على رغم الأهمية الكبيرة التي مثلتها زيارة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان إلى العاصمة الإيرانية طهران في الـ 17 من يونيو (حزيران) الماضي، وما يعنيه ذلك من ترجمة عملية للنيات السعودية الجدية في كسر الجمود وإنهاء القطيعة التي استمرت نحو عقد من الزمن بين الرياض وطهران، وإظهار جدية سعودية واضحة بنقل الاتفاق الموقع بين البلدين في مارس (آذار) الماضي برعاية صينية من المستوى البروتوكولي إلى المستوى العملي عبر إعادة إحياء العلاقات الدبلوماسية وتفعيل الاتفاقات الأمنية الموقعة بين الطرفين، إلا أن الأهم في هذه الزيارة هي النقاط التي كانت واضحة في مواقف الوزير السعودي من العاصمة الإيرانية، وتمحورت حول “أهمية انعكاس عودة هذه العلاقات على المنطقة بأسرها والعالم الإسلامي، وأن تعطي الزيارة آفاق التعاون بين البلدين آثاراً إيجابية تسهم في الأمن الإقليمي والتنمية والتعاون الاقتصادي والثقافي وغيرها من المجالات”.
المبادرة السعودية في كسر الجمود كان من المفترض أن تلقى تجاوباً وإيجابية إيرانيين، وأن يبادر المسؤولون الإيرانيون إلى خطوات تعزز المسار الجديد من الانفتاح والتعاون والتنسيق، إلا أن الإحجام الإيراني عن اتخاذ خطوة حاسمة وملاقاة هذه المبادرة بواحدة مثلها لم تحصل، فوزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان الذي قام بأكثر من جولة دبلوماسية إلى عدد من العواصم الخليجية لم يقم بزيارة الرياض، ولم تحدد طهران حتى الآن موعداً لزيارة رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي إلى السعودية تلبية للدعوة التي وجهها له الملك السعودي سلمان بن عبدالعزيز.
لا شك في أن أية زيارة إيرانية إلى الرياض من المفترض أن تحمل معها موقفاً واضحاً وخطوة عملية في ما يتعلق بالنقاط التي تشكل مصادر قلق لدى القيادة السعودية، بخاصة ما يتعلق بملف الأزمة اليمنية، إلا أنها ومن خلال تطور الأحداث والمسار التفاوضي اليمني يبدو أنها لم تستطع حتى الآن تحقيق خرق جوهري أو نقلة نوعية في موقف حليفها الحوثي ومسألة الذهاب إلى طاولة تفاوض جدية وحوار سلام يمني – يمني لإنهاء الصراع، وإقفال هذا الملف الذي يشكل تهديداً للأمن القومي والوطني السعودي من الخاصرة اليمنية، مما يجعله في دائرة المصالح الاستراتيجية في رؤية القيادة السعودية.
الأزمة اليمنية ومنذ التوقيع على “اتفاق بكين” شكلت اختباراً حقيقياً لمدى الجدية الإيرانية في الانتقال إلى مرحلة جديدة من التعاون الإقليمي من البوابة السعودية، وكان من المفترض أن يشكل لدى الجماعة الحوثية خياراً لما يقدمه من فرصة لبدء حوار وطني يؤسس لإعادة السلام في الإقليم ويفتح الطريق أمام إعادة بناء الدولة اليمنية، بخاصة أن الجهود السعودية لفتح الطريق أمام هذا الحوار كانت واضحة منذ البداية، وجاءت ترجمتها باللقاءات التي عقدت بين الموفد السعودي والقيادات الحوثية في صنعاء خلال أبريل (نيسان) الماضي، وكان من المؤمل أن تشكل منطلقاً لهذه المرحلة الجديدة.
وإذا ما كانت الخطوات العملية للانفتاح السعودي على إيران مشروطة بمدى التقدم الإيراني في التعاون حول الملفات الإقليمية، وتحديداً اليمن، وهو تعاون يبدو حتى الآن يسير ببطء شديد، أو يعاني عراقيل واضحة مزدوجة، فقد لا تكون مرتبطة بالرغبة الإيرانية في التعاون مع السعودية أو الالتزام بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه بينهما في بكين، بل يرتبط بعاملين أساسين ومدى تجاوب الحوثي مع الرغبة الإيرانية، وتعليق النتائج النهائية لهذا المسار إلى ما بعد حصول طهران على موقف واضح وصريح من الإدارة الأميركية في ملفات أخرى تشكل مساحة اشتباك بين الطرفين في الإقليم، ليس الملف النووي سوى واحد منها.
ففي العامل الأول يبدو أن الجماعة الحوثية تمارس نوعاً من الضغط على طهران والرياض من أجل الحصول على مكاسب أكثر وأكبر قبل الانتقال إلى مرحلة الحوار والتفاوض الجدي مع خصومها الداخليين، وهذا ما يظهر من المواقف التصعيدية الأخيرة لزعيم الجماعة عبدالملك الحوثي، والتي تزامنت وترافقت مع تصعيد حذر ومدروس من زعيم “حزب الله” اللبناني حسن نصرالله بعودته للحديث عن الأزمة اليمنية وحال التوتر التي عادت للمشهد على هذه الساحة، وهو تصعيد وإن كان يكشف عن وجود أزمة على هذا المسار إلا أنه سعى إلى إبقائها تحت سقف مضبوط حتى لا يزعج حليفه الإيراني أو يؤثر سلباً في مساعي الوساطة الإقليمية لإزالة العوائق، بخاصة الجهود التي يبذلها سلطان عمان هيثم بن طارق، وهي جهود تكشف بوضوح الترابط بين المسار اليمني ومسار المفاوضات النووية.
إعادة إحياء المفاوضات النووية أو استئنافها، بحسب تعبير وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن قبل أسبوع، تشكل العامل الثاني الذي يعرقل جميع ملفات التقارب بين إيران والمحيط الإقليمي، فالجانب الإيراني الذي لا يخفي رغبته في الدفع باتجاه تطبيع علاقاته مع المحيط العربي والإقليمي بعيداً من التأثير الأميركي يدرك جيداً أن أية خطوة جدية ومستدامة على هذا المسار لا بد من أن تمر عبر تطبيع علاقاته مع المجتمع الدولي بعامة والولايات المتحدة بخاصة، وأن البوابة إلى ذلك تمر عبر إنهاء أزمة الملف النووي جزئياً أو كلياً، وهذا ما يحمل على الاعتقاد أن التشدد الحوثي وعودة نصرالله لمستوى مدروس من التصعيد في المواقف لا يشكلان مصدر تهديد للاتفاق مع السعودية بما هو حاجة إيرانية، بل محاولة لتوجيه رسائل إلى الجانب الأميركي في الملفات الأخرى التي تشكل مناطق اشتباك معه، إن كان في العراق وعودة التشدد الأميركي ضد الدور الإيراني على هذه الساحة، أو ما يتعلق بالساحة السورية والقواعد الأميركية على الشريط الحدودي المشترك بين سوريا والعراق وما تشكله من تهديد للمصالح الاستراتيجية الإيرانية في الإقليم، وطرق الربط بين طهران وسواحل البحر الأبيض المتوسط.
اندبندت عربي