رواية تولستوي «الحرب والسلم» تحتفل بها روسيا شعباً ودولة ومدناً، وتمت الدعوة إلى قراءة صفحات منها في المسارح والساحات وأمام الكاميرات التلفزيونية واليوتيوب، وشارك في القراءات سياسيون وفنانون ورياضيون… والاحتفال مفتوح في سياق «سنة الأدب» التي أعلنتها روسيا.
الروس يقرأون تحفة تولستوي التي غزت العالم ويسترجعون ذكرى اجتياح جنود نابوليون الأول بلادهم في مطلع القرن التاسع عشر واندحارهم من ثم… أما رئيسهم بوتين، القيصر المزيف، فيشن حرباً جوية رعناء على سورية وذريعته القضاء على الإرهاب الذي يمثله تنظيم «داعش». لا وقت للإمبراطور الجديد ليقرأ «الحرب والسلم» وإن وجد مقداراً من وقت فهو لن يهدره في قراءة رواية تولستوي بتاتاً. يعلم بوتين أن نزعة تولستوي الإنسانية ستؤنب ضميره وأن مقاومة جنود بلاده ضد الزحف النابوليوني التي تتحدث عنها الرواية، ستفضح حربه الظالمة التي تدمر سورية وشعبها من دون أن تنال من أعدائه المفترضين، وهم أصلاً أعداء سوريا والعرب وأعداء العالم كله. يخشى بوتين أن يفتح رواية تولستوي فهو سيجد صورته في شخص نابوليون المعتدي الذي غزا الأرض الروسية بصلافة وعنجهية. ومعروف كيف هجا تولستوي نابوليون في الرواية واصفاً إياه بالشخص القاسي الخالي من الروح الإنسانية، الشخص الذي «يحب أن يرى مشهد القتلى والجرحى، هذا المشهد الذي، كما يعتقد، يغذي بطشه». ولعل بوتين ليس غريباً عن هذه النزعة، فهو يشاهد حتماً على الشاشات عواقب جرائمه البشعة و «مناظر» القتل والتدمير والتشريد، من غير أن يشعر بألم أو ندم. بل هو كلما مضى في فتكه ازداد خيلاء وبربرية، عارضاً «عضلاته» كما في رسم كاريكاتوري، ومهدداً من طريق الادعاء السمج والغليظ، بالسلاح النووي.لن يقرأ بوتين، هذا الرجل «الحديد»، سليل الاستخبارات السوفياتية، رواية «الحرب والسلم» الآن، في أوج حربه الظالمة ضد سورية وليس ضد «داعش»، مثلما فعل معلمه ستالين في الحرب العالمية الثانية، وهو كان أمر، خلال حصار ستالينغراد، بتوزيع مئة الف نسخة من رواية «الحرب والسلام» على المواطنين ليحرضهم على الصمود ويذكي في نفوسهم حماسة المواجهة. بوتين لا يحتاج إلى تولستوي ولا إلى روايته، فهو الذي يحاصر ويعتدي ويدك بلاداً وشعباً ويفتك بأرواح الأطفال والنسوة والعجائز. لن يقرأ بوتين «الحرب والسلم» لئلا يشعر بقليل من الحرج، الحرج فقط، لا سيما عندما يكتشف نفسه في ما كتب تولستوي عن نابوليون ومنه على سبيل المثل: «لم يتمكن نابوليون بتاتاً، من فهم الخير والجمال والحقيقة، أفعاله كانت مناوئة للخير والحقيقة، وبعيدة جداً من الإحساس الإنساني». سيشعر بوتين أن هذا الهجاء موجه إليه مثلما هو موجه إلى نابوليون المعتدي.
يخيل لبوتين، الرئيس الآتي من عالم الاستخبارات السوفياتية والغارق في «لعبة» السوق السوداء كما يُشاع عنه، أنه يحمل على عاتقه مهمة استرجاع أمجاد الأمة القيصرية، وإحياء الاستثناء السلافي، وتجديد الانتماء الروسي. بل قد يتصور نفسه بطلاً من أبطال دوستويفسكي المشبعين بالروح الروسية الأرثوذكسية، لا سيما بعدما باركت الكنيسة الروسية حربه ثم تراجعت عن فعلتها. لكنّ روحانية دوستويفسكي الذي يقال أنه من المعجبين به، براء منه تماماً. ولعل بوتين في مثل قناعاته المتوهمة، لا يمكنه أن يستوعب آراء تولستوي ونظرته إلى التاريخ والسياسة والوضع البشري. ليس لدى تولستوي نزعة وطنية متزمتة وعنصرية، ليس لديه أوهام انتصار ديني ولا سياسي، ليس لديه ميل إلى الانتماء القومي المغلق. ولطالما نادى تولستوي بـ «الوطنية الجليلة» التي تحترم المساواة والكرامة بين الشعوب. وكم نادى بالأعراف الإنسانوية والكونية التي تفترض التعدد والاختلاف وتتخطى جدران التفرقة الثقافية والعرقية والدينية. لا يمكن بوتين أن يجد في «الحرب والسلم» ما يؤكد غاياته المعلنة والمضمرة، وما يدعم مشروعه المزيف في إنهاض الأمة الروسية.
تستحق رواية «الحرب والسلم» عودة الشعب الروسي إليها والتفاتتهم الكريمة إلى عالمها ووقائعها وشخصياتها وأفكارها ومواقفها التي لا تحصى. وتستحق الرواية هذه أيضاً العودة إليها بصفتها ملحمة روسيا القرن التاسع عشر، روسيا القيصرية، روسيا الأمراء والأميرات والنبلاء والنبيلات والضباط، روسيا المقاومة ببسالة للزحف النابولياني، روسيا الارستقراطية بأسرارها وشؤونها الخفية وصراعاتها… ملحمة ضخمة وسمت تاريخ الرواية العالمية بأجزائها الأربعة، وبدأت عهداً روائياً غير مألوف سابقاً، ونجحت في صهر التأريخي والتخييلي، الواقعي والنفسي، في سياق سردي رهيب تصعب الإحاطة به كاملاً. مئة وخمسون شخصية تتحرك وتحيا وتتصارع في ألفين من الصفحات، ووسط سيل من الوقائع والوثائق والمشاهد…
في روايته العظيمة هذه، يقول تولستوي على لسان إحدى شخصياته: «الحقيقة يجب أن تُفرض بلا عنف»، وعلى لسان شخصية أخرى يقول: «إذا كان العالم يتقاتل بملء يقينه، فلن تكون هناك حرب». تُرى أليس مثل هذا الكلام موجهاً إلى بوتين، قيصر القرن الحادي والعشرين؟
عبده وازن
صحيفة الحياة اللندنية