إن الاختفاء الغامض لوزير الخارجية الصيني والمتحدث اللبق يبدو وكأنه نص سيناريو من أفلام “نتفليكس”. الوزير تشين غانغ اختفى في شهر يونيو (حزيران) ثم أزيح من منصبه رسمياً في وقت لاحق ليستبدل بشخص أكبر سنا وأشد قسوة هو وانغ يي المخضرم المعروف بتصريحاته الإعلامية اللاذعة، وهذا هو كل ما تقوله بكين. المتحدثون باسم الخارجية الصينية تمتموا بما يشير إلى أسباب صحية، وهو ما قد يتراوح في الأنظمة الشمولية من الإصابة بطفح جلدي حتى تلقي رصاصة في مؤخرة الرأس، ونحن لا نعرف أكثر من ذلك.
في غياب الوقائع والمعطيات هناك إشاعات وتأويلات، ولو كانت هذه نسخة صينية من مسلسل “التاج” The Crown لكانت وقائع الأحداث صورت في بلاط الرئيس شي جينبينغ الذي يعتبر بمثابة أكثر من ملك لكونه رئيساً للدولة وزعيماً للحزب الحاكم والقائد الأعلى للقوات المسلحة.
كان تشين غانغ، بحسب ما بدا، رجلاً بصحة جيدة بعمر الـ 57 عندما شوهد آخر مرة. وكان تدرج في هرم وزارة الخارجية ولكنه لم يكن يوماً دبلوماسياً بحسب تعريف معاهدة فيينا للمنصب، فلقد تخرج من حاضنة خاصة بوزارة أمن الدولة الصينية وهي “جامعة العلاقات الدولية” التي لا تضيع وقتاً على تلقين تلامذتها العلوم الأكاديمية المتعلقة بالأحداث الدولية.
وبحسب خبير متقاعد بشؤون الصين في جهاز الاستخبارات البريطانية “أم أي 6” MI6، فالصين عبارة عن جهاز أمني ألحقت به دولة وليس العكس، إذ إن تشين الشاب كان ألحق للعمل في مكتب بكين لوكالة الصحافة الدولية United Press International، وهي وكالة أنباء أميركية، كمترجم، وزوجته لين يان أرسلت للعمل لمصلحة وسائل الإعلام الغربية، إذ أسرت جاذبيتها العقول والقلوب.
وبما أن الحكاية ستركز على الخيانة والغدر فإنها ستحتاج إلى توليفة ذكية حول تلك الشخصيات، فكل المراسلين الأجانب العاملين في الصين يعلمون أن الموظفين المحليين لديهم يعملون في الوقت نفسه على رفع التقارير عنهم، لكن بإمكان الشخص أن يعرف من هو الجاسوس ومن هو مجرد متدرب أخرق، فكلما كان هؤلاء أكثر ذكاء ومحبوبين أكثر ومتعاطفين ومنفتحين، كلما زاد ذلك من التأكيد على أنهم موظفون لدى وزارة أمن الدولة الصينية.
لاحقاً نرى الزوجان الأقوياء، فقد نحج تشين ولين في كسب الحظوة بعد إمضائهما فترة عملا خلالها في لندن حيث أثار تشين إعجاب القائد الأعلى الصيني الجديد، وإذا قمنا بقفزة في الزمن إلى عام 2021 فسنشهد أن تشين أرسل إلى الولايات المتحدة الأميركية كسفير متخطياً غيره من مسؤولين آخرين منافسين له، ولا شك في أن الوضع في وزارة الخارجية في بكين كان أشبه بجحر من الأفاعي الساخطة لكن لم يتجرأ أحد على مواجهة الزعيم شي بالطبع.
لاحقاً في واشنطن رأينا درب تشين يتقاطع مع صعود السيدة فو شياوتيان النيزكي والتي ظهرت لاحقاً إشاعات تفيد أن تشين ارتبط بعلاقة غرامية معها، فلقد كانت هي المراسلة التي تقوم بالمقابلات لقناة تلفزيون “فينيكس” Phoenix، وهي محطة تبث بلغة الماندارين الصينية ولديها مكاتب في هونغ كونغ، فالسيدة فو (40 سنة) أثارت إعجاب متابعيها من هنري كيسنجر إلى بشار الأسد، وبلغ عدد متابعي برنامجها بحسب تقديرات أكثر من 200 مليون مشاهد.
ومن حسن الحظ أن نص المقابلة الغريبة التي كانت أجرتها مع السفير تشين لا تزال منشورة على الإنترنت، وخلال المقابلة بدا المبعوث الصيني شخصاً عطوفاً ورصيناً ومضطرباً إلى درجة أنه تشارك معها حكمته وكال عليها الإطراء بعد ملاحظتها الفارق بين “الموضوعي” و”المحايد” عندما تعلق الأمر بالحديث عن أوكرانيا، وأسرّ إليها بأنه كان يتجول على ضفاف البحيرة ويتساءل لماذا تنغمس أميركا مرات كثيرة في الحروب، وبدا أنهما منسجمان.
وبالعودة لمقر وزارة الأمن الصينية (وهي ليست غريبة عن قناة تلفزيون فينيكس)، كان المسؤولون هناك يفركون أيديهم استعدادا لتنفيذ عملية ناعمة من الدرجة الأولى، وكان ذلك نوعاً من الأداء الذي عبّد الطريق لصعود تشين المفاجئ ليتولى منصب وزير الخارجية العام الماضي.
لكن المراسلة فو حال فريدة بحد ذاتها، ففي مايو (أيار) من عام 2019 اُلتقطت صورة لها في كلية تشرشل بجامعة كامبريدج مع رئيسة الجامعة السيدة أثينا دونالد والقنصل العام الصيني خلال افتتاح حديقة باسم السيدة فو، اعترافاً لها بكرمها تجاه الخريجين من دفعتها (حيث درست سنة ماجيستر في التعليم).
وكان آخر ظهور لها عبر تغريدة على تويتر في الـ 11 من أبريل (نيسان) هذا العام نشرتها من على متن طائرة خاصة في لوس أنجليس، إذ كانت تغمر طفلها الصغير وكتبت أنه بسعادة وأسف في الوقت نفسه، وكانت تلك آخر مقابلة كبيرة تجريها في واشنطن، وبعد ذلك اختفت هي الأخرى.
الوقائع المعروفة تنتهي هنا لكن ليس الحبكات، وعلينا حالياً أن ننتظر ونرى ما هو مصير تشين؟ ومتى سيعاود الظهور؟ والأمر نفسه ينطبق على السيدة فو.
الحقيقة هي أن السيد تشين هو الأخير في لائحة تنتفخ بأسماء أشخاص اختفوا في عهد حكم الرئيس الصيني شي، إذ إن الزعيم الصيني يعتقد أن الحزب الشيوعي يمنح جرعة جديدة من القوة بين فترة وأخرى من خلال جولات عقابية، أما الآخرون فقد تُركوا فريسة لخوف يبدو أنه أكبر عندما يتعلق الأمر بضحايا رفيعي المستوى من أمثال تشين.
وربما كان الأمر يتعلق بحادثة سوء فهم وأنه سيعاود الظهور في أوساط جهاز الحزب الشيوعي الصيني، لكن ومع مضي الوقت يبدو مثل هذا التطور في نهاية هذا المسلسل أقل احتمالاً.
اندبندت عربي