تطرح التحركات الإيرانية الحالية على الصعيد الدبلوماسي تساؤلات حول دوافع وأسباب التحول الذي تشهده السياسة الخارجية الإيرانية، في ظل سيطرة التيار الأصولي على مفاصل الحكم في إيران، ذلك التيار الذي يتصف في العموم بالتشدد في ملفات السياسة الخارجية، ولا يُقدم في الغالب على تقديم تنازلات، بخلاف التيار الإصلاحي الذي يجنح إلى المرونة في التعامل مع قضايا السياسة الخارجية.
إذ أن العكس من ذلك هو ما تحقق في إيران خلال العامين الماضيين، التي حكم فيها التيار المتشدد بقيادة الرئيس إبراهيم رئيسي، أنجز خلالها هذا التيار ما لم يستطع التيار الإصلاحي الذي حكم لمدة ثماني سنوات برئاسة الرئيس السابق حسن روحاني تحقيقه.
ففي ظل حكم التيار الأصولي أُعيدت العلاقات مع المملكة العربية السعودية وتحسنت العلاقات مع الإمارات العربية المتحدة، ودار الحديث حول محاولات إعادة العلاقات مع البحرين ومصر والمغرب، فضلاً عن عودة التوجه الإيراني نحو الحلفاء القدامى في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتوطيد العلاقات مع الحلفاء التقليديين مثل الصين وروسيا، وعقد اتفاقيات إطارية غير مسبوقة مع العديد من الدول.
بينما شهدت فترة حكم التيار الإصلاحي بجناحه المعتدل فترة تأزم العلاقات مع محيط إيران الإقليمي، ولم يستطع تحقيق سوى إنجاز الاتفاق النووي عام 2015 مع القوى الدولية، والذي سرعان ما خرجت منه الولايات المتحدة الأمريكية، التي وقعت عقوبات أحادية على إيران عام 2018، ما اعتبر ضربة قوية وهدم للإنجاز شبه الوحيد للتيار المعتدل، على نحو خَصم من رصيده في الداخل الإيراني، لاسيما وأن فترة الأعوام الثلاثة التي نفذ فيه الاتفاق، ورُفعت خلالها العقوبات عن كاهل الاقتصاد الإيراني، لم تشهد نجاحاً ملموساً من قبل حكومة الرئيس حسن روحاني في التوزيع العادل لعوائد رفع العقوبات على المجتمع، وتحسين ظروفه المعيشية، الأمر الذي مهد لفقدان التيار المعتدل لجزء مهم من شعبيته، ومن ثَم خسارة مقاعده في البرلمان، ثُم الرئاسة، ليستطيع التيار المحافظ بجناحه الأصولي استعادة سيطرته على مفاصل النظام مجدداً.
عوامل دافعة للتغيير
فرضت عوامل عدة داخلية وخارجية على صناع القرار الحاليين في إيران الخروج من العباءة التقليدية لمنهج التيار المتشدد في إدارة ملفات السياسة الخارجية، وذلك في ظل ما يشهده الداخل الإيراني من تفاعلات غير مسبوقة منذ نجاح الثورة الإسلامية، وما تمر به المنطقة من تطورات، تطال تداعياتها إيران بشكل مباشر.
فعلى صعيد التطورات الداخلية، شهدت إيران حراكاً شعبياً لم تختبره السلطة الإيرانية منذ قيام الجمهورية الإيرانية، من حيث استمرارية هذا الحراك لأشهر عدة، ولشمولية مكوناته لأطياف المجتمع، وتعدد مطالبه وتصاعدها حتى بلغت حد المطالبة بإنهاء حكم نظام الجمهورية الإسلامية وتغيير الدستور، وذلك على الرغم من التعامل الأمني المفرط في العنف مع المحتجين، والذي استمرت معه الاحتجاجات لأكثر من سبعة أشهر، على خلفية تصاعد الاحتجاجات على قانون الحجاب والعفة، عقب مقتل الفتاة الكردية مهسا أميني في سبتمبر 2022، الأمر الذي عرض إيران لانتقادات دولية بسبب تعاملها العنيف مع المتظاهرين، على إثرها تم فرض عقوبات أوروبية على المؤسسات المعنية بالتعامل مع المتظاهرين.
وعلى الرغم من رمزية أغلب هذه العقوبات التي فرضت على إيران مؤخراً بسبب ملف حقوق الإنسان، فإن العقوبات الاقتصادية التي فرضت عليها من قبل الولايات المتحدة الأمريكية عقب انسحابها منفردة من الاتفاق النووي، كانت قد تسببت في تفاقم الأوضاع الاقتصادية في البلاد، وعلى خلفيتها خرجت العديد من الاحتجاجات الفئوية اعتراضاً على انخفاض الدخل وارتفاع الأسعار، وزيادة معدلات التضخم، بالإضافة إلى احتجاجات شح المياه التي شهدتها عدة محافظات في البلاد.
دفعت تلك التطورات التيار المتشدد إلى السعى لتحقيق إنجازات لتحسين صورته في الداخل وتوفيق أوضاع البلاد الاقتصادية من خلال عقد المزيد من الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية مع الحلفاء التقليديين وتحسين العلاقات مع دول الجوار بهدف تخفيف حدة تأثير العقوبات الموقعة على أهم القطاعات الاقتصادية في البلاد.
أما على صعيد التطورات الخارجية، فقد شهدت المنطقة عدة تحولات: أولها، اتجاه الصين الحليفة لإيران لتوطيد علاقاتها مع دول الخليج، والاصطفاف إلى جانب هذه الدول في عدة ملفات، ربما لا تتناسب مع توجهات إيران، وهو ما استدعى من إيران جهداً متزايداً في السعى لتوطيد علاقاتها هي الأخرى مع الصين، بما يضمن لها الحفاظ على حليفها التقليدي. وثانيها، تشابك علاقة إيران مع روسيا، وما فرضته الحرب الروسية على أوكرانيا من نمط جديد للتحالف مع إيران، الأمر الذي عرض الأخيرة لانتقادات، وضغوط غربية متزايدة بسبب دعمها لروسيا في هذه الحرب بالطائرات المسيرة.
وثالثها، عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، وحضور الرئيس السوري بشار الأسد للقمة العربية في المملكة العربية السعودية في مايو الماضي، وتأكيد بيان القمة الختامي على تكثيف الجهود العربية لمساعدة سوريا على تجاوز أزمتها، والحفاظ على وحدة أراضيها وسيادتها عليها، وذلك بالتزامن مع تزايد الهجمات الموجهة لحلفاء إيران في الداخل السوري من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل، وتحول الداخل السوري بامتياز لساحة للصراع بين إيران من ناحية والولايات المتحدة وإسرائيل من ناحية أخري.
ورابعها، دخول العلاقات التركية السورية منعطف مهم في الجهود المبذولة لتسوية الخلافات بينهما، بوساطة روسية قاربت أن تؤتي ثمارها، في أعقاب انعقاد اجتماعين رباعيين استضافتهما موسكو، كان الأول لوزراء دفاع كل من روسيا وإيران وسوريا وتركيا في 26 إبريل 2023، والثاني لوزراء خارجية هذه الدول في 10 مايو 2023، وتم خلاله وضع خارطة طريق لعودة العلاقات بين البلدين.
دفعت هذه التطورات في مجملها التيار المتشدد إلى إعادة حساباته، لاسيما فيما يخص نمط ومدى نفوذه في العديد من ملفات المنطقة، وموائمة هذا النفوذ بما يمكن وصفه بصفقات إعادة العلاقات المتوترة مع عدد من دول الجوار الإقليمي.
مناخ مواتٍ
مع التسليم بأن القرارات السيادية في إيران عادة ما تتخذ من قبل المرشد الأعلى للجمهورية، في ظل احتفاظه بقدر كبير من السيطرة على مؤسسات النظام كافة، فإن هامشاً من حرية الحركة داخل الإطار العام الذي يرسمه المرشد، يسمح لمؤسسة الرئاسة بإدارة الملفات المختلفة، بالتعاون مع المؤسسات الأخرى المعنية بالنظر في ملائمة هذه القرارات، مثل البرلمان، ومجلس صيانة الدستور، والمؤسسات الأخرى المعنية بالتنفيذ. في هذا الإطار يمكن التسليم أيضاً بأن فرص التيار المتشدد في تنفيذ وتحقيق أجندته على الأرض، تفوق بكثير الفرص المتاحة للتيار الإصلاحي، نظراً لما يتمتع به التيار المتشدد من سيطرة على أهم مؤسسات هيكل الحكم في البلاد، ويأتي على رأسها بالطبع مكتب المرشد الأعلي.
وبالمقارنة بين ما استطاع تحقيقه التيار المعتدل خلال فترة حكم الرئيس حسن روحاني، مع ما استطاع تحقيقه التيار المتشدد خلال الفترة المنقضية من حكم الرئيس إبراهيم رئيسي، يمكن القول بأن عاملين أساسين قد ساعدا التيار المتشدد على تحقيق اختراقات مهمة في ملف علاقات إيران بالعالم الخارجي، يتمثلان في:
1- سيطرة التيار المتشدد على مؤسسات التشريع ومراكز صنع القرار: فمع خضوع مؤسسات التشريع المهمة في البلاد لسيطرة التيار المحافظ، هدف الأخير منذ فوز رئيسي بمنصب الرئاسة إلى تغيير أمناء المجالس المهمة في دائرة صنع القرار السياسي في البلاد، المتمثلة في الأساس في المجلس الأعلى للثورة الثقافية، والمجلس الأعلى للفضاء السيبراني، والمجلس الأعلى للأمن القومي، واحداً تلو الآخر، ليكون أمناء هذه المجالس منتمين للتيار المتشدد، الأمر الذي يضمن تمرير قرارات حكومة رئيسي، وتنفيذ أجندته، وهو ما لم يتوفر للتيار المعتدل خلال ثماني أعوام هي فترة تولي روحاني منصب الرئاسة، على الرغم من تحقيقه اختراقاً مهماً لقواعد اللعبة السياسية في الداخل الإيراني بحصوله على منصب الرئيس، وتشكيله أغلبية البرلمان في دورته الثانية عشر، إلا أن هذا التيار ظل مكبل الأيدي في ظل توغل التيار الأصولي في المؤسسات المهمة والحساسة في البلاد، وعرقلته لمحاولات عده سعي التيار المعتدل لتحقيقها خلال هذه الفترة.
وقد بدا ذلك في أكثر من مناسبة، فعلى سبيل المثال لا يمكن تجاهل مشهد قطع التلفزيون الإيراني لخطاب الرئيس حسن روحاني لمرتين الأولى في أغسطس 2016، عندما انتقد تعامل التيار المتشدد مع ملف العقوبات على البلاد، من خلال السخرية من تصريحات للرئيس الأسبق أحمدى نجاد وصف فيها العقوبات المفروضة على إيران بأنها “أوراق ممزقة”، والثانية في أغسطس 2018، خلال حديثه عن التحديات التي تتعرض بلاده وسبل مواجهتها.
يشير هذا الأمر في مجمله إلى فقدان سيطرة التيار الذي ينتمي إلى الرئيس على مؤسسة مهمة مثل مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الرسمية في البلاد، وهو ما انسحب على العديد من المؤسسات الأخرى التي اعتادت عدم تمرير قرارات حكومة روحاني والعمل على تعطيلها، لاسيما فيما يخص الحريات التي تعهد روحاني خلال حملته الانتخابية برفع مستوها، ولم يستطع تحقيق وعوده في ضمان استخدام حر للإنترنت، كما لم تتم الاستجابة لمطالبه بتوفير مزيد من الحريات في الجامعات.
2- فشل استراتيجية المراهنة على الغرب: منذ تولي الرئيس حسن روحاني منصب الرئيس وتعيين وزير خارجيته جواد ظريف، بدا توجه كلاهما إلى المراهنة على العلاقات مع الغرب واضحاً، بهدف تخليص إيران من العقوبات المفروضة عليها، ومن تداعياتها السلبية على الاقتصاد والداخل الإيراني بشكل عام، ذلك التوجه الذي انتقده المرشد الأعلى علي خامنئي في أكثر من مناسبة، مؤكداً على خطر المراهنة على الغرب، لاسيما في ظل ما مثله هذا التوجه من انتقادات وجهت لايران من قبل حليفيها التقليديين الصين وروسيا، كما تزايدت حدة هذه الانتقادات مع موقف إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الاتفاق النووي وانسحابها منه وتوقيع عقوبات الضغوط القصوى على إيران.
وعلى الرغم من أن النفوذ الإقليمي الإيراني قد شهد “سنوات ذهبية” خلال عهد روحاني وبالتالى التيار المعتدل، إلا أن تزايد نفوذ طهران في سوريا والعراق واليمن حُسب ولا زال لصالح مؤسسة الحرس الثوري التي تمثل بجدارة التيار المتشدد في البلاد، وبالتالي تم تفريغ إنجازات التيار المعتدل من مضمونها، ووُضع روحاني وجواد ظريف بعد تعطل الاتفاق النووي تحت طائلة التصفية السياسية، ذلك المنهج الذي عادة ما يتبعه المرشد الأعلى ومكتبه مع الشخصيات السياسية التي يلمع نجمها عقب تحقيق إنجاز ما أو زيادة شعبيتها، وذلك من خلال إبعادها عن الساحة أو التقليل من إنجازاتها، مثل ما حدث مع الرئيسين السابقين محمد خاتمي، وأحمدي نجاد، وأخيراً على شمخاني الأمين السابق للمجلس الأعلى للأمن القومي.
وبعكس توجه التيار المعتدل ناحية الغرب، نجح التيار الأصولي في فرض تشدده على سير المفاوضات الخاصة بإعادة إحياء الاتفاق النووي مع القوى الدولية، بهدف كسب الوقت لتحقيق مزيد من التقدم في البرنامج النووي، وبالتالى الضغط على أطراف التفاوض بما يخدم مصلحة إيران، إلى أن وصلت الأخيرة في النهاية إلى عقد مفاوضات غير مباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية تتم حالياً بوساطة إقليمية، في وقت يروج فيه النظام إلى أن سياسة الضغط القصوي من قبل الولايات المتحدة الأمريكية قد باءت بالفشل في ظل تأقلم الاقتصاد الإيراني على العقوبات وإيجاده سبل للالتفاف عليها ومن ثم تقليل تأثيرها.
وفي هذا الإطار، يمكن القول إن الاختراقات التي استطاع التيار المتشدد في إيران تحقيقها في العديد من الملفات الخلافية والشائكة مع الخارج، سيظل نجاحها مرهوناً بكيفية التعامل مع هذه الملفات بعد تسويتها، وهل ستشهد توجهات هذا التيار تغيراً يتلائم مع حجم هذه الاختراقات المهمة، لاسيما فيما يخص عودة علاقات إيران مع محيطها الإقليمي، أم أنها ستشهد تجمداً أو تعطلاً ما.
رانيا مكرم
مركز الاهرام للدراسات