البحث عن الخبز.. صراع من أجل البقاء في السودان

البحث عن الخبز.. صراع من أجل البقاء في السودان

من الممكن أن يقاوم الناس بعض النقائص التي تفرضها ظروف الحرب لكن يصبح الأمر صعبا بل مستحيلا إذا لم يحصلوا على رغيف الخبز الذي يسدون به رمقهم ورمق أطفالهم الذين لا يستطيعون مقاومة الجوع. والسودانيون اليوم فقدوا الخبز بعد أن هدد انقطاع الكهرباء وغاز الطبخ والدقيق المخابز بالإغلاق.

الخرطوم- رغم مرور أكثر من 9 أشهر على مقتل ابنه البكر في قصف صاروخي، استهدف سوقا محلية في منطقة السلمة بجنوب العاصمة السودانية الخرطوم، مازال عبدالسلام سليمان متأثرا بما حدث.

وقال سليمان (50 عاما) -وهو رب أسرة تتكون من 6 أشخاص (هو وزوجته وثلاثة أبناء وبنت)- “في صباح يوم 22 سبتمبر الماضي أرسلت ابني البكر محمد (16 عاما) إلى مخبز مجاور لنا بحثا عن الخبز، لم أكن أعلم أنني لن أراه مرة أخرى”.

وأضاف بصوت متحشرج ومغالبا دمعه ” فقدت ابني من أجل توفير رغيف الخبز لأسرتي، وبدلا من الرغيف عاد ابني إلى المنزل جثة هامدة”.

وتابع في تصريح لوكالة شينخوا “هذه واحدة من صور الحرب العبثية وأكثرها مأساوية، لم يكن ابني مقاتلا ولا جنديا ولا سياسيا ولا دخل لنا في ما يحدث، ولا نفهم أسباب هذا القتال، ولكننا أسرة واحدة من آلاف الأسر أو قل من ملايين الأسر التي دفعت كلفة الحرب ومازالت تدفع”.

وكأنه يقرأ من كتاب عن مآسي الحروب وفظاعتها، يضيف سليمان “كان بإمكاني أن أتحمل خسارة الممتلكات، أو المقدرات كلها، ولكن خسارة الروح عندي جرح لن يندمل، وسيبقى يدمي الذات ويزيد من وجعها ويسلبها طعم الحياة”.

وانعدام الخبز، أو صعوبة الحصول عليه، هو أحد تأثيرات الحرب على الحياة العامة لسكان الخرطوم الذين اضطرتهم عدة عوامل إلى البقاء، دون أن تتوفر لهم سبل الحياة.

وقال سليمان، وهو معلم في المرحلة الثانوية، “منذ اندلاع الحرب كان قرارنا البقاء في منزلنا، وأسباب هذا القرار متعددة، لم تكن لنا موارد مالية للخروج إلى أي مكان آخر، وأنا مريض بالسكري ولا تتوفر مراكز علاجية متطورة في الأقاليم”.

وأضاف “ليس لدينا أهل في المناطق التي كان متاحا النزوح إليها، بعض أهلي في دارفور، ولكنك تعلم أن دارفور وضعها ليس أفضل من الخرطوم وربما كان أسوأ”.

ومنذ بداية القتال في الخرطوم في 15 أبريل 2023 توقفت العشرات من المخابز في منطقة جنوب الخرطوم، وتعرض بعضها للقصف العشوائي، أو اضطر أصحابها إلى إغلاقها بسبب الوضع الأمني وانعدام الدقيق وعدم توفر الكهرباء والغاز.

وقال سليمان “قبل اندلاع الحرب كانت هناك نحو 7 مخابز في منطقة السلمة حيث نسكن، والآن هناك مخبز واحد مازال يعمل بطاقة إنتاجية ضعيفة”.

وأضاف “انقطاع الكهرباء لأيام وعدم توفر غاز الطبخ وصعوبة الحصول على صنف الدقيق المخصص للخبز أدت إلى توقف عمل المخابز”.

وقال “هذه معركة يومية نعيش تفاصيلها، فالجوع يضطرنا إلى الخروج للبحث عن طعام نسد به رمق أطفالنا، ولكن الخوف من الموت المنتشر في الشوارع إحساس مفزع، ويمكن أن تدفع حياتك ثمنا للغذاء كما حدث لابني”.

ويمتلك عبدالعظيم خالد (65 عاما) مخبز “الخلاوي” في منطقة السلمة بجنوب الخرطوم، وهو يعمل في هذه المهنة مدة تزيد عن 25 عاما، ولكن الحرب زادت صعوبات عمله.

وقال خالد “قبل الحرب كنا نقوم باستهلاك 30 جوال دقيق في اليوم، وينتج الجوال نحو 1200 قطعة خبز، الآن تناقص الإنتاج وقلت الطاقة الإنتاجية للمخبز، وفي المتوسط ننتج يوميا نحو ألفي قطعة خبز، وفي أيام قد لا يتعدي الإنتاج 500 قطعة فقط”. وأضاف “العقبة الرئيسية هي انقطاع الكهرباء وعدم توفر الغاز، بدأنا باستخدام الأفران التقليدية القديمة التي تعمل بالحطب، وهذه بطيئة جدا، وإنتاجها من الخبز ليس جيدا”.

وتابع “من الصعوبات أيضا صعوبة الحصول على الدقيق الجيد الذي كنا نستخدمه قبل الحرب، ومن المؤكد أن الوضع الأمني أيضا يشكل أكبر عقبة لاستمرار عملنا، كما أن العمال غير متوفرين الآن بسبب النزوح الكبير للأيدي العاملة”.

وأشار إلى أن مخبزه تعرض مرتين لمحاولات النهب من قبل عصابات محلية تنشط في المنطقة وتسمي “النيغرز”، و”في المرتين تمكنا بمساعدة الجيران من التصدي لهؤلاء بالسلاح الناري”.

ووفقا لبرنامج الغذاء العالمي فإن الحرب المستمرة في السودان “قد تخلف أكبر أزمة جوع في العالم”، بينما يشهد السودان، وفقا للأمم المتحدة، أكبر أزمة نزوح على المستوى الدولي.

وفي وقت سابق حذرت الأمم المتحدة من مجاعة وشيكة في السودان بعد دخول الحرب عامها الثاني بين الجيش وقوات الدعم السريع، والتي خلفت أكثر من 13 ألف قتيل وجعلت 25 مليون شخص في حاجة ماسة إلى المساعدات.

في الوقت الذي تستمر فيه الحرب تزداد أوضاع الأسر المقيمة في الخرطوم تدهورا، وتتآكل الموارد المالية في ظل عدم صرف رواتب الموظفين والعمال وتوقف التحويلات المالية عبر التطبيقات البنكية بسبب استمرار انقطاع الإنترنت في مناطق مختلفة من العاصمة وتوقف معظم فروع البنوك في الخرطوم.

وتقول سارة الفاضل (38 عاما)، وهي موظفة في القطاع العام وتقيم بمنطقة الأزهري في جنوب الخرطوم، إنها لم تتلق أي راتب منذ أبريل 2023.

وتضيف “حتى الآن فشلت وزارة المالية في توفير الرواتب لغالبية موظفي القطاع العام، ولا نعرف كيف ندبر وضعنا في ظل غلاء الأسعار”.

وتشير سارة إلى أنها أم لثلاثة أطفال وهي مسؤولة عن رعايتهم بسبب أنها أرملة إذ توفي زوجها قبل عامين.

وقالت “أطفالي صغار، ولديهم احتياجات متعددة، ولا أستطيع توفيرها بسبب عدم توفر المال، أعتمد على راتبي، ولم أتحصل عليه منذ عام، هذا وضع صعب للغاية”.

وتابعت “لدي أقارب خارج السودان كانوا يساعدونني عبر تحويل مبالغ مالية من وقت إلى آخر، هذا لم يعد متاحا الآن بسبب انقطاع الإنترنت وتوقف التحويلات عبر التطبيقات البنكية ومنها خدمة ‘بنكك’ التابعة لبنك الخرطوم، وخدمة ‘فوري’ التابعة لبنك فيصل”.

وتحاول سارة الحصول على المال من خلال بيع أصناف من الطعام أمام منزلها بحي الأزهري، ولكنها تواجه صعوبات مرتبطة بالوضع الأمني وكذلك بتأثيرات الصراع الاقتصادية.

وقالت “أقوم بصناعة أطعمة لا تحتاج إلى الكثير من العناء، ومنها ساندوتشات الفلافل والفول والبيض، وبيعها في كشك صغير بجوار منزلي”.

◄ منذ بداية القتال في الخرطوم في 15 أبريل 2023 توقفت العشرات من المخابز في منطقة جنوب الخرطوم، وتعرض بعضها للقصف العشوائي

تضيف سارة قائلة “لكني أواجه عدة صعوبات، لا يتوفر الخبز لصناعة السندوتشات، وأحاول إيجاد حل للمشكلة من خلال صناعة الخبز في المنزل بوسائل بدائية، ولكني أواجه أيضا صعوبة في الحصول علي الدقيق وانعدام الغاز والكهرباء”.

وزادت “من الناحية الاقتصادية ارتفعت أسعار المواد الغذائية كلها وهو ما يجعل العائد من بيع الأطعمة ليس مجديا، كما أني أواجه مخاطر أمنية واحتمال التعرض للقصف العشوائي المستمر أو حتى الاعتقال من قبل مجموعات عسكرية منتشرة في الخارج”.

وتابعت “أجد نفسي أمام خيارين لا ثالث لهما، والمفارقة أنهما يؤديان إلى نتيجة واحدة وهي الموت، فإما البقاء في المنزل ومواجهة خطر الموت جوعا أو الخروج إلى الشارع واحتمال الموت برصاصة طائشة أو قذيفة مجهولة المصدر”.

وتعتبر العاصمة السودانية الخرطوم واحدة من مناطق الصراع التي تتواجد فيها الفئات السكانية الأكثر تأثرا بانعدام الأمن الغذائي.

ولا تزال منطقة جنوب الخرطوم تمثل المنطقة الرئيسية التي تشهد مستويات عالية من العنف المنظم، وتسيطر قوات الدعم السريع على كامل المنطقة، ما يجعلها عرضة لمواجهات مستمرة ومركزا لإطلاق القذائف الصاروخية من قبل قوات الدعم السريع، فيما يرد الجيش السوداني عبر القصف الجوي من خلال الطائرات الحربية والمسيرات. ووفقا لتقييم الأمم المتحدة نشر مؤخرا فقد تراجع أداء الاقتصاد السوداني بسبب الحرب بنسبة 42 في المئة، فيما توقع صندوق النقد الدولي انكماشا بنسبة 18 في المئة هذا العام.

العرب