حصار أهوار العراق… استخراج النفط يهجر البشر ويدمر الموائل الطبيعية

حصار أهوار العراق… استخراج النفط يهجر البشر ويدمر الموائل الطبيعية

يدفع عراقيون ثمن جفاف وتجفيف مسطحات الأهوار المائية المدرجة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي، والتي تراجعت مساحتها بشدة وفقدت أنواعا نادرة من الطيور والحيوانات وهجر أهلها بسبب تسميم بيئتهم على يد شركات النفط.- هجر المزارع العراقي خضر عباس أرضه في قضاء الجبايش بمحافظة ذي قار، والذي يطل على هور “الحمّار” قرب نهر الفرات جنوب العراق، بعد تجفيف البقعة الجغرافية مورد رزقه الوحيد الذي لا يجيد غيره هو و50 عائلة من مربي الماشية، توجه بعضهم إلى مناطق أخرى لم تصل إليها يد شركات النفط كما يقول، بينما هاجر آخرون إلى المدن بحثا عن لقمة عيشهم.

وأدى انحسار مياه الأهوار إلى نفوق 6550 رأسا من الجاموس منذ بداية عام 2021 وحتى 12 مايو/أيار 2022، بحسب إحصاء الدكتور فاقد عبد الأمير فهد، مدير زراعة محافظة ذي قار والذي قال لـ”العربي الجديد”، غادرت 276 عائلة من قضاء الجبايش إلى خارج المحافظة، بينما نزح 1185 عائلة من أعماق الأهوار إلى مركز القضاء كما تأثرت 6860 عائلة اقتصاديا بسبب الجفاف الذي ضرب المنطقة.

ووصلت نسبة الجفاف في مناطق الأهوار إلى 40% من المساحة الكلية والبالغة 8350 كيلومترا مربعا، نتيجة تراجع الواردات المائية والتغيرات المناخية، فيما بلغت نسبة عمليات التجفيف بسبب محاولات استكشاف النفط والتنقيب عنه 20%، كما يؤكد لـ”العربي الجديد”، صباح البيضاني، مستشار لجنة الزراعة والمياه والأهوار في البرلمان.

واستقبلت اللجنة 500 شكوى خلال 15 عاما، إضافة إلى ألف شكوى قدمت للحكومات المحلية والقضاء بشكل مباشر جراء استملاك أراضي مزارعي الأهوار من قبل اللجان النفطية الاستكشافية دون تعويض رغم استئجارهم لها من الدولة لهم بموجب قانون إيجار الأراضي الزراعية لسنة 2017، وهو ما يخالف المادة السابعة منه التي نصت على حق الوزير في فسخ العقد واسترداد الأرض من المستأجر، لكن بعد إنذاره وتملك البساتين والمغروسات الأخرى والمنشآت المقامة في الأرض المستأجرة على أن يعوض المستأجر عنها… وللمستأجر حق الاعتراض على قرار الوزير أمام المحاكم المختصة، كما يوضح البيضاني.كيف تراجعت مساحة الأهوار؟
“تضم الأهوار الواقعة جنوب العراق ثلاثة مواقع أثريّة وأربع مناطق رطبة ومستنقعات”، بحسب الموقع الرسمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، والتي أدرجت الأهوار على قائمة التراث العالمي في عام 2016.

و”تقع مناطق الأهوار في نطاق ثلاث محافظات، هي ذي قار، والبصرة، وميسان، وتنقسم إلى هور “الحمّار”، وهور الحويزة، والأهوار الوسطى بمساحة كلية تبلغ 8350 كيلومترا مربعا، استبعدت منها 2370 كيلومترا مربعا حتى عام 2011 بسبب استغلالها للأغراض النفطية، كالاستكشافات ووجود حقول نفطية، والاستخدامات الزراعية والتوسع السكاني”، حسب دراسة قياس دور مركز إنعاش الأهوار (تابع لوزارة الموارد المائية) في إدارة وتنسيق ومراقبة تنفيذ برامج إعادة إنعاش الأهوار، الصادرة في عام 2011، بينما تشير دراسة “قياس مساحات الأهوار في جنوب العراق باستخدام تقنيات الاستشعار عن بعد وسبل التخطيط الاستراتيجي لتنميتها سياحيا وبيئيا”، الصادرة عن مركز الرافدين للحوار (مستقل)، في عام 2019، إلى أن “مساحة الأهوار الوسطى، الحمّار، الحويزة، والسناف” تراجعت من 19788 كيلومترا مربعا في عام 1973 إلى 6862 كيلومترا مربعا في عام 2016″.

تقلص مساحات أهوار العراق لسنوات مختلفة (بحث مساحات الأهوار في جنوب العراق)
وكشف البحث عن تغيرات في مساحة الأهوار جرى الاستدلال عليها عبر المرئيات الفضائية للقمر “لاندسات”، بحسب ما ذكره الباحث حسين عليوي الزيادي، وتعزو الدراسة سبب انخفاض مساحات الأهوار إلى انخفاض الواردات المائية لنهري دجلة والفرات، فضلا عن تراجع مياه الأنهر الحدودية التي تنبع من إيران.

واستهدفت عمليات التنقيب النفطية 40% من المساحة الكلية للأهوار، بحسب إفادة الدكتور فاروق الزيدي، أستاذ الجغرافية الطبيعية في جامعة الكرخ للعلوم (حكومية)، مشيرا إلى أن عمليات الاستكشاف التي تجري على مقربة من الأهوار، وفي حال تبعها استخراج وحفر الآبار تسفر عن تلوث هذه المناطق قطعاً بمخلفات سامة، ولا يمكن أن تكون تلك المنطقة صالحة للعيش أو الزراعة بعد ذلك.

و”تقدر الملوثات الصلبة التي تطرحها عمليات التكرير بما يتراوح بين 3 و5 كيلوغرامات لكل طن من النفط الخام، وتصل نسبة السمية في المخلفات إلى 80%”، وفق بحث شمل الفترة بين أعوام 2003 و2015 صادر عن جامعة البصرة الحكومية، بعنوان “الآثار البيئية للصناعة النفطية في العراق”، في عام 2018 للباحثتين ندوة هلال جودة وهدير نبيل جعفر.

ما بين 3 و5 كيلوغرامات من الملوثات الصلبة تنتج عن استخراج طن من النفط

ما سبق يؤكده كذلك تقرير زيارة فريق رامسار (معاهدة حكومية دولية توفر إطار العمل الوطني والتعاون الدولي من أجل حفظ الأراضي الرطبة ومواردها واستخدامها الرشيد) لمراجعة حالة الطابع البيئي لموقع هور الحويزة خلال 14و16 فبراير/شباط 2014، إذ يؤكد الفريق أن “إنتاج النفط خارج وداخل هور الحويزة من التهديدات التي تفاقمت بسبب عدم كفاية الاتصالات والتعاون بين مختلف الوزارات المعنية. كما يواجه هور الحويزة تهديد تناقص هطول الأمطار وانخفاض مدخلات المياه، والذي يعود إلى إنشاء هياكل التحكم في المياه في المنبع المغذي له”.”عمليات التنقيب عن النفط وفتح الطرق ضمن مناطق الأهوار وأي نشاط بشري آخر يجب دراسته علمياً بكيفية الدخول إلى هذه البيئة من دون التأثير على الكائنات التي تعيش في الأهوار، حيوانية كانت أم بشرية”، كما يقول الزيدي، مضيفا أن الأهوار من البيئات الطبيعية ولها نظام مبني على عناصر طبيعية لا يمكن اختراقها أو التدخل فيها خوفاً من حصول تغيرات فجائية في هذا النظام.

وتتمثل مخالفات الشركات النفطية في الانبعاثات الغازية وأبرزها تزايد الهيدروكربونات النفطية والغازية في الجو، خاصة المركبات الأروماتية (تتكون من ست ذرات مترابطة من الكربون) والنفثالين (هيدروكربون عطري صلب أبيض متبلور ويستخدم للكشف عن المركبات الكيمائية) والبنزين، والتي تعد مؤشراً ساماً يؤثر على البيئة، حسب تأكيد الأكاديمي في جامعة البصرة الحكومية والخبير البيئي الدكتور شكري الحسن لـ”العربي الجديد”، ويقول إن وزارة البيئة هي المعنية بمتابعة مخالفات كهذه، ولا بد أن تكون لديها عمليات رصد، لكنها ليست على وفاق مع وزارة النفط والشركات النفطية، إذ لا تستطيع وزارة البيئة فعل أي شيء أمام هذه التجاوزات.

وعن الأسباب التي تحول دون عمل الوزارات المعنية في غرفة عمليات مشتركة للخروج برؤية موحدة لتقييم الأثر البيئي قبل القيام بالتنقيب على النفط، يشير الحسن إلى أن تعارض المصالح يؤدي إلى عدم تكوين رؤى مشتركة أو وضع استراتيجية لحماية البيئة من الاستخراج النفطي، ويقول: “نشاهد دائما وزارة النفط تحاول التنصل والبيئة توجه الاتهامات، وهذا السجال والخلافات لن تؤدي إلى توحيد القرار في هذا المجال”.

“لا نستطيع وضع العراق ضمن المعايير العالمية، لوجود اختلافات بيئية وجغرافية بين دول العالم، ويجب أن تكون المعايير والنسب متوافقة مع الإنسان والمجتمعات المحلية المحيطة بالمواقع”، كما يقول المختص والمدافع عن الحقوق البيئية سلمان خيرالله سلمان المنصوري، مؤسس مشارك لجمعية حماة دجلة (منظمة غير حكومية تعمل على تقليل التلوث في النهر)، مضيفا لـ”العربي الجديد” أن وزارة النفط تعطي الموافقة للشركات النفطية للعمل بجانب الأهوار والتصريح بعدم وجود أي أثر بيئي في عمل هذه الشركات، وهذا يعد افتراء على الحقائق الموجودة هناك”، ويتابع: “الشركة الصينية بترو تشاينا (تتبع شركة النفط الوطنية الصينية)، تعمل وتؤثر على بيئة الأهوار منذ عقد من الزمن، إذ تستخرج النفط من حقل الحلفاية النفطي (يقع ناحية المشرح قرب مدينة العمارة بمحافظة ميسان)”.

لكن الالتزام بـ “المعايير الدولية التي تراعي حماية البيئة غير مفعلة بشكل حاسم في دول العالم الثالث، بسبب الأوضاع السياسية وضعف دخلها القومي”، كما يقول الدكتور إياد عبد المحسن، الأستاذ في قسم الأحياء المجهرية بالجامعة المستنصرية الحكومية، مضيفا لـ”العربي الجديد” أن المعايير الدولية تراعي الحفاظ على البيئية باعتبارها جزءا لا يتجزأ من برنامج التقييم والإدارة الشامل، والذي أعد خصيصا لمعالجة المخاطر التي تواجه المشروعات المحددة والتأثيرات المحتملة الناتجة عنها، وتتضمن القضايا البيئية المحتملة المرتبطة بالمشاريع البرية لاستخراج النفط والغاز المسال، الانبعاثات الهوائية وتصريف المياه المستعملة وكيفية التعامل مع النفايات الصلبة والسائلة، والآثار الأرضية وأثر وجود المشروع، وتوليد الضوضاء.

تدمير الموائل الطبيعية
“يتطلب استخراج النفط حقن الآبار بالماء في أدنى نقطة لمكمن البئر من أجل رفع الضغط داخل البئر وبالتالي استمرار تدفق النفط، ويقابل كل برميل نفط مستخرج كمية من الماء تزيد وتنخفض حسب قوة المكمن، وتخرج هذه الكمية من البئر مصاحبة للنفط الخام المستخرج، والتي تتحول بعد انتهاء عملية الاستخراج إلى ماء ملوث يتم تجميعه في مسطحات أو أحواض للتبخير تكون بالقرب من الموقع، الأمر الذي يعود سلبا على البيئة وصحة الكائنات الحية”، وفق بحث منشور في مجلة البحوث والدراسات النفطية في يونيو 2020، بعنوان “دور الرقابة البيئية في استدامة الموارد الطبيعية للحد من التلوث: دراسة حالة معالجة الماء المصاحب لاستخراج النفط الخام”، مستدلا بواقع شركة نفط الوسط (حكومية) والتي “تعد أحد مصادر تلوث البيئة المهمة في ظل عدم امتلاك هذه الشركة ونظيراتها معالجات حقيقية وشاملة لما تسفر عنه عملية الاستخراج”.

وتم إنشاء محطات عزل داخل الأهوار (وحدات تعالج النفط الخام لحظة خروجه من رأس البئر)، خاصة في المناطق التي تم تجفيفها لأهداف سياسية قبل احتلال العراق في عام 2003 ومناطق أخرى تم تجفيفها لغرض استخراج النفط، ومنها حقل غرب القرنة 2 وحقل حمّار مشرف النفطي ضمن مناطق الأهوار في البصرة، كما يقول الخبير البيئي الدكتور الحسن، والذي يتوقع استغلال العديد من الأراضي التي تحتوي على كميات جيدة من النفط مستقبلا، ما يحول العديد من مناطق الأهوار إلى حقول نفطية، قائلا: “تسرب النفط من الحقول يلوث التربة والمياه والجهات المعنية تخفي ذلك تجنباً للمساءلة”.

و”تعد بيئة الأهوار موطنا للعديد من الكائنات الحية، إذ تضم 159 نوعا من الطيور المائية المقيمة والمهاجرة، لكن جفاف مياه الأهوار وتيبس الغطاء النباتي أديا إلى اختفاء 38 نوعا من الطيور، منها 13 نوعا كانت مستوطنة حتى عام 2015″، بحسب ما جاء في دراسة “أهوار العراق: ثلاث دراسات في البيئة والحيوان والسياحة” الصادرة في عام 2019 عن مركز الرافدين للحوار (مستقل)، والتي توصلت إلى أن “نسبة تيبس وموت الغطاء النباتي بلغت 75% شملت 14 نوعا توجد في الأهوار بشكل أساسي”.

و”مثلت حالة التدمير والتحطيم الكلي لموائل (بيئات طبيعية) الأهوار بسبب التجفيف، عامل ضغط رئيسياً عليها في الماضي، كما أنها مستمرة مستقبلا”، وفق دراسة “إدارة التنوع الإحيائي والنظم البيئية في الأهوار العراقية”، والتي صدرت في عام 2010 عن الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة – المكتب الإقليمي لغرب آسيا، والتي حذرت من أن “عمليات استكشاف/استخراج النفط، من التهديدات المباشرة على سلامة النظام البيئي في الأهوار”.

ويحذر الزيدي من انكشاف التربة في الأهوار بسبب الجفاف وشح المياه وتراجع حجم الأجسام المائية المتبقية في المجرى أو التربة، قائلا :”بقاء هذا الحال لسنوات سيغير خريطة بيئة الأهوار نفسها”، مضيفا أن انكشاف التربة أو انجرافها يقع نتيجة سوء الإدارة أو الآثار البشرية على الأرض، والتي تؤدي إلى فقدان جزيئات التربة، من تربة وصخور ورواسب، وتمثل الطبقة العليا للمادة الخصبة، ما ينتهي بتدهورها وانخفاض جودتها بسبب التعرية، وقد تصبح هذه المشكلة خطيرة لدرجة أنّه لم يعد بالإمكان زراعة الأرض، ويجب التخلي عنها.

رد رسمي
يعترف مصدر حكومي (رفض ذكر اسمه لكونه غير مخول بالحديث مع الإعلام) بوجود نشاطات نفطية في أماكن محددة بالقرب من أهوار محافظة ميسان، قائلا لـ”العربي الجديد”: “النشاطات النفطية تشكل خطرا على بيئة الأهوار، في ظل تخاذل وإهمال يهدد المناطق المدرجة على لائحة التراث العالمي”.

و”يجب أن يتم تقييم عمليات التنقيب من قبل وزارة البيئة، كونها المعنية بتدقيق وفحص كافة النشاطات الصناعية ومن ضمنها النشاطات النفطية”، كما يقول المهندس حسين الكناني، مدير عام مركز إنعاش الأهوار التابع لوزارة الموارد المائية العراقية، مضيفا لـ”العربي الجديد”: “يفترض أن يكون لدى وزارة البيئة فرق ومجاميع للفحص والتدقيق المفاجئ للنشاطات الصناعية والنفطية في جميع المناطق ومنها الأهوار”، ويردف: “في حال القيام بعمليات تنقيب، فإن وزارة النفط تطلب الرأي والموافقة وبدورنا نقوم بعمليات الكشف، لكن حتى هذه اللحظة لم نتلق أي طلب متعلق بإجراء عمليات تنقيب داخل الأهوار، ومن سلطتنا أن نرفض أي نشاط لا يخضع لمعايير اليونسكو بالتنسيق مع القضاء العراقي”.

لكن المتحدث باسم وزارة النفط، عاصم جهاد، يرد قائلا: “سبق لوزارة النفط التحدث مع وزارة البيئة حول التقاطعات النفطية الواقعة ضمن مناطق الأهوار المدرجة ضمن التراث العالمي، وتم إعلامهم بمواقعها”، وتابع: “الشركات الاستخراجية في محافظات البصرة وميسان وذي قار والشركات الأجنبية المتعاقدة معها هي المسؤولة عن استخراج النفط، وما ينتج عنه في هذه المواقع ويتم اتخاذ الإجراءات اللازمة للابتعاد عن مناطق الأهوار”، مضيفا لـ”العربي الجديد”: “تقييمنا يشير إلى أن التأثير على أجزاء الأهوار المسجلة في قائمة التراث العالمي يعد قليلاً، بسبب بعد أغلب الحقول النفطية عن مناطقها”.

وحول انعدام تقييم الأثر البيئي يقول جهاد: “وزارة البيئة هي الجهة المسؤولة عن منح الموافقة البيئية للمشاريع بصورة عامة”، مضيفا: “في حال إجراء عمليات نفطية داخل مناطق الأهوار، فإن وزارة البيئة تلزم وزارة النفط باتخاذ إجراءات احترازية إضافية للحد من التأثيرات البيئية على مناطق الأهوار”.

العربي الجديد