حين التفتَ حافظ الأسد إلى لبنان عام 1973، بعدما كان قد لبس هندامَ المنتصر، ورتّب مقتنياتِ مواد دستور البلاد الجديد، وجدَ موسى الصدر رئيسَ المجلس الشيعيّ الأعلى في لبنان مستعدّاً لتقديم العون له، حيث أصدر فتواه التي اعتبرت العلويين من المسلمين، كونهم إحدى الطوائف الشيعيّة الاثني عشريّة. ومع تلك الهديّة النفيسة صار حافظ الأسد الرئيس المسلم لسورية، كما ينصُّ الدستور الذي صنعه بيديه كآخر العسكر المنقلبين على شرعية الحياة المدنية والسياسية.
وقبل أن يراهن على فيض المنفعة التي قد تأتيه من انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، أو حتى يترقّبه، كان قد زار طهران قبل ذلك بأربع سنوات استكمالاً لإبرام سلسلة من اتفاقيات التعاون الاقتصادي المشترك بين البلدين، تلك الندّية التي أصرَّ حافظ الأسد على تثبيتها مع إيران بنسختيها المعروفتين، نسخة الشاه رضا بهلوي ثم نسخة آية الله الخميني جعلته قادراً على الاستثمار جيداً في تلك العلاقة، سيما بعد تذوّقه مرارة القطيعة مع “مصر السادات” بعد “كامب ديفيد” عام 1978، وبعدها بعام مع “عراق صدّام حسين” والذي وصل إلى الحكم فيها بانقلاب على أحمد حسن البكر، مردّداً جملته “الرئيس يريد بيعنا لحافظ الأسد”، قاطعاً الطريق على إبرام ميثاق وحدةٍ أوشك البلدان الدخول فيه، متّفقَين أن يكون البكر هو الرئيس، والأسد هو الأمين العام القومي لحزب البعث. تلك الجملة التي عنونت انقلاب صدّام هي الجملة نفسها التي عنونت علاقته مع سورية البعث والأسد، وهي الجملة ذاتها التي أطالت المكوث في ذهن حافظ الأسد، وأجبرته على رسم خريطةٍ جديدة لتحالفاته الإقليمية لا يكون البعثُ “الشقيق” في العراق جزءاً منها.
الندّية التي أسّسها حافظ الأسد في علاقة سورية مع إيران سرعان ما بدّدها ابنه في أقلّ من عشر سنوات، فصارت سورية خلال حكمه محافظة إيرانية
وبإحساسه البراغماتي الفطري والعميق، لم يتردّد حافظ الأسد بدعم إيران في حربها ضد العراق مطلع ثمانينيات القرن الماضي، محوّلاً مبادئ حزب البعث إلى مجرّد كرّاسٍ مدرسيّ رثّ جرى رميُه إلى أقرب حاوية قمامة، فقطع أنبوب النفط العراقي الواصل بين كركوك وبانياس، لكنه وفي آن بدأ بالحصول على النفط الإيراني وبسعر أقلّ مما كان يُدرّه عليه الأنبوب العراقي، وحين قرّرت طهران قطع توريد نفطها إلى سورية على خلفية الخلاف حول رفض نظام الأسد السماح لإيران بمزيد من الحجم الجيوسياسي داخل لبنان، وذلك بعد تشكيلها حزب الله اللبناني، إثر سقوط بيروت المدوّي عام 1982، والذي سرعان ما دخل في خصومةٍ واقتتالٍ مع حركة أمل الحليف الشيعي الأقوى لحافظ الأسد، الرئيس الأكثر قلقاً والأشدّ مراوغة في الشرق الأوسط، والذي لم يوفّر المبادرة السعودية الداعية إلى تطبيع علاقاته مع الأردن، باعتبارها الحليف الأول لنظام صدّام حسين، حينها كان حافظ الأسد يخشى جدّياً من فقدانه الهيمنة التي اعتادها على إدارة الملفّ اللبناني لصالح نماء نفوذ الحرس الثوري الإيراني هناك، وكما توقع الأسد، فقد عادت إيران عن قرارها وقف تصدير نفطها إلى سورية، وتم احتواء حزب الله في لبنان سوريّاً.
كان حافظ الأسد يُتقن لعب السياسة في المساحات الضيّقة التي تخلّفها التناقضات الإقليمية والدولية وراءها، فهذا ملعبه الأثير بشهادة الجميع. كان يدعم إيران ليضعف جاره “عراق البعث اللدود”، لكن من دون أن يناصبَ العداء لدول الخليج، والتي ظلّ يقنعها خلال سنوات الحرب الثماني بالخطورة التي تتربّص بهم، إنْ خرج صدّام منتصراً في حربه. وفي الوقت نفسه، لجم نفوذ حليفه الإيراني في لبنان، إلى درجة أن أبواب دمشق ظلت مقفلة بوجه حزب الله وقياداته حتى مطلع تسعينيات القرن الماضي.
لم يسهب حافظ الأسد في زيارة حليفه الإيراني، إذ امتنع عن فعل ذلك طوال سنوات حياة آية الله الخميني، الذي طالما اعتبر الأسد رئيساً غير مسلم، بخلاف فتوى موسى الصدر بطبيعة الحال! وبالرغم من هذا، كانت سورية أول دولة عربية اعترفت بإيران الخميني، وثالث دولة في العالم وثّقت ذاك الاعتراف بعد الاتحاد السوفييتي وباكستان. وهكذا ظلّت العلاقة مع إيران خاضعةً للشروط والمعايير التي وضعها حافظ الأسد خلال فترة حكمه، فكان لا يعطيها شيئاً، إلا وقد أخذ مقابله مكاسبَ مُضاعفة، وتلك قاعدته البراغماتية التي لم يكن يخجل من المجاهرة بها.
كانت الثورة السورية ضد بشار الأسد هديةَ السماء الثمينة للنظام الإيراني، لكي يبدأ معها رحلة التغلغل في سورية، واحتلالها التدريجي
وبحلول عام 2006 كانت إيران ثالثَ أكبر مستثمر في سورية بعد السعودية وتركيا، وقد أعلنت نيّتها توسيع استثماراتها إلى نحو عشرة مليارات دولار خلال ستة أعوام مقبلة، وخلال العقد بين عامي 2001 و2011 تجاوز حجم التبادل التجاري بين البلدين مليارين ونصف المليار دولار. لكن تلك الندّية التي أسّسها حافظ الأسد في علاقة سورية مع إيران سرعان ما بدّدها ابنه في أقلّ من عشر سنوات فقط، فصارت سورية خلال حكمه المحافظة الإيرانية الثانية والثلاثين، وصار بمقدور رئيس إيران إن زار سورية أنْ يتجوّل بمفرده بين مقامي السيدة زينب والسيدة رقية، وأن يلتقط أنفاسه قليلاً في جامع بني أميّة الكبير، وحوله تخفقُ الأعلام الإيرانية، ويسمع بجلاء أصوات التلبية لعلي بن أبي طالب، وصار بمقدوره كذلك أن يجتمع بممثلي الفصائل الفلسطينية في دمشق، وأن يلتقيَ بفعالياتٍ تجارية وصناعية سوريّة، ووزراء سوريين، وممثلين عن مجلس الشعب في مكان إقامته. هذا بالضبط ما فعله الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي حين زار دمشق مطلع شهر مايو/ أيار الماضي، ليظهر بشار الأسد، خلال مجريات هذه الزيارة، وكأنه مجرّد موظفٍ تنفيذي يعمل لدى النظام الإيراني، ويسيّر لهم شؤون محافظتهم الجديدة المترامية الأطراف من مناطق نفوذهم في العراق شرقاً، وحتى مناطق نفوذهم الجديدة على شواطئ البحر المتوسط غرباً، وصولاً إلى “حدود إسرائيل” في الجنوب الغربي من البلاد.
ولم تكن إيران لتدعم النظام السوري بنحو ستة مليارات دولار سنوياً حرصاً منها على متانة “محور الممانعة” وإشراق اسمه، بل إن الثورة السورية ضد بشار الأسد كانت هديةَ السماء الثمينة للنظام الإيراني، لكي يبدأ معها رحلة التغلغل في سورية، واحتلالها التدريجيّ، في محطّات يصعب نسيانها، ربما كان في مقدّمتها مذكّرات التفاهم الخمس التي وقّعها رئيس وزراء النظام السوري، عماد خميس، في أثناء زيارته طهران عام 2017، وشملت جملةً من العطايا السورية والهبات، منها امتياز استخراج الفوسفات من منجم الشرقيّة، واستخراج النفط من البلوك رقم 12 في دير الزور، وامتياز بناء مصفاة للنفط في حمص، واستثمار مشغّل ثالث للهاتف الخليوي في سورية.
تريد إيران الاستيلاء على أكبر مساحةٍ ممكنةٍ من الأرض، سواء بالشراء المباشر أم بالاستثمار
لقد تحوّلت إيران خلال العقد الماضي من شريكٍ متواضعٍ يعمل على تطوير معمل سيارات شام السوريّ، إلى حالة استيطانية عميقة وعمياء وشديدة التوغّل في البنيات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. ولأجل هذا لم يتوقف محافظ سورية، بشار الأسد، عن تدبيج القوانين التي يطلبها الإيرانيون ويصدّرها لهم، وربما كان آخرها إمكانية دفع الحجاج الإيرانيين كلفة إقامتهم الفندقية بالليرة السورية، بعدما كانوا يدفعون بالدولار، وقبله إلغاء رقم الخانة من البيانات الشخصية للفرد أي اعتبار سورية دائرة نفوس واحدة، وقبله القرار الذي يسمح بنسب الابن غير الشرعي إلى والدته.
تريد إيران الاستيلاء على أكبر مساحةٍ ممكنةٍ من الأرض، سواء بالشراء المباشر أم بالاستثمار، ولعلّها تركّز جهودها في هذه الاتجاه على دمشق وحلب وحمص، وتريد أيضاً شراء الولاءات المحلية من وجهاءَ اجتماعيين، وشخصيات اقتصادية وثقافية لامعة ومتنفّذة، سواء بدعمهم دعماً مالياً مباشراً، أم في تشييعهم، وإدخالهم فردوسَ مشروعها التبشيري ذي الطابع السياسي المتمثل في تصدير ولاية الفقيه إلى كل الأصقاع الممكنة.
بفضل بشار الأسد، صار لإيران بيتٌ على البحر المتوسط، بنافذتين. تطلُّ الأولى على تركيا، والثانية تطلُّ على لبنان وإسرائيل، وبيتها هذا أكبر بكثير من بيتها في العراق، وأكثر أهميةً منه، وهو البيت الذي ستُحارب لأجل البقاء فيه، حتى ولو خسرت آخر أنفاسها هناك.
العربي الجديد