي التي تفسّر الرد الأطلسي القوي على العدوان ضد أوكرانيا. وهذا الرد هو في صميم السياسة الخارجية الفرنسية اليوم.

حالياً، يشارك حوالي ألفي جندي فرنسي في منطقة شرق أوروبا في إطار قوات “الناتو”

الدفاع عن حدود الحلف
منذ بدء الأزمة الأوكرانية وضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم، سنة 2014، لم تتلكأ فرنسا في المشاركة في مهمة “إعادة ضمان الأمن في بلدان البلطيق وبولندا” ضمن تدابير اتّخذت اعتباراً من عام 2016. وفور بدء العدوان ضد أوكرانيا، نشرت قيادة الحلف “قوة الرد السريع” في عدة دول شرق – أوروبية، وهي قوة قادرة على الاستجابة بسرعة وبفعالية قتالية عالية، وكانت تعمل تحت قيادة فرنسية في العام 2022. وحالياً، يشارك حوالي ألفي جندي فرنسي في منطقة شرق أوروبا في إطار قوات “الناتو”. أما ميادين الالتزام العسكري الفرنسي في مهمة الدفاع عن حدود “الحلف الأطلسي” بوجه التهديد الروسي، فتشمل إستونيا وليتوانيا وبولندا ورومانيا وبلغاريا وكرواتيا. جنود ومدرعات ميكانيكية ودبابات “لوكليرك” ومركبات مشاة قتالية، ومقاتلات “ميراج” من طراز “2000-5″، شاركت و/أو تشارك في عمليات دفاعية وردعية مختلفة. فضلاً عن المشاركة “في جولات منظومة الإنذار والمراقبة المحمولة جوًا فوق أوروبا الشرقية”، ومشاركة القوات الفرنسية البحرية والجوية في مهمات في منطقة البحر الأسود والمراقبة البحرية. وهي معلومات يوردها الموقعان الإلكترونيان لوزارتي الدفاع والخارجية الفرنسيتين. ومن المرجح أن يكون للقوات الفرنسية إسهام نوعي أيضاً في خطة “الناتو” الرامية إلى توفير “قوة قوامها 300 ألف جندي على أهبة الاستعداد” للتدخل عند الضرورة، بحسب إعلان الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرغ، في 11 يوليو/ تموز الحالي.

ماكرون: مزيد من الأطلسية
صحيحٌ أن باريس تحرص على الطابع الدفاعي، وليس التصعيدي لالتزامها الأطلسي، بوجه التهديد الروسي، إلا أن الرئيس ماكرون لم يعد يتردّد في تبني مقاربة أطلسية متشددة مع روسيا في أوكرانيا. يتجسد ذلك من خلال حرصه على “تقديم الغرب ضمانات أمنية ملموسة وموثوقة لأوكرانيا” تتيح لها ردع روسيا على المدى الطويل. ثم من خلال تأييده، في قمة فيلنيوس، إطلاق خطّة بشأن عضوية أوكرانيا في “الناتو”، ليس على الفور بل بعد انتهاء الحرب. لم تحدّد هذه القمة جدولاً زمنياً لتلك العضوية، لكنها تخلت عن “خطة عمل عضوية أوكرانيا”، التي تلزم الدولة المرشحة باتباع معايير محددة قبل الانضمام، ما يعني اعترافاً من “الناتو” بأن كييف قطعت شوطاً كبيراً في الاستجابة لشروط العضوية. كذلك، أطلقت “مجلس الناتو – أوكرانيا” الذي يعزّز تعاونهما ويكاد يكرس أوكرانيا بلدا “شبه عضو” في حلف الناتو. لا يريد “الأطلسيون” انضمامها رسمياً الآن لتجنّب الصدام المباشر مع روسيا. لكن يبدو واضحاً أنهم يراهنون على أن “الوقت لن يكون في صالحها”، وبالتالي على خسارتها الحرب وانكسارها وتراجع قوتها. حينها يمكن قبول عضوية أوكرانيا من دون المجازفة بإشعال حربٍ مع روسيا. وليس الرئيس الفرنسي بعيداً عن حسابات كهذه، كما يتجلّى في تصريح له أواخر 2022. فقد اعتبر أن روسيا، الآن، ستنظر إلى الانضمام بوصفه خطوة “مواجهة”. وفي ختام قمّة ليتوانيا، لم يخفِ ماكرون افتخاره بأن “طريق أوكرانيا نحو الناتو” قد شُقَّت، ناهيك عن تأييده العلني لانضمام كييف “غداً”، أي بعد انتهاء القتال، كما ورد في تعليق نشره على صفحته في “فيسبوك” في 12 يوليو/ تموز الحالي. لكن التريث الحاصل لا ينفي أن فرنسا تتصدّى للعدوانية الروسية بمزيد من “الأطلسية” وتكاد تكون “أكثر ملكيةً من الملك”. وهذا تصرّف مألوف في سياستها الخارجية، على الرغم من علاقتها الملتبسة أيضاً مع “الحلف الأطلسي”.

العلاقة الوثيقة بين فرنسا و”الناتو” لم تخلُ من التباينات، سيما حين أرادت فرنسا أن يشمل التضامن الأطلسي مناطق خارج أوروبا

وفرنسا عضو مؤسس في “الناتو”. ساهمت مع بريطانيا في إقناع الولايات المتحدة بالتخلي عن تقاليدها الدبلوماسية القاضية بعدم ربط عملها الخارجي بـ”معاهدة ملزمة”، فأبصرت “معاهدة واشنطن” النور، في 4 إبريل/ نيسان 1949. وتنصّ هذه الوثيقة التأسيسية لحلف شمال الأطلسي في بندها الخامس على أن أي اعتداءٍ ضد دولة عضو في الحلف يعدّ موجّهاً ضد بقية الأعضاء الذين يمكنهم الرد بواسطة القوة العسكرية. هكذا حصلت فرنسا وبريطانيا، بعد الحرب العالمية الثانية، على الضمانة الأمنية الأميركية اللازمة بوجه الاتحاد السوفييتي، فالولايات المتحدة كانت (ولا تزال) الدولة الوحيدة القادرة على حماية أوروبا الغربية من “التهديد” السوفييتي (والروسي) على الجبهة الشرقية. نشأ “الناتو” إذاً بناءً على “مطلب أمني فرنسي – بريطاني ملح”، بحسب المؤرّخ، موريس فاييس (Maurice Vaïsse)، في كتاب جماعي عن “فرنسا والناتو” (2012). ثم تشكلت منظمة عسكرية موحدة للحلف وباتت جيوش الدول الأعضاء، من ضمنها القوات الفرنسية، مندمجة في إطار هذه المنظمة الخاضعة لسلطة أميركية.

الانسحاب من القيادة العسكرية الموحّدة
في إطار هذا الاندماج، تحوّلت الأراضي الفرنسية إلى معقل رئيس لـ”الناتو”، وميدان لانتشار حوالي 70 ألف جندي أميركي في 1957، كما يروي مؤرّخون، لكن العلاقة الوثيقة بين فرنسا و”الناتو” لم تخلُ من التباينات، سيما حين أرادت فرنسا أن يشمل التضامن الأطلسي مناطق خارج أوروبا، وحين طالبت، منذ وصول الجنرال شارل ديغول إلى السلطة، سنة 1958، بإنشاء قيادة ثلاثية، أميركية – فرنسية – بريطانية داخل “الناتو”، للتنسيق والتشاور واتخاذ قراراتٍ بشأن الأزمات والمسائل الدولية. تنازلات لم تنتزعها باريس من واشنطن التي كانت تريد تجنّب آلية تشاور من شأنها أن تبطئ عملية صنع القرار في حال كان هناك وضع طارئ أو استفزاز سوفييتي مفاجئ. ردّاً على ذلك، سلك ديغول مسار الابتعاد وفك تبعية فرنسا لأميركا، هو الذي كان يتذمّر من وجود قوات أجنبية على أراضي بلاده ومن تداعيات ذلك على سيادتها واستقلالها. وتُوِّج المسار في العام 1966، حين أعلن ديغول انسحاب فرنسا من القيادة العسكرية الموحدة لحلف الناتو، في قرارٍ أدّى إلى مغادرة القوات الأميركية فرنسا ونقل مراكز قيادة الحلف إلى بلجيكا. بيد أن هذا الانسحاب لم يكن طلاقاً بين فرنسا و”الناتو”. اقتصر الأمر على عملية فك ارتباط الآلة العسكرية الفرنسية عن الهيكلية الأطلسية، أي وضع حد للاندماج الفرنسي داخلها من دون إنهاء انتماء فرنسا إلى الحلف نفسه وتضامنها معه، كما يشرح المؤرخ الفرنسي، فريدريك بوزو (Frédéric Bozo)، في الكتاب الجماعي نفسه.
وتُظهر دراسة دوافع قرار ديغول أن فرنسا لم تبتعد عن الحلف لأنها كانت تتطلّع إلى أداءٍ أقل حزماً من أميركا في التعامل مع الاتحاد السوفييتي. بل على العكس، لأنها كانت تتمسّك باستراتيجية ردعية أكثر تشدّداً. هذا ما تظهره مطالعات تاريخية عدة، من بينها التي يعرضها المدرّس في معهد العلوم السياسية في باريس، سيرج بيرستين (Serge Berstein)، في مساهمته تحت عنوان “الديغولية والعلاقات الفرنسية-الأميركية”، في كتاب جماعي عن العلاقات الفرنسية-الأميركية (2009)، بإشراف المؤرّخ والمدرس في جامعة لافال الكندية، رونيو لوكيتش (Renéo Lukic).

بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة، ساد اعتقادٌ في دوائر صنع القرار الفرنسي بعدم جدوى بقاء “الناتو” بعد أن تبدد التهديد من جهة الشرق

تقول السردية إن إحدى أبرز مشكلات ديغول مع “الناتو” نتجت عن تغيير الاستراتيجية الأميركية لمواجهة الاتحاد السوفييتي، و”استبدال عقيدة الانتقام الشامل بعقيدة الرد المرن أو المحدود، التي تعني أنه قبل استخدام الأسلحة النووية، ستستخدم الولايات المتحدة الأسلحة التقليدية”. وهذا ما جعل ديغول يعتقد أن “الأميركيين سيعتبرون أن اجتياح أوروبا الغربية ليس عملاً كافياً لتبرير استخدام (القوة) النووية”، كما يذكر بيرستين. بمعنى آخر، العقيدة التي أرادتها واشنطن لـ”الناتو”، المتمثلة بـ”رفع عتبة اللجوء إلى السلاح النووي” و”دفع الأوروبيين إلى اللجوء إلى الأسلحة التقليدية”، لم تكن ترضي ديغول الذي كان يعتبر أنه في حال حصل “اعتداء سوفييتي، يجب استخدام الأسلحة النووية فوراً”، كما يروي فاييس.
تتمثل المشكلة، بالنسبة لديغول، في أن أمن فرنسا وأوروبا كان “يرتكز على المظلة النووية الأميركية، التي يعود قرار استخدامها للرئيس الأميركي وحده”. وقد كانت هذه الوضعية تؤرّقه لأنه لم يكن واثقا من استخدام واشنطن سلاحا نوويا ردّاً على أي هجوم سوفييتي ضد أوروبا الغربية. هذا ما جعله يقتنع بأن “الانتماء إلى الناتو، الذي يحرم فرنسا من الاستقلالية، لا يكفل لها أي حماية ولا يفتح لها أي أفق سوى أن تصبح ميدان معركة لجيوش أجنبية”، وفق بيرستين. لذا، بات هناك ضرورة، في نظر ديغول، لفكّ الارتهان الأمني لواشنطن، والمضي نحو امتلاك قنبلة نووية تخولها الدفاع عن ذاتها بنفسها، وهو خيار فرنسي عارضته الإدارة الأميركية.
ولا يعني فكّ هذا الارتهان انتفاء الحاجة إلى التعاون. هكذا وبعد قرار الانسحاب من القيادة العسكرية الموحدة، ظلّ التضامن الفرنسي مع “الناتو” متيناً بوجه أي تهديدٍ سوفييتي مرجّح، كما يورد بوزو. وقد تم توقيع اتفاقات ثنائية تنظم آليات التعاون، وتسمح بإمكانية التدخّل العسكري الفرنسي إلى جانب قوات “الناتو” في أي حربٍ محتملة مع السوفييت. وقد جمعت الاستراتيجية الدفاعية الفرنسية ما بين الردّين التقليدي والنووي على أي عدوان سوفييتي ضد ألمانيا الغربية مثلاً. لكن فرنسا احتفظت بحقها في اتخاذ قرار المشاركة من عدمه، فلا تُفْرَض عليها حربٌ لا تريدها. هكذا، لم يطعن ديغول في “انتماء فرنسا إلى العالم الحر” وفي “انتمائها إلى الحلف الأطلسي”، لكنه رفض أن تكون “شريكاً من الدرجة الثانية” لا تضطلع بأي مسؤولية، “يقرّر الأميركيون مصيرها عوضاً عنها”، حسبما يذكر بيرستين.

تحوّلات ما بعد الحرب الباردة
بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة، ساد اعتقادٌ في دوائر صنع القرار الفرنسي بعدم جدوى بقاء “الناتو” بعد أن تبدد التهديد من جهة الشرق. وراح الرئيس، فرانسوا ميتران، يروّج لسياسة دفاعية أوروبية بدلاً من “الناتو”. لكن الأزمة اليوغوسلافية في تسعينيات القرن الماضي، من حرب البوسنة والهرسك إلى حرب كوسوفو، أعادت إحياء دور الحلف، الذي ما برح يتوسّع ليشمل دولاً كانت خاضعة سابقاً للنفوذ الروسي.

عودة فرنسا إلى القيادة العسكرية الموحدة، كرّسها ساركوزي، في 2009. ولم يطعن بها خلفه، هولاند، ولا ماكرون

وحين وصل الرئيس جاك شيراك إلى الإليزيه سنة 1995، طرح خيار العودة إلى القيادة العسكرية الموحّدة، وذلك من أجل ممارسة مزيد من التأثير في إطار التحالف الغربي، بحسب مقالة كريستال كالميل (Christelle Calmels)، في الموقع الإلكتروني (Diploweb)، في 29 مارس/ آذار 2020. وجاءت انعطافة شيراك بعدما أدرك الجميع أن انسحاب فرنسا سنة 1966 أدّى إلى “تهميشها السياسي” داخل الحلف، كما يلاحظ الباحث الفرنسي في العلاقات الدولية، دومينيك مويزي، في الكتاب الجماعي عن “فرنسا والناتو”. واشترط شيراك منح فرنسا منصب قيادة المنطقة الجنوبية لـ”الناتو”. إلا أن واشنطن رفضت تسليم دفّة القيادة هناك إلى الأوروبيين، ففشلت العودة آنذاك إنما من دون تراجع وتيرة التعاون والتضامن.
عودة فرنسا إلى القيادة العسكرية الموحدة، كرّسها الرئيس، نيكولا ساركوزي، في العام 2009. ولم يطعن بها خلفه، فرنسوا هولاند، ولا إيمانويل ماكرون. وقد برّر ساركوزي قراره بذريعة إعادة بناء الثقة مع شركاء فرنسا الأوروبيين الذين كانوا يشكّكون في أن مشروعها بشأن السياسة الدفاعية الأوروبية هو “منافس للحلف الأطلسي”. هكذا، يمكن لعودة فرنسا أن تسهم في تعبيد الطريق أمام السياسة الدفاعية الأوروبية ضمن نظرة تكاملية تحقّق ما تسمى “الركيزة الأوروبية” في الحلف. وفي الواقع، ثمّة حسابات استراتيجية أخرى خلف قرار العودة، بدءاً من مقاربة تفيد بأنه في ظل بيئة دولية مضطربة تعزّز من احتمال تدخلات “الناتو”، لا مصلحة لفرنسا في البقاء خارجه تحت ذريعة الحفاظ على استقلاليتها، لأن في حال نفذ “الناتو” عملية عسكرية جماعية ستكون فرنسا في “عزلة”. وعليه، ستتعزّز “القوة الفرنسية والمصالح الفرنسية أكثر داخل الناتو وليس من خارجه”، كما يشير الباحث جان-إيف إين (Jean-Yves Haine)، في مساهمة له في كتاب حول السياسة الخارجية الفرنسية (2017)، بإشراف تييري دو مونبريال (Thierry de Montrial) وتوما غومار (Thomas Gomart).
بعد تلك العودة، حافظت فرنسا وكذلك ألمانيا على سياسة مرنة حيال روسيا. تجلى ذلك في عدم موافقة الدولتين على فتح مسار انضمام أوكرانيا وجورجيا إلى “الحلف الأطلسي” خلال قمّة بوخارست عام 2008. لكن اليوم هناك تحوّل فرنسي في النظرة إلى روسيا، وتبديد لما يعتبره كثيرون أوهاماً، لم يكن ماكرون بمنأى عنها، حول إمكانية “الحوار البنّاء” معها. ثمة قناعة بأن روسيا “البوتينية هي إمبريالية، لا يمكن الوثوق بها، وباتت تمثل تهديداً أمنياً لأوروبا”، كما يشير مدير “المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية”، توما غومار، في كتاب حديث له (2023). لكن حرب أوكرانيا أظهرت، في المقابل، بحسب غومار، أن فرنسا وكذلك بريطانيا وألمانيا. وبمعنى آخر، لم يكن الأوروبيون “قادرين على أن يبنوا من تلقاء أنفسهم (قوة) ردع تقليدية ذات صدقية بوجه روسيا”.

تسعى فرنسا إلى أن تكون قوة دولية نشيطة داخل “الناتو” في مواجهة روسيا، ولن تطعن، بالتالي، بهيمنة الولايات المتحدة على أوروبا في الظروف الراهنة

ولكن .. من يدافع عن أوروبا؟
لذا، وفي سياق الحرب الأوكرانية، لا يمكن لفرنسا أن تضع تصوّراً لعلاقاتها مع روسيا يستثني احتمال المواجهة المسلحة. بالطبع، لدى باريس قدرة ردع نووي لا يُستهان بها. هذا ما يشير إليه غومار، وما تعترف به عقيدة “الناتو”، حين تشدّد على أهمية القدرات النووية الفرنسية (والبريطانية) المستقلة للدفاع عن أوروبا. لكن مشكلة فرنسا، شأن الأوروبيين، تكمن في عدم الجهوزية الكافية لخوض “حرب تقليدية مرتفعة الحدّة” مع روسيا، مما يبقيها ويبقيهم في حالة اعتماد على “الناتو” وعلى المظلة الدفاعية الأميركية حتى إشعار آخر.
بمعنى آخر، تدرك فرنسا أن السياسة العدوانية الروسية فرضت تحدّيين اثنين على الأوروبيين: يتمثل الأول في ردع روسيا عن مهاجمة أي دولة عضو في “الناتو” بعد حرب أوكرانيا؛ ويتمثل الثاني في الانتصار عليها في حرب شاملة إذا اندلعت تلك الحرب؛ والحال أن الأمر يتعلّق بنوع من التحدّيات وحده “الناتو” يملك إمكانية الرد عليها، كما تلخص دراسة أصدرها “المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية”، في يونيو/ حزيران 2023، من إعداد الباحث غيوم غارنييه (GuillaumeGarnier)، حول علاقة فرنسا بـ”الناتو”. وهذا ما يفرض على فرنسا أن تكثف جهودها لضمان زيادة “درجة جهوزيّتها” في مجال “قابلية التشغيل البيني للقوة” بين فرنسا والولايات المتحدة وبقية جيوش الحلف، أي قدراتها على الاستجابة للعمل المشترك متعدّد الأبعاد العسكرية، وذلك حتى يكون لفرنسا دور ونفوذ فعالان وكاملان داخل “الناتو”، وفق تلك الدراسة. ثمّة مهمة أخرى لا يمكن لفرنسا أن تتجاهلها، وهي الدفع نحو سياسة دفاعية أوروبية بوصفها “ركيزة للحلف الأطلسي”، وليس بديلاً عنه، كما يلاحظ غارنييه.
تُظهر مقاربة كهذه بوضوح أن فرنسا تسعى إلى أن تكون قوة دولية نشيطة داخل “الناتو” في مواجهة روسيا، ولن تطعن، بالتالي، بهيمنة الولايات المتحدة على أوروبا في الظروف الراهنة. ولكن ماذا لو فشلت فرنسا في بناء تلك “الركيزة الدفاعية الأوروبية”، وتحقّقت، في الوقت نفسه، فرضيات يطرحها غارنييه، عن احتمال تراجع الالتزام الأميركي في أوروبا أو عودة واشنطن إلى العزلة بعد الحرب؟ في هذه الحالة، ما الذي يحمي فرنسا وأوروبا من روسيا (ومن تداعيات الصراع الأميركي – الصيني)؟ “النزعة الأطلسية” أم نظام دولي جديد مبني على تعددية قطبية فعلية، لطالما سعى الجنرال ديغول إليه، اعتقاداً منه بأن “الأمن القومي لفرنسا يتعزّز في عالم متعدد الأقطاب”، بحسب المؤرخ الأميركي ريتشارد تشالنر (Richard Challener)، في مساهمة له في كتاب جماعي (1994) عن العلاقات بين ديغول والولايات المتحدة، تحت إشراف روبرت باكستون (Robert Paxton) ونيكولاس وال (Nicholas Wahl)؟