عمان – ضاعفت الحرارة غير الاعتيادية التي تجتاح عدة بلدان عربية هذا الصيف أزمة المياه، حيث تعاني أغلب هذه الدول من ندرة المياه، أي أقل من المعدل العالمي لاستهلاك الفرد من المياه والمقدر بألف متر مكعب سنويا. فمن بين 22 دولة عربية تقع 19 دولة في نطاق شح المياه، وفق الأمم المتحدة، بينما ثلاث دول عربية فقط يزيد نصيب الفرد فيها من المياه عن ألف متر مكعب وهي جزر القمر والعراق وموريتانيا.
لكن أكثر الدول العربية التي تعاني من الندرة المطلقة للمياه والتي تقل فيها حصة الفرد عن 500 متر مكعب تتمثل في السعودية والإمارات والبحرين وقطر وسلطنة عمان واليمن والأردن وفلسطين وجيبوتي وليبيا وتونس. وتأتي بعدها دول الندرة المائية وهي فئة أفضل حالا من الأولى لكن الفرد فيها يحصل على أقل من المعدل العالمي (أكثر من 500 وأقل من ألف متر مكعب)، وتقع ضمن هذا النطاق سوريا ولبنان والصومال والجزائر ومصر والسودان والمغرب.
ومع ارتفاع عدد السكان العرب والتوسع في المساحات الزراعية المسقية وتشييد المصانع التي تستهلك كميات كبيرة من المياه يتراجع نصيب الفرد، ويزداد الأمر سوءا مع التغير المناخي بسبب الاحتباس الحراري الذي ينتج عنه ارتفاع درجة حرارة الأرض واضطراب تساقط الأمطار وارتفاع نسب تبخر المياه السطحية.
وهذا الفقر المائي أجبر الدول العربية على اللجوء إلى خيارات غير تقليدية مثل بناء محطات تحلية مياه البحر، رغم كلفتها الباهظة، بالإضافة إلى محطات معالجة المياه العادمة وتقنيات الري المقتصدة للمياه مثل الري بالتقطير.
كما قامت عدة دول عربية بالتوسع في بناء السدود وحفر الآباء الارتوازية العميقة ونقل مياهها إلى التجمعات السكانية الفقيرة مائيا عبر الأنابيب الضخمة، مثلما هو الحال في ليبيا والجزائر. لكن مع اشتداد أزمة ندرة المياه يحذر خبراء من أن يؤدي ذلك إلى عدم استقرار المنطقة أو الأحواض المائية الجوفية.
يمثل هذا الخيار الحل الذي لجأت إليه الكثير من الدول العربية وعلى رأسها دول الخليج العربي، بسبب قلة التساقطات المائية وعدم وجود أنهار أو بحيرات عذبة يمكنها سد الفقر المائي في هذه المنطقة، مقابل انفتاحها على بحار وخلجان، وتوفرها على قدرات مالية تسمح لها بتمويل استثمارات مكلفة في هذا المجال. وهذا ما يفسر أن نصف إنتاج العالم من المياه المحلاة تحتكره الدول العربية، وتتصدر السعودية القائمة بنسبة 22.2 في المئة من الإنتاج العالمي، تليها الإمارات بأكثر من 14 في المئة، لكن بأي كلفة؟
فدول مجلس التعاون الخليجي الست أنفقت 33 مليار يورو لتشييد 550 محطة لتحلية مياه البحر. كما أن دولا عربية أخرى مثل الجزائر ومصر والأردن شيدت عشرات المحطات لتحلية مياه البحر. وتنتج الجزائر نحو 2.2 مليون متر مكعب يوميا من مياه البحر المحلاة، وشرعت الحكومة في توسيع بناء محطات لتحلية مياه البحر في كامل الشريط الساحلي، لمواجهة العجز المائي الذي يفوق 3 مليارات متر مكعب سنويا، وفق تقديرات خبراء، حيث لا يتجاوز نصيب الفرد 600 متر مكعب من المياه.
أما مصر، التي تسد جزءا هاما من احتياجاتها المائية من نهر النيل، فاضطرت إلى بناء محطات لتحلية مياه البحر من أجل سد عجزها المائي. وتنتج هذه المحطات نحو 0.8 مليون متر مكعب يوميا، وتخطط الحكومة المصرية لتشييد المزيد من محطات تحلية المياه، مع ارتفاع عدد السكان إلى أكثر من 105 ملايين نسمة ومخاطر تقلص حصتها المائية في نهر النيل بسبب أزمة سد النهضة الإثيوبي.
◙ إذا كانت محطات تحلية المياه تشيد على سواحل البحا، فإن السدود تمثل الحل الأمثل للمناطق الداخلية البعيدة عن السواحل
إذا كانت محطات تحلية المياه تشيد على سواحل البحار، ويستفيد منها السكان على عمق نحو 150 كلم، فإن السدود تمثل الحل الأمثل للمناطق الداخلية البعيدة عن السواحل، أو في المناطق الجبلية الوعرة أو الصحراوية النائية، شريطة أن تمر عبرها أنهار أو وديان غزيرة، على غرار السد العالي في مصر الذي شيد على نهر النيل، والذي يعد أحد أكبر السدود في الوطن العربي بطاقة تخزين تصل إلى 8 مليارات متر مكعب.
وفي السودان يعد سد مروي في الولاية الشمالية مفخرة البلاد، وشيد على نهر النيل أيضا، واكتمل إنجازه في 2009. وحسب الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، الذي ساهم في تمويل السد، فإن السعة التخزينية المخططة للسد تقدر بحوالي 12.5 مليار متر مكعب.
ويُعتَقد في السودان أن سد مروي هو أكبر سد في أفريقيا، غير أن صور الأقمار الاصطناعية تظهر أن بحيرة السد أصغر بكثير من بحيرة السد العالي في مصر. فنهر النيل الذي يعتبر أطول نهر في العالم يحتضن أكبر سدين في الوطن العربي، لكن الصراع على تقاسم مياه النيل بين إثيوبيا من جهة ومصر والسودان من جهة ثانية يهدد المنطقة بعدم الاستقرار، إذا لم يتم الاتفاق أو التوافق على صيغة للتعاون والتفاهم بشأن تقاسم مياه النيل خاصة في فترتي الفيضان والجفاف.
وفي بلاد الرافدين يمتلك العراق أحد أكبر السدود في الشرق الأوسط، ويتمثل في سد الموصل المشيد على نهر دجلة، والذي تصل طاقته التخزينية إلى 11 مليار متر مكعب. لكن سد الفرات في سوريا أكبر منه بقليل من حيث قدرة تخزين بحيرته للمياه، والتي تصل إلى 11.6 مليار متر مكعب. وفي منطقة المغرب العربي لا توجد أنهار، وإنما وديان كبيرة شيدت عليها عدة سدود، أقل حجما من تلك المقامة على نهر النيل أو على نهري دجلة والفرات.
ففي المغرب تبلغ القدرة التخزينية لأكبر سد (الوحدة) وسط البلاد 3.8 مليار متر مكعب. أما في الجزائر فيعد سد بني هارون في ولاية ميلة (شرق) أكبر سد في البلاد، وتقدر طاقة تخزينه بنحو مليار متر مكعب، ويقع على “وادي الكبير”، ويزود 6 ولايات بمياه الشرب، يقطنها 5 ملايين نسمة.
الأنهار الاصطناعية
أول دولة لجأت إلى فكرة الأنهار الاصطناعية هي ليبيا في عهد الرئيس الراحل معمر القذافي، فهي تفتقد إلى أنهار جارية أو وديان كبيرة لإقامة سدود، كما أنها لم تستثمر في محطات تحلية مياه البحر رغم ساحلها الطويل، لكنها في المقابل اهتمت بمخزوناتها الهامة من المياه الجوفية في أقصى جنوب صحرائها القاحلة.
وتقوم فكرة النهر الاصطناعي العظيم، الذي انطلقت عملية إنجازه في 1984، على استخراج المياه العذبة عالية الجودة من الطبقات الجوفية العميقة جنوبي البلاد، ونقلها في قنوات ضخمة إلى مدن وبلدات الشمال التي تضم قرابة 90 في المئة من سكان البلاد، البالغ عددهم نحو 7 ملايين نسمة.
وكلف النهر الاصطناعي العظيمُ البلادَ الغنية بالنفط نحو 35 مليار دولار، وهو ليس خطا واحدا، وإنما شبكة من خزنات المياه والقنوات الجوفية إلى عدة مدن في الشرق والغرب.
ومن جانبها أنجزت الجزائر في 2011 مشروع نقل المياه الصالحة للشرب من مدينة عين صالح وسط الصحراء إلى مدينة تمنراست في أقصى الجنوب على طول 750 كلم.
ويتم نقل 50 ألف متر مكعب يوميا من المياه المستخرجة من آبار ارتوازية في قلب الصحراء للاستعمال المنزلي في مدينة تمنراست، وتوجيه الفائض منه لسقي المزروعات.
وساهمت عمليات التنقيب عن النفط والغاز على أعماق تتجاوز 100 متر في اكتشاف أحواض مائية جوفية تحتوي على مياه عذبة عالية الجودة، ما شجع الجزائر على حفر مثل هذه الآبار الارتوازية، رغم كلفتها الباهظة، ونقل مياهها إلى مناطق تعاني من ندرة المياه.
وتتحدث عدة دراسات عن امتلاك الدول العربية أحواضا مائية ضخمة داخل طبقات الأرض في العراق والجزائر وليبيا ومصر والسودان والمغرب وشبه الجزيرة العربية. إن تحلية مياه البحر وإقامة السدود وإنشاء الأنهار الاصطناعية لنقل المياه الجوفية العميقة ثلاثة خيارات رئيسية لجأت إليها الدول العربية لمواجهة العطش مع اشتداد موجات الجفاف في السنوات الأخيرة.
العرب