لو قُلبّت أوراق تاريخ الصراع الإيراني التركي على العراق لانكشفت ملفات تثير أكثر من هاجس، أخطرها هاجس الصراع المذهبي والقومي الذي امتد على أكثر من ستمئة عام، والذي تحركه مصالح النفوذ لهاتين الدولتيْن في العراق، كلاهما حكم هذا البلد، وكلاهما استخدم الأدوات الأيديولوجية لتنفيذ الإرادات.
قد يُتهم من يحاول توصيف الحالة الراهنة بعمقها التاريخي بأنه يسعى إلى تأجيج الصراعات المذهبية والارتهان لأخطاء تاريخية نتيجة ردود الفعل والانتقام أو الوقوع في “فوبيا السنة أو فوبيا الشيعة”، لكن الذي يحدث اليوم من توتر على محيط العراق التركي يتطلب رؤية بعيدة عن الاستقطابات الطائفية المحلية. فقد لوحظ في الأيام الأخيرة وعلى وقع دخول قوات تركية في منطقة عراقية قريبة من الحدود تصاعد الحملة التعبوية داخل العراق من مجموعات واضحة الولاء والانتماء ومنفذة لإرادات سياسية لا علاقة لها بمصالح العراق العليا الغائبة حاليا. أوراق التاريخ تقول إن الأتراك والإيرانيين تقاتلوا في ما بينهم لمدة 700 عام ولم تكن بينهما أطماع متقابلة. لكن كليهما يحلم بأطماع ذات نزعات تاريخية تجاه العراق عندما يكون في أضعف حالات الوهن والتفكك وهذا ما يعيشه الآن.
ومن الحقائق الساطعة أن المذهبين الشيعي والسني لعبا دور الغطاء الأيديولوجي أو الأداة الأيديولوجية للصراع التركي الإيراني طيلة أربعمئة عام، بين عام 1500 و1900 ما بين حكم إسماعيل الصفوي الذي حوّل إيران الدولة السنية إلى دولة شيعية، وحتى قيام الحكم الشاهنشاهي في إيران، وما بين الإمبراطورية العثمانية وحتى ولادة الدولة العلمانية الحديثة في تركيا. استخدمت إيران المذهب الاثني عشر الشيعي وهو مذهب جزء من أهل العراق لكي يسهل عليها طريق الهيمنة والتوسع، وقد فرضت الدولة الصفوية في ذلك الوقت على المراجع الشيعية في العراق اعتبار الصفوية جزءا من تراثها في صراع ثنائية معقدة ما بين المذهبي والقومي لم تتواءم وخضعت للمد والجزر إلى حين مجيء حكم الخميني عام 1979 الذي طرد التعصب القومي للشاه لصالح مرونة التوافق بين القومية الفارسية والشيعية الاثني عشرية لتصدير مبدأ ولاية الفقيه في العراق أولا ثم في الخليج.
أما في تركيا، فقد كانت الإمبراطورية العثمانية تحكم وفق امتداد الخلافة الإسلامية السنية ولا علاقة لها بالمذهب الوهابي السعودي، بل حاربته خلال حكمها الإمبراطوري. وظلت طيلة قرون هيمنتها تواجه تحالفات تآمرية من روسيا وإيران، لحين دخول الغرب في تحالفاته المعروفة لإضعاف الإمبراطورية العثمانية وهزيمتها وإسقاطها بعد الحرب العالمية الأولى، لكن الأتراك استطاعوا التشبث بالعقيدة العلمانية على يد مصطفى كمال أتاتورك ونهضوا بتركيا المدنية الحديثة، ويصعب الحديث عن انبعاث للعثمانية على يد الإسلاميين التحديثيين المعتدلين الباحثين عن رضى غربي.
وبسبب قوة صراع المصالح الدولية، ونهوض أوروبا الجديدة إلى جانب أميركا المثيرة لأحلام قيادة العالم، وقع العرب بعد توقيع اتفاقية سايكس بيكو ضحية اللعبة الدولية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية وظهور مشروع الكيان الصهيوني، ورغم حالة النهوض القومي الجديد، لكنهم لم يتحولوا إلى كتلة عروبية واحدة لمواجهة التحديات الجديدة، لأسباب بنيوية، ولكونهم ضاعوا في شتات التزاحم ما بين القومي العروبي والإسلامي الصاعد. ولأن أولويات الصراع لم تخدمهم، والسبب الرئيسي هو الوجود الإسرائيلي الذي زاحم النهضة العربية الجديدة ووجد أنها تهدد كيانه في قلب المنطقة، فلسطين، فحاربها بقوة ولم يتغاض عن عقد تحالفات ذات طابع انتهازي مع الغرب وروسيا وإيران.
حاول صدام حسين دخول لعبة الصراع القومي (الفارسي العربي) وخاض الحرب مع إيران بين 1980 و1988 واستدعى العرب لكي يتجاوبوا مع فكرة الصراع، لكنه رغم انتصاره العسكري ذهب في طموحه الشخصي إلى حدود غير مقبولة من الأميركان ولعبتهم لبناء الشرق الأوسط الجديد، معتقدا أن صراع الحدود مع إيران يمكن أن يؤدي إلى انتقال تدريجي لكسر شوكة النهوض الأيديولوجي المذهبي والقومي الخارج من طهران بقوة بعد مجيء الخميني، وأنه قادر على تكوين وقيادة الكتلة العربية الغائبة، فتعددت جبهات صراعه. ووقع في الفخ، فسقطت أحلامه رغم أن العرب آزروه بالمال والسلاح دفاعا عن أمنهم الوطني والقومي، وليس من أجل تغذية طموحاته، ولهذا تخلوا عنه بعد صمت المدافع، وتأمين أوضاعهم الأمنية مؤقتا، بل سارعوا إلى قبول التسريبات الأميركية والإسرائيلية والإيرانية المكثفة القائلة بأن صدام يستهدف التهام الخليج، فساندوا التحالف الذي قادته أميركا لإسقاطه عام 2003 وإسقاط دولة العراق، واليوم يشعرون بأن أمنهم الداخلي مهدد من إيران التي ملأت فراغ العراق المنهار.
إن هذه التشابكات والتعقيدات التاريخية والأيديولوجية حول العراق والمنطقة، هي التي تلقي بظلالها اليوم على مطبخ صناعة الحاضر والمستقبل وفق سيناريوهات غير واضحة، وسط عقد الإمبراطوريات الزائلة والمنبعثة من جديد في غير مناخها وهوائها وأرضها.
فالعالم لم يعد مجموعة دببة يحاصرها جليد قطبي لا تدير رؤوسها إلى الخلف، ولا تتنفس سوى هواء الثلج. العالم اليوم يتحرك وفق معطيات التكنولوجيا والاتصالات لدرجة أن الاستراتيجيين والسياسيين فيه غير قادرين على اللحاق بمستجداته. فلا تركيا يمكنها أن تبعث ماضيها الإمبراطوري العثماني لأنه ثقيل عليها ثقل الجبال، بل تسعى لكي تتساوى مع غيرها من الأوربيون على بساط المدنية الجديدة. ولا إيران، التي يعيش أكثر من نصف شعوبها على خط الفقر، قادرة على تسويق إمبراطوريتها الفارسية، وليس من المستحسن منح روسيا ألقابا إعلامية كبيرة خارج حجمها لأن الشعوب الروسية بحاجة إلى الخبز والأمن والحرية التي ذاقتها بعد سقوط إمبراطورية ستالين وجدار برلين. ولا تستطيع الانتهازية الروسية في ظل حكم فلاديمير بوتين أن يتعدى دورها ما يقدمه سندويش بارد يؤخذ على رصيف الشارع. وكلا الحكومتين، في بغداد ودمشق، غارقتان في فوضى الأمن والسياسة وأكثر من نصف أراضيهما محتلة من داعش، رغم ذلك تتحدثان عن السيادة المنتقاة، وأدوارهما لا تتعدى حال المتفرج في قاعة سينما يتسرب من سقفها ماء العواصف والأمطار.
صراع المصالح الروسية والتركية والإيرانية على وقع حرب داعش المصنوعة بمهارة عالية، لا يؤدي إلى نتائج استراتيجية كبرى يمكن أن تحدث الآن، لأن أميركا لا ترضى أن تعود إلى الوراء لتقبل بروسيا كقطب ثان، ولو ارتكب باراك أوباما هذا الخطأ فسيتلقى لعنة القادمين الجدد في البيت الأبيض.
ليس غريبا أن تتلاشى دول كثيرة في الشرق أهمها سوريا والعراق وتتحول إلى كيانات طائفية هزيلة، لكن لن تنبعث الإمبراطوريتان الفارسية والعثمانية من جديد، فالعقد الإمبراطورية يهزمها الحاضر، كما أصبحت هاتين الإمبراطوريتين ومعهما أحلام القياصرة في الشرق، أوراق خريف تساقطت وتحولت إلى سماد لأديم الأرض.