حروب التجسس الجديدة

حروب التجسس الجديدة

لم تنته الحرب الباردة قط. هذه، في الأقل، هي وجهة نظر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. والمؤشر الأوضح على أن الكرملين واصل كفاحه المرير ضد الغرب حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي يتجلى في أنشطة أجهزة الأمن والاستخبارات الروسية. ففي العمليات التي تنفذها وفي القوة الهائلة التي تمارسها في المجتمع الروسي، استكملت تلك الأجهزة ما بدأته المخابرات السوفياتية. منذ عام 1991، كانت هذه الوكالات مدفوعة باستراتيجية انتقامية ترمي إلى جعل روسيا عظيمة مرة أخرى والإطاحة بالنظام الدولي الذي قادته الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة. وحرب بوتين في أوكرانيا هي النتيجة الدموية لتلك الاستراتيجية.

تسعى الصين أيضاً إلى تغيير نتائج الحرب الباردة. من خلال إعلان بوتين والرئيس الصيني، شي جينبينغ، إقامة صداقة “بلا حدود” عشية الغزو الروسي لأوكرانيا، هما يحاولان، قلب النظام الدولي رأساً على عقب، ويعتمدان بشدة على أجهزتهما الاستخبارية في القيام بذلك. في الواقع، يمكن لوكالات التجسس أن تفعل ما لا تستطيع فروع الحكومة الأخرى القيام به: تنفيذ سياسة خارجية غير معلنة. لقد لجأت الاستخبارات التابعة لكل من روسيا والصين إلى ذلك الأسلوب في سبيل تحقيق أهدافها الرجعية، مستغلة وضع الولايات المتحدةالمشتتة بسبب “الحرب على الإرهاب” من أجل إلحاق الضرر بالأمن القومي الأميركي، وتقويض الديمقراطيات الغربية، وسرقة أكبر قدر ممكن من الأسرار العلمية والتقنية.

رجال القيصر أجمعين  

تعتبر أجهزة الاستخبارات الروسية نفسها الوريثة المباشرة لجهاز “كي جي بي” KGB. على رغم حل “كي جي بي” في عام 1991، نقل عدد من ضباطه السابقين وجميع تقنياتهم في التجسس وملفاتهم وحتى عملائهم في الغرب إلى جهاز الأمن الروسي الجديد، المعروف الآن باسم جهاز الأمن الفيدرالي الروسي “أف أس بي” FSB، وجهاز المخابرات الأجنبية “أس في أر” SVR.

لسنوات بعد نهاية الحرب الباردة، استمرت المخابرات الروسية في توجيه عملاء سوفياتيين سابقين في الغرب، بمن في ذلك الضابط في مكافحة التجسس في وكالة الاستخبارات المركزية “سي آي إي” CIA ألدريتش أميس وعميل مكتب التحقيقات الفيدرالي “أف بي أي” FBI روبرت هانسن.

لم يتغير شيئ بالنسبة إلى روسيا واستمرت في اعتماد النهج المعتاد. فالمدير الأول لـ”أس في أر”، الذي كان سابقاً في الـ “كي جي بي” يفغيني بريماكوف، واصل اتباع تقاليد وكالة الاستخبارات السوفياتية في الإكراه والابتزاز، وهي تكتيكات وقع هو نفسه ضحية لها عندما كان شاباً.

وفقاً لمواد سربت من أرشيف “كي جي بي”، تعرض بريماكوف للابتزاز من أجل إجباره على خدمة الوكالة أثناء عمله كصحافي في الشرق الأوسط في الستينيات من القرن الماضي. كان الأب المؤسس لجهاز الأمن الفيدرالي “أف أس بي”، ريم كراسيلنيكوف، ضابطاً سابقاً في المخابرات السوفياتية ومؤمناً حقيقياً بالشيوعية، وكانت زوجته تدعى نينيل، وهي تهجئة لاسم لينين بالمقلوب.

ووفقاً لأحد المنشقين عن “أف أس بي” كان يعمل تحت قيادة كراسيلنيكوف في التسعينيات، استخدم جهاز “أف أس بي” كتيبات التدريب نفسها التي كان جهاز “كي جي بي” يستعملها، لكنه انتزع منها ببساطة الأجزاء الأيديولوجية التي تتعلق بالشيوعية.

ثم هناك بوتين نفسه، الذي أسهمت تجربته في مديرية المخابرات الخارجية التابعة لـ”كي جي بي” في تشكيل حياته السياسية اللاحقة بعمق. أثناء تمركزه في دريسدن في ألمانيا الشرقية، إذ كان وجود الـ”كي جي بي” ثانوياً، إذ إن الأحداث الحقيقية والمثيرة كانت تحصل في برلين الشرقية، شهد بوتين تفكك الإمبراطورية السوفياتية عن كثب.

وعلى حد قوله لاحقاً، كانت تلك أكبر كارثة في القرن الـ20. ويصف بوتين نفسه على أنه “تشيكي” تكريماً للشرطة السرية السوفياتية الأولى، تشيكا Cheka، وعندما كان مديراً للـ”أف أس بي” كان يحتفظ في مكتبه بتمثال لمؤسس تشيكا فيليكس دزيرجينسكي. حتى يومنا هذا، يسير بوتين بالطريقة ذاتها التي كان يمشي فيها حملة السلاح في الـ”أف أس بي”، فنراه يحرك يده اليسرى متأرجحة فيما يبقي يده اليمنى جامدة بالقرب من سلاح جانبي [مسدس على جانبه]، وذلك لكي يعلم الجميع بأنه مدرب.

على غرار كثير من الروس، عانى بوتين منذ انهيار الاتحاد السوفياتي مما يشبه متلازمة الطرف الشبحي phantom limb syndrome [هو الشعور بالألم في العضو المبتور أو المفقود وكأنه لا يزال متصلاً بالجسد]. نتيجة لذلك، في تسعينيات القرن الماضي، لم يتطلب الأمر كثيراً لإقناعه بأن الناتو، بحكم تعريفه، معاد لموسكو.

واعتادت المخابرات السوفياتية تسمية الولايات المتحدة “بالعدو الرئيس” – وبمجرد أنها كانت العدو الرئيس لمرة، فإنها ستظل العدو الرئيس دوماً، لا بل صارت أجهزة الاستخبارات الروسية أكثر عدوانية تجاه الولايات المتحدة في التسعينيات مما كان عليه جهاز الـ”كي جي بي” في الحقبة السوفياتية اللاحقة. والجدير بالذكر أن أكثر ما يولد العدوان هو الإذلال.

حتى يومنا هذا، يمشي بوتين مشية حامل السلاح في الـ”أف أس بي”.

بحلول نهاية التسعينيات، كان الـ”أس في أر” يستخدم الإنترنت من أجل نشر معلومات مضللة تشوه سمعة الولايات المتحدة. أمطر ضباط الـ”أس في أر” المتمركزون في الولايات المتحدة المنافذ الإعلامية ومنصات الرسائل [منتديات المناقشة] الأميركية بوابل من الأفكار والمواضيع المأخوذة مباشرة من الدعاية السوفياتية، بما في ذلك الأجندة العنصرية السرية الخاصة بالحكومة الأميركية، وقيام الولايات المتحدة بتطوير الأسلحة البيولوجية بشكل غير قانوني. في وقت ما من عام 1996، أطلق المتسللون الروس اختراقاً هائلاً لقواعد البيانات الحكومية الأميركية الحساسة، من بينها تلك التابعة لـ”ناسا” والبنتاغون.

بالطبع، لم تبق المخابرات الأميركية مكتوفة الأيدي آنذاك. مع انهيار الاقتصاد الروسي في أواخر التسعينيات، تمكنت وكالة الاستخبارات المركزية “سي آي إي” من جذب بعض المجندين الروس القيمين الذين خانوا وكالات التجسس التي ينتمون إليها في مقابل بعض المال وأفشلوا عمليات استخبارات موسكو ضد الغرب. ولكن بعد ذلك وقعت أحداث الـ11 من سبتمبر (أيلول).

أعمى القتال بصيرته

في البداية، بدا أن الحرب على الإرهاب قد تكون فرصة لإعادة ضبط العلاقات، فرصة لتعاون استخباري أميركي – روسي أكبر. بعد لقائه الأول مع بوتين في عام 2001، قال الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش عبارته الشهيرة بأنه تمكن من “الشعور بروحه” واعتقد أنه جدير بالثقة.

في البداية، تعاونت أجهزة الاستخبارات الروسية مع الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب. لكن وفقاً لمسؤولي وكالة الاستخبارات المركزية، فإن شهر العسل بين الاستخبارات الأميركية والروسية بعد الـ11 من سبتمبر لم يدم طويلاً، مما أفسح المجال أمام عصر من العدوان الروسي الخفي. في غضون ذلك، كانت واشنطن تتجاهل الموضوع. طوال الحرب على الإرهاب، استثمرت الحكومة الأميركية موارد هائلة في مكافحة الإرهاب على حساب الجهود المبذولة من أجل التعامل مع تهديدات القوى الناشئة مثل روسيا والصين.

وكذلك فعل كثير من حلفاء الولايات المتحدة، بما في ذلك المملكة المتحدة. وفقاً لتقرير صادر عن لجنة الاستخبارات والأمن البرلمانية البريطانية في عام 2020، كرس جهاز الأمن ومكافحة التجسس البريطاني “إم آي 5″ MI5 نسبة مذهلة تبلغ 92 في المئة من عمله من أجل مكافحة الإرهاب في عام 2006. وكان هذا هو العام نفسه الذي اغتيل فيه ضابط الـ”أف أس بي” السابق، ألكسندر ليتفينينكو، في لندن باستخدام البولونيوم المشع.

في وقت لاحق، وجد تحقيق عام بريطاني أن بوتين نفسه ربما وافق على عملية القتل، شأنه شأن رئيس الـ”أف أس بي” آنذاك نيكولاي باتروشيف، وهو أيضاً من المخضرمين السابقين في الـ”كي جي بي” ويحتل الآن مكانة في مجلس الأمن القومي الخاضع لبوتين [باتروشيف أمين عام مجلس الأمن القومي الروسي].

لكن في المقابل، لا توجد بيانات عامة مماثلة حول كيفية تقسيم وكالات الاستخبارات الأميركية لاهتمامها ومواردها بين مكافحة الإرهاب والأولويات الأخرى بعد الـ11 من سبتمبر، بيد أن ضباط المخابرات الأميركيين الذين قابلتهم قالوا إن جل اهتمام مجتمع الاستخبارات الأميركية انصب على مكافحة الإرهاب. في أواخر عام 2017، كانت مكافحة الإرهاب لا تزال تمثل أهم بند في موازنة مكتب مدير المخابرات الوطنية في الولايات المتحدة.

لقد حكم بوتين روسيا كنظام مافيا عسكري.

كان نبوغ بوتين يتمثل في أنه أخفى عن القوى الغربية بعد الـ11 من سبتمبر أنه على رغم إبدائه تعاوناً في مجال مكافحة الإرهاب، إلا أنه كان يستخدم أيضاً أجهزة استخباراته لترسيخ نظامه الاستبدادي وجعل روسيا قوة عظمى مرة أخرى.

في الداخل، قام بإسكات المعارضة، وسحق الصحافة الحرة، وقضى على خصومه، متبعاً التقليد الستاليني المتمثل في “لا إنسان، لا مشكلة”. في الخارج، أكان في البلدان المجاورة لروسيا أم البعيدة عنها، سعى بوتين إلى منع توسع الناتو واحتواء ما اعتبره تدخلاً أميركياً تخريبياً في أوروبا الشرقية من خلال غزو جورجيا في عام 2008، وشبه جزيرة القرم في عام 2014، وبقية أوكرانيا في عام 2022.

أدى توسع الناتو إلى تغذية مخاوف بوتين من تآمر غربي، ولكن من المبالغة أن نفترض أنه لولا توسيع الحلف، لكانت روسيا طرفاً مسالماً أو جديراً بالثقة في السياسة العالمية. لقد أدار بوتين روسيا وكأنها نظام مافيا عسكري.

منذ وصوله إلى السلطة قبل ثلاثة عقود، جعل بوتين أجهزة الأمن والاستخبارات الروسية دولة داخل الدولة. إنه يعتمد على زمرة من السيلوفيكي [النخبة الأمنية الروسية] “التشيكيين”، أو “الرجال الأقوياء”، الذين لديهم خلفيات استخبارية وعسكرية ويمارسون نفوذاً مفرطاً في نظامه البوليسي. وفقاً لمطلعين في وكالة الاستخبارات المركزية، فإن الغالبية العظمى من التكنوقراط في الكرملين الذين يديرون الاقتصاد الروسي كانت لديها مثل هذه الخلفيات في عام 2020.

من قواعد اللعبة السوفياتية، لكنها طورت على نحو يجعلها تناسب العصر الإلكتروني. في الواقع، توفر وسائل التواصل الاجتماعي والترابط الرقمي أساليب جديدة في سبيل تحقيق أغراض قديمة، مما يمنح خدمات التجسس الروسية قدرات لم يكن بإمكان جهاز الـ”كي جي بي” إلا أن يحلم بها.

استخدم بوتين مجموعة متنوعة من الإجراءات السرية من أجل تقويض خصومه في الغرب. لقد تدخل في الانتخابات الديمقراطية الغربية، وبشكل لافت في الانتخابات الرئاسية الأميركية في عام 2016، محافظاً على التقاليد السوفياتية التي تعود لعام 1948 في الأقل.

كذلك، أبقى بوتين على الممارسة السوفياتية المتمثلة في نشر عملاء متخفين “غير قانونين” [ويطلق عليهم أيضاً اسم الجواسيس النائمين وهم يتخذون هوية مزورة ولا يعملون تحت غطاء دبلوماسي في السفارات، وتستخدم المخابرات الروسية وصف “غير القانونين” لتمييز هؤلاء الضباط عن الجواسيس “القانونيين” الذين يتنكرون تحت غطاء الدبلوماسية] في الدول الغربية، واعتقل بعض منهم وأعيدوا لموسكو في عمليات تبادل للجواسيس تشبه تلك التي حدثت في الحرب الباردة في القرن الماضي.

على رغم أن بوتين شجع الفكرة القائلة بأنه جاسوس ماهر، لكنه أشرف في الواقع على سلسلة متتالية من الإخفاقات الاستخبارية.

في عام 2010، على سبيل المثال، قضى مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة المخابرات المركزية على شبكة من العملاء الروس “غير القانونين” في الولايات المتحدة. لقد فعلا ذلك من خلال تجنيدهما ضابطاً مهماً داخل برنامج الـ”أس في آر” الخاص بالعملاء غير القانونين، فزود واشنطن بالأسرار.

لكن أعظم فشل استخباري لبوتين حصل قبل قراره بغزو أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، حين نجحت وكالات الاستخبارات الأميركية والبريطانية في تجميع خططه الحربية وفضحها للعالم، وبالتالي حرمته من القدرة على اختلاق الذرائع لشن الغزو.

وإذا أصبح من الممكن يوماً ما رؤية المعلومات الاستخبارية التي حصل عليها بوتين في الفترة التي سبقت الحرب في أوكرانيا، فلن يكون من المفاجئ أن نجد أنها لم تتعارض مع تقديره المبالغ فيه للقوة العسكرية الروسية، لا بل حتى أكدته وعززته.

وفي الواقع، لا يوجد مجال كبير لقول الحقيقة في بلاط بوتين، تماماً كما كان الحال في بلاط ستالين. والطبيعة المجرمة والدموية التي يتسم بها حكم بوتين تضمن حصوله على معلومات استخبارية مبنية على الخداع والتملق. منذ بداية الحرب، عانت المخابرات الروسية سلسلة من الإخفاقات العملياتية، بما في ذلك تفكيك شبكات التجسس في النرويج والسويد وسلوفينيا.

ليست مجرد وكالة تجسس عادية

مثلما فعلت روسيا، استغلت الصين أيضاً الحرب التي تقودها الولايات المتحدة على الإرهاب من أجل تعزيز مصالحها. وفقاً لضباط وكالة الاستخبارات المركزية ذوي الخبرة الكبيرة في الصين، أعلن جهاز المخابرات المدنية الرئيس في بكين، المتمثل في وزارة أمن الدولة، الحرب على الاستخبارات الأميركية في عام 2005.

منذ ذلك الحين، بينما كانت واشنطن مستنزفة في الحرب على الإرهاب، وجهت وزارة أمن الدولة (أم أس أس) MSS تركيز أفضل مواردها وضباطها نحو حكومة الولايات المتحدة والشركات الأميركية، فقاموا بسرقة أكبر عدد ممكن من الأسرار العلمية والتقنية من أجل تعزيز اقتصاد الصين وقوتها العسكرية. منذ ذلك الوقت سيطرت أجواء من الفرح على مداولات “أم أس أس” الداخلية لأن الولايات المتحدة كانت تتخبط في الشرق الأوسط وغير منتبهة للنجاحات السرية التي حققتها الصين.

وسرعان ما تكلل هجوم “أم أس أس” على الولايات المتحدة بالنجاح وأتى ثماره. في عام 2010، قامت وكالة التجسس الصينية بتفكيك شبكة رئيسة لوكالة الاستخبارات المركزية كانت موجودة في الصين، مما أدى إلى مقتل أو سجن أكثر من 10 مصادر أميركية، وفقاً لتقرير استقصائي نشرته صحيفة “نيويورك تايمز”. لا يزال من غير الواضح بالضبط كيف تمكنت المخابرات الصينية من فضح شبكة وكالة الاستخبارات المركزية، لكن الضرر كان لا يمكن إنكاره. بعد 10 سنوات، أخبرني مسؤول استخباري أميركي لديه اطلاع مباشر على هذه الأحداث أن وكالة الاستخبارات المركزية في الصين لم تتعاف بعد.

في ظل حكم شي، تحولت الصين إلى اللص الإلكتروني الرئيس في العالم.

منذ أن وصل شي إلى السلطة، ازدادت هجمات المخابرات الصينية على الغرب، وعلى الولايات المتحدة على وجه الخصوص، بشكل كبير. تتمثل مهمة المخابرات الصينية في تنفيذ استراتيجية شي الكبرى: جعل الصين القوة العسكرية والاقتصادية الأولى في العالم وتغيير المشهد التكنولوجي الحالي، من خلال جعل الدول الأخرى تعتمد على التكنولوجيا الصينية لا الأميركية. وتستخدم خدمات التجسس الصينية نهج تسخير “المجتمع بأسره” لجمع المعلومات الاستخبارية: فهي تحشد بشغف المعلومات البشرية والإلكترونية والإشارات (باستخدام البالونات وقاعدة للتنصت على ما يبدو في كوبا) بينما تستعمل في الوقت نفسه المصادر المتاحة للجمهور، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي.

من خلال سلسلة من قوانين الأمن القومي الصارمة التي اعتمدت في عهد شي، يجبر الحزب الشيوعي الصيني أيضاً الشركات الصينية على التعاون مع وكالات الاستخبارات عند الطلب، وبالتالي دمج التجسس والشراء [التجارة]. والنتيجة هي نموذج استبدادي مركانتيلي صيني لا مثيل له في الغرب.

واستطراداً، يستخدم الحزب الشيوعي الصيني برامج المواهب والتبادلات الثقافية ليتجسس تحت اسم آخر. كذلك، تستغل بكين أيضاً الجاليات الصينية في الدول الغربية، وتضغط عليها لنقل المعلومات الاستخبارية، غالباً عن طريق ابتزازها أو تهديد أفراد الأسرة في الصين.

وهكذا، في عهد شي، تحولت الصين إلى اللص الإلكتروني الرئيس في العالم، إذ سرقت مزيداً من البيانات الشخصية والتجارية من الأميركيين أكثر من كل الدول الأخرى مجتمعة، وفقاً لمكتب التحقيقات الفيدرالي. في عام 2021، أفاد مكتب التحقيقات الفيدرالي بأنه يفتح تحقيقاً جديداً لمكافحة التجسس الصيني كل 12 ساعة. وفي يوليو (تموز) 2023، أفادت لجنة الاستخبارات والأمن البرلمانية في المملكة المتحدة بأن الحكومة الصينية اخترقت كل قطاع من قطاعات الاقتصاد البريطاني.

والجدير بالذكر أن عبارات مثل “المنافسة الأميركية – الصينية” لا تعبر تعبيراً صادقاً عن الواقع القبيح. على غرار وكالات الاستخبارات الروسية، تعتمد أجهزة المخابرات الصينية طريقة تنافس تقوم على قواعد مختلفة اختلافاً جذرياً عن تلك التي تتبعها نظيراتها في الغرب.

خلافاً لوكالات التجسس الأميركية أو الأوروبية، فإن وزارة أمن الدولة لا تخضع لسيادة القانون أو للرقابة السياسية المستقلة. كذلك، فإن وزارة أمن الدولة ليست خاضعة للمساءلة العامة أمام المواطنين الصينيين أو لتدقيق الصحافة الحرة. وتعني هذه الاختلافات أن عبارات مثل “كل الدول تتجسس”، التي تستخدم غالباً بهدف توجيه التركيز بعيداً من التجسس الصيني، هي عبارات مضللة بشكل خطر. ففكرة أن كل الجيوش تمتلك أسلحة لا تعني أنها كلها متشابهة.

خلافاً للأجهزة الغربية، ليست هناك قيود ذات مغزى مفروضة على وكالات الاستخبارات الصينية أو الروسية. في الواقع، إن الأجهزة الصينية والروسية ليست مقيدة إلا بمدى فعالية عملياتها، أي ما يمكنها أن تقوم به وتنجو بفعلتها. ويجب على الحكومات الغربية والجماهير أن تدرك حجم هذا التهديد.

ضغائن قديمة، أسلحة جديدة

خلال الحرب الباردة، أضفت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي الطابع الصناعي الآلي على جمع المعلومات الاستخبارية، فاستخدمتا أجهزة الكمبيوتر لمهاجمة التشفير الخاص ببعضهما بعضاً. انتقل التجسس من الأرض، وأعماق البحار، إلى طبقات الجو العليا [الستراتوسفير]، ثم إلى الفضاء.

اليوم، تخوض الحكومات الغربية حرباً باردة جديدة مع روسيا والصين تؤدي إلى تغيير طبيعة التجسس مرة أخرى. هذه الحرب الباردة الجديدة ليست تكراراً للحرب الأخيرة، لكنها تتمتع بالاستمرارية ولها أوجه تشابه معها، بما في ذلك عدم التوازن الواضح في الصراع الاستخباري بين الشرق والغرب. كان من الصعب للغاية على الأجهزة السرية الغربية جمع معلومات استخبارية موثوقة عن الدول البوليسية المغلقة خلف ستار حديدي، الآن أصبح من الأصعب عليها العمل بفعالية في روسيا أو الصين، مع أنظمة المراقبة المحلية الأورويلية [نسبة إلى الكاتب الإنجليزي جورج أورويل صاحب رواية الخيال العلمي المتشائم “أربعة وثمانون تسعمئة وألف” التي تدور أحداثها في مجتمع تحت رقابة مشددة] الخاصة بهما. في غضون ذلك، من السهل نسبياً على روسيا والصين سرقة الأسرار من المجتمعات الغربية المفتوحة والحرة والديمقراطية، تماماً كما كان الأمر بالنسبة إلى السوفيات من قبلهما.

لكن أوجه التشابه بين صراع القوة العظمى الحالي وصراعها الأخير لا ينبغي أن يعمينا عن اختلافاتهما. فالثقل الاقتصادي الهائل للصين واندماجها في الاقتصاد العالمي يميزانها عن الاتحاد السوفياتي. كذلك، يختلف مشهد المعلومات اليوم كثيراً عن المشهد في الماضي القريب. حاضراً، توفر شركات الأقمار الاصطناعية التجارية، على سبيل المثال، قدرات كانت حتى وقت قريب حكراً على الحكومات. وتعمل الاستخبارات التجارية المفتوحة المصدر على تغيير الأمن القومي.

في الحرب الباردة الأخيرة، كان ما يقرب من 80 في المئة من المعلومات الاستخبارية الأميركية مستمد من مصادر سرية بينما جاء 20 في المئة منها من مصادر مفتوحة. اليوم، يعتقد أن هاتين النسبتين قد انعكستا. لا يكمن مستقبل الاستخبارات الغربية في الحكومات بل في القطاع الخاص. والتحدي الذي يواجه الحكومات الغربية هو تسخير قدرات مزودي الاستخبارات التجارية. وسيتطلب هذا شراكات جديدة بين القطاعين العام والخاص.

وعلى رغم ذلك، فإن ما تحتاج الحكومات الغربية إليه أكثر من أي شيء هو الخيال عندما يتعلق الأمر بجمع المعلومات الاستخبارية عن الدول البوليسية المنغلقة. في الواقع، إن الخيال هو ما دفع وكالة الاستخبارات المركزية إلى تطوير طائرات “يو-2” U-2 التي تحلق على ارتفاعات عالية التي تمكنت من التجسس خلف الستار الحديدي عندما كانت الوسائل الأخرى مستحيلة.

هناك حاجة إلى خيال مماثل اليوم في مجالات تحتل الصدارة في لائحة اهتمامات الأمن القومي، بما في ذلك جمع المعلومات الاستخبارية المفتوحة المصدر، واستخدام التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية. ستكون هذه أسلحة الحرب الباردة في هذا القرن، وهي التي ستحدد نتيجة هذه الحرب.

اندبندت عربي