بدأ المستثمرون الخليجيون التوجه نحو الاستثمار في الطاقة النظيفة، وفي مقدمتها الهيدروجين الأخضر الذي يبدو أيضا فرصة للدول النامية ذات الأراضي الشاسعة والموارد الطبيعية الهامة التي تسهل عليها استغلال هذه الفرصة التي لا يجب إهدارها.
واشنطن – شكّل النفط والغاز التاريخ الحديث لدول مثل المملكة العربية السعودية وقطر وفنزويلا ونيجيريا وتكساس وألبرتا. ويحدد وجود هذه الموارد أو غيابها، والاستفادة منها، كيفية تحول الاقتصاد والمجتمعات والجغرافيا السياسية. لكن الدول بدأت تتجه مؤخرا إلى الحديث عن الاستثمار في الهيدروجين النظيف، تدفعها نحو ذلك بسرعة التغيرات المناخية الكبرى ودعوات المؤسسات الدولية والخبراء والمنظمات والنشطاء البيئيين لتخفيف المخاطر عن الأجيال القادمة.
ويقول المحلل والباحث روبن ميلز في تقرير لموقع “سنديكيشن بيورو” إن “الهيدروجين النظيف الناشئ مختلف، فهو لا يحتاج إلا إلى الشمس والرياح والأرض. لذلك، يجب أن تكون هذه فرصة العديد من البلدان النامية التي تتوفّر فيها هذه الأشياء الثلاثة بكثرة. لكن هل سيمكنها اغتنامها؟”.
ويستخدم الهيدروجين الأخضر الكهرباء المتجددة المتولدة من الطاقة الشمسية أو الرياح أو حتى الطاقة المائية أو الطاقة الحرارية الأرضية، بتكسير المياه إلى مكوناتها عن طريق التحليل الكهربائي. ولا يتوفر اليوم أي إنتاج عالمي للهيدروجين الأخضر تقريبا، ولكن الإثارة المحيطة به بدأت تتزايد منذ 2020. أما الطريقة المثالية فتشمل استخدام مصادر الطاقة المتجددة الرخيصة لإنتاج وقود خالٍ من الكربون، وتوفر إمكانية إزالة الكربون من الصناعة الثقيلة وتوفير الوقود المستدام للسفن والطائرات. لكن الكميات الهائلة من الكهرباء المتجددة المطلوبة تتطلب بلدانا ذات مساحات شاسعة من الأراضي المسطحة والخالية في معظمها من السكان.
واجتمعت شركة الطاقة النظيفة الإماراتية مصدر وشركة إنفينتي المصرية للطاقة والمطور الألماني كونجنكتا، في شهر مارس الماضي، ووقعت اتفاقية أولية لمشروع هيدروجين أخضر بطاقة 10 جيغاوات وبقيمة 34 مليار دولار في موريتانيا. ولا يتجاوز إجمالي الناتج المحلي للدولة الواقعة في شمال غرب أفريقيا 10 مليارات دولار، ولا تتجاوز قدرة توليد الطاقة فيها 0.5 جيغاوات. ولا نبالغ إن قلنا إن هذا المشروع يشكل تحولا في هذا المجال.
وليس هذا مخطط الهيدروجين الوحيد في موريتانيا، حيث تعمل شركة بريتيش بتروليوم البريطانية العملاقة للنفط وشركة توتال إنرجيز الفرنسية ومجموعة شاريوت وسي دبليو غلوبال على إنجاز مشاريع أخرى يمكن أن تصل في المجموع إلى 80 جيغاوات وتقدر استثماراتها بـمئات المليارات من الدولارات.
ويبلغ عدد سكان ناميبيا، الواقعة في جنوب غرب أفريقيا، 2.5 مليون نسمة وناتجها المحلي الإجمالي أعلى بقليل من موريتانيا. كما أن ساحلها على المحيط الأطلسي طويل ولها منطقة صحراوية واسعة. وتخطط شركة هايفين هيدروجين إنرجي، مع مساهمين أفارقة وألمان، لبناء مصنع هيدروجين فيها بقيمة 10 مليارات دولار.
كما أعلن أكثر منتجي الطاقة شهرة في القارة (جنوب أفريقيا ومصر والمغرب وأنغولا) عن مشاريعهم الخاصة. ويرى الباحث ميلز أن تصريحاتهم الحالية تدل على أن أفريقيا لن تكون في مقدّمتها سوى أوروبا بحلول أوائل 2030 من ناحية إنتاج الهيدروجين الأخضر. وتتمتع موريتانيا ومصر والمغرب بميزة القرب من أوروبا التي من المقرر أن تكون أكبر سوق استيراد على مستوى العالم. ومن المتوقع أن تسعى اليابان وكوريا الجنوبية الأبعد للحصول على إمدادات من الشرق الأوسط وأستراليا.
ويرى الباحث ميلز، وهو الرئيس التنفيذي لشركة قمر للطاقة ومؤلف كتاب “أسطورة أزمة النفط”، أن هذه المشاريع الضخمة ستعيد تشكيل البلدان المضيفة بشكل جذري. لكنها تواجه تحديات عديدة، حيث لن تدرّ نفس الثروة السهلة مثل النفط والغاز، ولكن إمكانية التنمية أوسع وأكثر استدامة.
أولا، يوجد تحد بسيط يكمن في تقديم مثل هذه الاستثمارات الضخمة في بلدان ذات بنية تحتية وخبرة محدودتين. ويعدّ هذا في صالح دول شمال أفريقيا وجنوبها. لكن كان من الصعب توقيع عقود الشراء طويلة الأجل الضرورية لدعم التمويل. وتبقى السوق ناشئة، وينتظر المستخدمون ليروا كيف تتقدم المشاريع وتنخفض التكاليف. ويحتاج المطورون، من أجل تنفيذ مشاريعهم، إلى شراء المعدات بكميات كبيرة بحيث يمكن أن تنخفض التكاليف. وينتظر صانعو المحلل الكهربائي الطلبات قبل تجهيز خطوط الإنتاج. ويبدو هذا الإشكال مثل مشكلة الدجاجة والبيضة.
ثانيا، تواجه أفريقيا منافسة كبيرة، حيث تتمتع أستراليا والبرازيل وشيلي وشبه الجزيرة العربية بمزايا مماثلة للأراضي الساحلية ذات الكثافة السكانية المنخفضة والشمس والرياح القوية والاقتصادات الأكثر رسوخا والخبرة الفنية.
لكن المحلل الاقتصادي يرجح أن يكون التهديد الأكبر متأتيا من الولايات المتحدة التي تمتلك أراضي خالية وتهب رياح قوية في غربها الأوسط وتغذّي الشمس جنوبها الغربي. وتتمتع بصناعة طاقة ضخمة ومهارات عالية مع وفرة في التمويل والمواهب الريادية. ويقدم قانون خفض التضخم الذي أصدره الرئيس جو بايدن مساعدات سخية لإنتاج الهيدروجين، تصل إلى 3 دولارات للكيلوغرام الواحد، مما يعني أنها يمكن أن تكون مجانية تقريبا في مواقع مواتية بحلول الثلاثينات.
◙ مسألة كيفية تحويل البلدان الأفريقية لإمكانات الهيدروجين إلى ذهب تبقى أكبر تحدّ حيث ستكون الصناعة مكلفة وتنافسية، وسينفر المستثمرون إن تقرر فرض ضرائب كبيرة
ويصعب تخيّل استمرار هذا السخاء، ونتوقع أن يصبح الإنتاج باهظ الكلفة إذا توسع الهيدروجين الأخضر وتحول إلى صناعة كبيرة. لكن أميركا هي الآن أرض الفرص بينما يتواصل خطر تأجيل الباعثين لمشاريعهم الأفريقية حتى تتوسع السوق. ثالثا، توجد مسألة كيفية تحويل البلدان الأفريقية لإمكانات الهيدروجين إلى ذهب، حيث ستكون الصناعة مكلفة وتنافسية. وسينفر المستثمرون إن تقرر فرض ضرائب كبيرة أو المطالبة بأسهم حكومية.
ويجب على دول أفريقيا ضمان استخدام بعض الهيدروجين على الأقل لتوليد القيمة محليا وليس للتصدير فقط. ومن المهم التذكير بأن غاز الهيدروجين خفيف ومعرض للتسرب، ويبقى نقله الدولي مكلفا. وتخطط معظم المشاريع المعلنة لتحويله إلى أمونيا، وهي مكون للأسمدة ومادة أولية كيميائية مهمة يسهل نقلها. ويمكن للمزارعين الأفارقة بالتأكيد أن يعتمدوا المزيد من الأسمدة. كما يمكن استخدام الهيدروجين في تحويل خام الحديد إلى حديد قابل للاستخدام، وفي صنع الوقود الصناعي.
ويختتم روبن ميلز حديثه بالقول “على الرغم من هذه التحديات يبقى المستثمرون الخليجيون، مثل شركة أيميا باور الإماراتية الخاصة وأكوا باور السعودية ومصدر، مهتمين بصناعة الهيدروجين في القارة. وبينما تبرز الشركات المحلية والأوروبية والأسترالية في هذا القطاع، يبرز غياب الصفقات مع الصين والولايات المتحدة واليابان. وتتواجد فرص لشراكات مثمرة، وتجارة طاقة مختلفة عن النماذج السابقة”.
العرب