الأوضاع الاقتصادية والأمنية في لبنان

الأوضاع الاقتصادية والأمنية في لبنان

تنبع مشاكل لبنان الحالية من الفساد الاقتصادي والسياسي المستمر، ولا يزال “حزب الله” هو المسؤول الفعلي عن هذا الوضع الراهن الذي يشبه المافيا.

«في 20 تموز/يوليو، عقد “مجلس سياسة الشرق الأوسط” (MEPC) مؤتمره الـ113 في “الكابيتول هيل” (الكونغرس الأمريكي) مع لجنة ضمت ماثيو ليفيت وهو “زميل فرومر ويكسلر” ومدير “برنامج راينهارد للاستخبارات ومكافحة الإرهاب” في معهد واشنطن. وفيما يلي نسخة منقحة من ملاحظاته. لقراءة ملاحظات أعضاء اللجنة الآخرين أو جلسة الأسئلة والأجوبة اللاحقة، يرجى زيارة الموقع الإلكتروني لـ “مجلس سياسة الشرق الأوسط”».

علينا أن نكون واضحين جداً: إن الأزمات الاقتصادية والأمنية في لبنان متشابكة بشكل وثيق. على سبيل المثال، لنأخذ تخلف الحكومة اللبنانية عن سداد ديونها السيادية في آذار/مارس 2020، وبعد ذلك بفترة قصيرة حدوث مأساة انفجار بيروت في آب/أغسطس. لقد نتج الحدثان من ظاهرة فاسدة ومدمِرة رئيسية واحدة، وهي استمرار زعماء المافيا السياسية عبر الطيف السياسي والطائفي اللبناني إعطاء الأولوية لسلطتهم الخاصة وأنظمة محسوبيتهم على حساب احتياجات الشعب اللبناني.

وعلى الرغم من كل ما حدث، يواصل هؤلاء القادة السياسيون أنفسهم عرقلة الإصلاحات السياسية، وحتى الأساسية منها، الضرورية لكسر الجمود السياسي في البلاد وتسهيل الدعم المالي الدولي. وفي إشارة إلى هذه الحالة المؤسفة، وصف “البنك الدولي” الأزمة المالية اللبنانية بأنها “كساد متعمد من تدبير قيادات النخبة في البلاد على حساب استقرار لبنان والسلام الاجتماعي على المدى الطويل”.

وليس من المفاجئ أنه عندما تم استطلاع رأي اللبنانيين، أعربت نسبة ساحقة منهم عن استيائها من تجاهل حكومتهم لاحتياجات المواطنين العاديين. على سبيل المثال، كشفت نتائج استطلاع أُجري في تشرين الثاني/نوفمبر 2022 بتكليف من معهد واشنطن، أن 91 في المائة من المستطلعين أفادوا أن الحكومة اللبنانية لم تفعل سوى القليل للاهتمام بآراء المواطنين العاديين. وبصورة عامة، أجمع الشباب وأولئك الأكبر سناً من السنّة والشيعة والمسيحيين والدروز على هذه النظرة المتشائمة. وقال سبعة وتسعون في المائة من المستطلعين إن الحكومة اللبنانية لا تبذل جهوداً تُذكر لمعالجة ثلاثة مخاوف اقتصادية رئيسية، وهي أولاً الحد من مستوى الفساد في الحياة الاقتصادية والقطاع العام، وثانياً، تلبية احتياجات الشعب من أجل تأمين ظروف حياة كريمة، وثالثاً، تخفيف عبء الضرائب والالتزامات الأخرى بصورة عادلة.

ولسوء الحظ، لا يقوم نهج الزعماء السياسيين اللبنانيين على الإصلاح السياسي أو الاقتصادي لمعالجة هذه المخاوف، بل على تعزيز سلطتهم وأنظمة المحسوبية الخاصة بهم. ولا بد من التأكيد على أن الفساد يستشري في قلب الأزمات الاقتصادية والسياسية في لبنان. وهذا الفساد الاقتصادي والسياسي متجذر بعمق ويحميه زعماء نافذون من مختلف الانتماءات السياسية، ومن طرفَي الشرخ السياسي والطائفي في لبنان، وكل هذا يهدد أمن لبنان واستقراره على المدى القريب والمتوسط ​​والبعيد. ولا يقتصر الفساد بأي حال من الأحوال على طرف واحد في لبنان، ولكن التهديد الأمني الأكبر الذي يتعرض له لبنان على الصعيد المحلي وتتعرض له أيضاً دول الجوار يأتي من “حزب الله” أكثر من أي حزب لبناني آخر، ويُعزى السبب جزئياً إلى أن “حزب الله” هو بحكم الأمر الواقع الجهة المسلحة المنفذة للنظام السياسي الفاسد الذي يستفيد منه هو والأحزاب السياسية الطائفية الأخرى.

لننظر في بعض الأمثلة على الطرق الفريدة التي يقوّض بها “حزب الله” الأمن والاستقرار في لبنان ويهدد بحرب إقليمية. يضم “حزب الله” «الوحدة 121» المتخصصة بالاغتيالات وتنطوي مهمتها الوحيدة على اغتيال الأشخاص الذين لا يروقون لها في لبنان، على غرار [رئيس الوزراء السابق] رفيق الحريري، و[ضابط الاستخبارات] وسام عيد، و[الناشط] لقمان سليم، والكثير من الأسماء الأخرى التي ليس لدينا الوقت الكافي للتحدث عنها.

وينفذ “حزب الله”، بمساعدة “الحرس الثوري الإسلامي” الإيراني، برنامجاً فعّالاً لتزويد الصواريخ القديمة بأنظمة توجيه وبناء صواريخ جديدة موجهة بدقة. فقد ظهر [الأمين العام] للحزب حسن نصرالله بنفسه على شاشة التلفزيون، وهو يعرض خريطة لإسرائيل ويحذر من أن صواريخ “حزب الله” يمكن أن تضرب أي جزء من إسرائيل. وتقع المنشآت التي يتم فيها تعديل هذه الصواريخ في الأحياء السكنية، بالقرب من المدارس والمستشفيات والمساجد، وتستخدم المدنيين اللبنانيين بشكل فعال كدروع بشرية.

وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، أعلن “حزب الله” في خطوة أحادية الجانب أجزاء من لبنان كمناطق عسكرية مستقلة خاصة به ومنع قوات “اليونيفيل” [“قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان”] من الوصول إليها، وشملت مناطق قريبة من “الخط الأزرق” الذي يشكل حدود الأمر الواقع. ويضايق “حزب الله” بانتظام قوات “اليونيفيل”، وفي كانون الأول/ديسمبر، قتل أحد عناصر الحزب الجندي الأيرلندي في “اليونيفيل” شون روني.

وتقوّض الأنشطة المالية غير المشروعة لـ”حزب الله” بشدة النظام المالي في لبنان، الذي لطالما شكّل العمود الفقري الرئيسي للاقتصاد. لنلقِ، على سبيل المثال، نظرة على إجراءات وزارة الخزانة الأمريكية ضد كيانات مثل “جمال ترست بنك”. عندما اتخذت وزارة الخزانة هذا الإجراء في عام 2019، أشارت إلى أن نشطاء “حزب الله” كانوا يهددون المصرفيين اللبنانيين، وعائلاتهم أيضاً، إذا جمّدوا حسابات عناصر الحزب.

وحفر “حزب الله” أنفاقاً هجومية من لبنان إلى إسرائيل مرّت تحت “الخط الأزرق” لغرض صريح هو تنفيذ الهجمات. وتم اكتشاف هذه الأنفاق وإغلاقها في عام 2018، لكن لم يكن للحكومة اللبنانية ولا الشعب اللبناني أي رأي في هذا القرار، على الرغم من أنهما سيتحملان تكاليف أي نزاع لاحق مع إسرائيل. لقد استخدم “حزب الله” منظمته البيئية غير الحكومية، التي يُطلِق عليها تسمية “أخضر بلا حدود”، كمنصة لجمع المعلومات الاستخبارية عن الأنشطة الإسرائيلية عبر الحدود، ولكن بصورة رئيسية لإطلاق صواريخ مضادة للدبابات على سيارة إسعاف عسكرية إسرائيلية عبر الحدود داخل الأراضي الإسرائيلية في عام 2019.

وفي الآونة الأخيرة، أطلق “حزب الله” طائرة بدون طيار على منصة غاز بحرية إسرائيلية، وأرسل أحد عناصره متسللاً إلى داخل الأراضي الإسرائيلية لتنفيذ هجوم إرهابي، وأعطت حركة “حماس” موافقتها الضمنية على إطلاق صواريخ على إسرائيل من المناطق التي تسيطر عليها في لبنان. وضايق “حزب الله” الإسرائيليين الذين يعيشون مباشرةً على الجانب الآخر من الحدود في شمال إسرائيل من خلال توجيه الليزر على السائقين أثناء قيادتهم (سياراتهم) وعلى المنازل الخاصة، ودمر السياج الأمني ​​على طول “الخط الأزرق”، وأقام مؤخراً خيماً في الأجزاء التي تسيطر عليها إسرائيل من “مزارع شبعا”، على طول “الخط الأزرق”، في محاولة لزيادة التوترات الحدودية.

وتعطي جهود “حزب الله” الرامية إلى عرقلة أي تحقيق في انفجار بيروت في آب/أغسطس 2020 صورة واضحة عن مخاوف الحزب بشأن ما قد يؤول إليه التحقيق غير المعرقَل، ناهيك عن تجاهله المطلق لسياسة النأي بالنفس اللبنانية عن القتال في سوريا، الأمر الذي تسبب بتمدد الحرب الأهلية السورية إلى لبنان عدة مرات. ولكن بصرف النظر عن التهديدات الأمنية التي يتعرض لها لبنان من جراء أنشطة “حزب الله”، يمثل الحزب أيضاً تهديداً داخلياً للحكم الفعال في لبنان، من خلال إنشائه اقتصاد الظل الذي يستفيد منه مواطنو الظل المؤيدون له، ويأتي نجاحه على حساب الاقتصاد الرسمي والحكومة اللبنانية.

وسلّط نصرالله الضوء على النموذج الناجح للحزب في إدارة الرعاية الاجتماعية في لبنان، وأعلن نجاحه في بناء قاعدة دعم خاصة به والحفاظ عليها في وجه التحديات الكبيرة. ومن خلال توفير هذه الخدمات بالتوازي مع تلك التي تقدمها الحكومة اللبنانية أو لا تقدمها، وفي الكثير من الحالات بدلاً منها، أنشأ “حزب الله” اقتصاد الظل، وهو اقتصاد رمادي يعود بالفائدة على مؤيدي الحزب ويبني له دعماً شعبياً ويمنحه سلطة كبيرة تستمد جذورها من قاعدة دعمه.

وعلى الرغم من أن “حزب الله” ليس الحكومة الرسمية، إلّا أنه بنى علاقات سياسية واقتصادية قوية مع الجهات التي تستفيد من سخائه، في إطار ما يشبه هيكلية حكم موازية. ولا يعزز ذلك مكانة “حزب الله” في لبنان فحسب، بل يقوّض أيضاً مكانة الحكومة اللبنانية وشرعيتها ويقوض جهود الولايات المتحدة وغيرها لمساعدة هذه الحكومة. وهكذا، جعل “حزب الله” نفسه فعلياً جزءاً من نظام الحكم في المناطق الخاضعة لسيطرته، حتى مع بقائه مستقلاً عن الحكومة بحد ذاتها. ولاحقاً، عندما قرر “حزب الله” الدخول في معترك السياسة وتولي بعض أعضائه مناصب في الحكومة الوطنية، استمر في العمل كتنظيم مستقل، يعمل بالتوازي مع الحكومة التي كان جزءاً منها أيضاً، ولكن من دون خضوعه للمساءلة التي تخضع لها المؤسسة الحكومية.

لذلك، يستفيد “حزب الله” اليوم من كونه جزءاً من النظام السياسي ومستقلاً عنه في الوقت نفسه. وبخلاف الكثير من الجهات الفاعلة العنيفة غير الحكومية، والتي ليس لديها سوى وصول محدود إلى الاقتصاد الرسمي وتعتمد بشكل كبير على اقتصادات الظل، فإن “حزب الله” قادر على الاستفادة من الاقتصاد الرسمي المنظم، وإدارة اقتصاد الظل الموازي الخاص به في الوقت نفسه، والذي يستفيد على حساب الاقتصاد الرسمي ويقوّضه. ويقوض اقتصاد الظل التابع لـ”حزب الله” وهيكلية الحكم الموازية الخاصة به، مجتمعَين هما: الاستقرار السياسي والاقتصادي في لبنان والأمن الإقليمي في شرق البحر الأبيض المتوسط.

لذا اسمحوا لي في الختام أن أعود إلى نقطة الانطلاق. يشكل الفساد جوهر المشكلة في لبنان، سواء من الناحية الاقتصادية أو السياسية، مما يمنع تطبيق الإصلاحات الاقتصادية والسياسية الضرورية لإنقاذ البلاد من أن تصبح دولة فاشلة، علماً أنني لا أستخف بهذه الكلمات. ولا يُعد “حزب الله” بأي حال من الأحوال الحزب السياسي الوحيد الذي يطرح إشكالية في هذا الصدد، ولكن نظراً لكونه الفصيل الوحيد الذي تمسّك بسلاحه بعد اتفاق الطائف [المبرم عام 1989 لإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية]، فهو الجهة المنفذة الفعلية لحكم المافيا الفاسدة.

معهد واشنطن