تناقش مارثا هودز، في مقابلة معها، كتابها الصادر حديثًا عن تجربتها الخاصة في إطار العملية التي نفّذتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في أيلول/سبتمبر 1970.
مارثا هودز أستاذة أميركية تدرّس مادة التاريخ في جامعة نيويورك، ومؤلّفة كتب حائزة على جوائز، من بينها: Mourning Lincoln (رثاء لينكون)، وThe Sea Captain’s Wife: A True Story of Love, Race, and War in the Nineteenth Century (زوجة القبطان: قصة حقيقية عن الحب والعرق والحرب في القرن التاسع عشر)، وWhite Women, Black Men: Illicit Sex in the Nineteenth-Century South (نساء بيض ورجال سود: الجنس غير المشروع في الجنوب خلال القرن التاسع عشر). وهي حائزة على منح من مؤسسة غوغنهايم، والمؤسسة الوطنية للعلوم الإنسانية، وجامعة هارفرد، ومؤسسة وايتينغ، ومركز كولمان للباحثين والمؤلّفين في مكتبة نيويورك العامة. أجرت “ديوان” مقابلة معها أواخر تموز/يوليو لمناقشة كتابها الحديث بعنوان My Hijacking: A Personal History of Forgetting and Remembering (قصة اختطافي: تاريخ شخصي من النسيان والتذكُّر)، حول تجربتها على متن إحدى الطائرات الثلاث التي اختطفتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بشكل متزامن في أيلول/سبتمبر 1970. أُدرج كتابها في قائمة “خيار المحرّر” في صحيفة نيويورك تايمز في شهر تموز/يوليو.
مايكل يونغ: يبدو كتابك للوهلة الأولى عبارة عن مذكّرات تروي حادثة تعرّضك للخطف، عندما كنتِ فتاة صغيرة، مع عدد من الركاب في أيلول/سبتمبر 1970 على يد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ونقلك إلى مطار في منطقة نائية في الأردن. لكن الكتاب في الواقع أكثر من ذلك بكثير، ويرتبط بعملك كمؤرّخة. هلّا شرحتِ لنا هدفك المتوخّى من هذا الكتاب، ولماذا اتّبعتِ هذا المسار؟
مارثا هودز: أعتبر هذا الكتاب أشبه بمذكرات تستند إلى أبحاث عميقة، إذ يجمع بين مهارات المؤرخ المحترف ومساعي كاتب المذكرات. اخترتُ للكتاب عنوان My Hijacking (قصة اختطافي) لأنه يروي قصتي أنا. فتجربة كل شخص احتُجز كرهينة تستند إلى عدد كبير من المتغيّرات، بدءًا من مقعد الشخص على متن الطائرة ووصولًا إلى وجهات نظره حول إسرائيل وفلسطين. أرفقتُ بالعنوان عبارة “تاريخ شخصي” لأن عائلتي علقت في دوّامة هذا الحدث التاريخي العالمي عندما كنتُ في الثانية عشرة من العمر، وأضفتُ أنه تاريخ من “النسيان والتذكُّر”، لأنني لم أنطلق في رحلة البحث عن كل ما أمكنني تذكّره فحسب، بل أيضًا عن كل ما محوته من ذاكرتي أو لم أعرفه أساسًا.
يروي هذا الكتاب إذًا قصة مؤرّخة انكبّت على التحقيق في ماضيها، ويُعدّ رحلة عبر الذاكرة والتاريخ. كنت أحتفظ بدفتر يوميات عندما كنت في الثانية عشرة من عمري، وعلى الرغم من أنني كتبت فيه يوميًا في الصحراء، اكتشفت أنني غفلت عن ذكر حوادث أساسية مخيفة لم أنجح أبدًا في نسيانها، مثل رؤية الخاطفين يفخّخون الطائرة بالمتفجرات في الليلة التي هبطنا فيها، أو حين صوّب أحد الفدائيين مسدّسه نحوي مباشرةً. وأدركت أنني قمت نسجت التفاصيل في دفتر يومياتي لإخبار قصة يمكنني تحملّها، أي قصة شعرتُ، وأنا طفلة، بأن والديّ يمكنهما التعايش معها. بعد أن عدنا أنا وأختي إلى الديار، لم تأتِ عائلتي أبدًا تقريبًا على ذكر عملية الخطف. وبعد مرور حوالى خمسين عامًا، بدأت التواصل كمؤرخة بالغة بالفتاة الصغيرة التي كانت تبلغ اثني عشر عامًا في العام 1970، والتي كانت مصمّمة جدًّا على نسيان هذه الحادثة.
يونغ: استوقفني في الكتاب عدم اتّخاذك موقفًا قاسيًا من الخاطفين الفلسطينيين، بل يمكن القول إن العكس هو ما حصل نوعًا ما. هل يمكنك تفسير هذا الموقف، ولا سيما أن معظم المؤلّفين، أو الركاب السابقين، كانوا سيتبنّون ربما مقاربة مختلفة جدًّا؟
هودز: بصفتي مؤرخة، لدي اهتمام كبير بوجهات النظر المتعددة، والفروقات الدقيقة، والتعاطف، وفهم الصراعات العالمية من منظور إنساني. خلال السنوات التي تلت حرب العام 1967، توافد اليهود الأميركيون إلى إسرائيل، لكننا أنا وأختي كنا مختلفتَين عن الكثير من اليهود الأميركيين الآخرين الذي كانوا على متن طائرتنا. فقد نشأنا في بيت علماني واعتدنا قضاء فصل الصيف في إسرائيل لأن أمّنا، التي كانت راقصة في شركة مارثا غراهام للرقص، قد انتقلت إلى هناك للمساعدة في تأسيس أول فرقة للرقص الحديث في إسرائيل، وهي شركة باتشيفا للرقص.
بالطبع، شعرتُ بارتباط عميق بإسرائيل لأن أمي عاشت هناك خلال طفولتي. وحين كنت على متن الطائرة المختطفة، بدأت أتعرّف إلى تاريخ كنت أجهله. في أواخر الستينيات، كنا أنا وأختي في سن الثانية عشرة وسن الثالثة عشرة على التوالي، أي في بدايات تشكّل وعينا السياسي، لذا أولينا اهتمامًا بقضية خاطفينا. نُظّمَت تجمعات مدرسية حول حركة الحقوق المدنية، وشاركنا في الاحتجاج ضدّ حرب فيتنام، وغزو الرئيس ريتشارد نيكسون لكمبوديا. وعلى متن الطائرة، أدركنا ببساطة أن خاطفينا بشرٌ بكل ما للكلمة من معنى، وكان معظمهم لطفاء مع الأطفال. لعب أحد الفدائيين لعبة القفز على الحبل مع الأطفال في الصحراء، وعندما رأى أحدهم أختي تمسح دموعها، قال لها: “لا تبكي، فنحن لدينا أطفال أيضًا”، وبدا تصرّفه هذا أبويًا.
يونغ: في إحدى المرات، تصدَّيتِ لسردية أشارت إلى أن الخاطفين فصلوا بين اليهود وغير اليهود، وقد تذكّر ركابٌ هذه الواقعة لاحقًا بأنها أعادت إلى الأذهان صورًا من الهولوكوست. على الرغم من ذلك، خصّصت حيزًا مهمًا لتصويب هذه القصة. لمَ فعلت ذلك، ولا سيما أن هذه الخطوة قد تطرح مشاكل وسط المناخ السياسي المنقسم الذي نشهده اليوم في ما يتعلق بالعلاقات الإسرائيلية الفلسطينية؟
هودز: بالنسبة لي، كان هذا الأمر أحد أكثر الأجزاء إثارةً للاهتمام في بحثي، لأن إحدى الأفكار المغلوطة المتداولة عن عمليات الخطف هذه كانت أن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين فصلت اليهود عن غير اليهود. أعتقد أن سبب ديمومة هذه الرواية هو أن ما اختبره الرهائن في الصحراء كان مربكًا. في الواقع، سأل الخاطفون في أوقات مختلفة كل واحد منا إن كان يهوديًا أم لا لأن أحد أهداف الجبهة الشعبية كان تبادل الرهائن مع فلسطينيين محتجزين في السجون الإسرائيلية، لذا كانت هذه طريقة لتحديد صلة كل رهينة بإسرائيل، وبالتالي قيمة كل شخص كرهينة. لكن كان لهذا السؤال أثر مرعب وصادم على الكثير من الرهائن، وبالتأكيد بدا الأمر وكأنه فرزٌ لليهود. في ليلتنا الثانية في الصحراء، أفرج الفدائيون عن مجموعة كبيرة من غير اليهود من ركاب طائرتنا. لكنهم أبقوا قيد الاحتجاز أيضًا عددًا كبير من غير اليهود من ركاب طائرتنا، وأفرجوا في الليلة نفسها عن ركاب يهود من طائرة مختطفة أخرى تابعة للناقل الوطني السويسري. وبعد الإفراج عن غالبية الرهائن، بقي حوالى خمسين شخصًا قيد الاحتجاز لمدة أسبوعَين، وثلثاهم تقريبًا لم يكونوا من اليهود.
تمثّل الهدف النهائي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في إقامة دولة ديمقراطية وعلمانية وتعددية تتّسع لليهود والمسيحيين والمسلمين. وكان جورج حبش، مؤسس الجبهة الشعبية وزعيمها، قد قال لأحد الصحافيين مؤخرًا إن منظمته لا “تكنّ العداء لليهود كيهود”، ولا “تهدف إلى إبادتهم أو رميهم في البحر”. فقد ميّزت الجبهة الشعبية بين اليهود والصهاينة، معلنةً (آنذاك): “نحن لا نكنّ العداء لليهود، ولكننا سنحارب الصهاينة لأنهم أقدموا على غزو وطننا واحتلاله”. فهم بعض الرهائن هذا الأمر، وأخبروا الصحافيين أن الفدائيين “يحبون اليهود ولكن لا يحبون الصهاينة”، وأنهم “يستطيعون العيش جنبًا إلى جنب مع اليهود طالما أنهم غير صهاينة”. لكن هذا التمييز قد يكون محفوفًا بالمشاكل. فقد أشار ويليام كواندت، العضو في مجلس الأمن القومي، إلى أن الجبهة الشعبية “لم تسأل الناس عن ميولهم السياسية، بل سألتهم ببساطة عن دينهم”، وهذا “ليس أمرًا ذكيًا تفعله إذا كنت تسعى إلى مكافحة وجهة النظر السائدة” عن معاداة السامية.
يونغ: تبدو أختك الكبرى كاثرين شخصية مؤثّرة في مذكراتك، وهي إلى حدٍّ ما بطل غير مُعلَن. كذلك، تقدّمينها على أنها الشخصية النقيضة في ما يتعلق بذكرياتك الخاصة عن عملية الخطف. هلّا وصفتِ المكانة التي تحتلّها أختك في حياتك وفي سرديّتك والدور الذي أدّته فيها؟
هودز: تحمّلت كاثرين، بصفتها أختي الكبرى، مسؤوليتنا نحن الاثنتَين. فهي أجابت على أسئلة الفدائيين، وخطّطت للحؤول دون فصلنا عن بعضنا البعض، وتحدّثت إلى وسائل الإعلام بعد الإفراج عنا. كانت بطلتي، وما زالت، لكن تسميتها بالبطلة لا يفي تجربتها حقّها. فهي كانت طفلة أيضًا، ولم يحمِها أحد. ولأنها شعرت بأن عليها أن تكون متنبّهة للغاية، بات أصعب عليها محو ذكريات الخطف. وحين عدنا إلى ديارنا، أرادت أختي التحدّث عن الخطف، لكننا أنا وأبي فضّلنا التزام الصمت. وحين تكلّمتُ معها في هذا الموضوع أثناء عملي على الكتاب، أُعجبت بصدقها في التعبير عن التفاعل المعقّد بين الشخصي والسياسي. فعلى حدّ قولها (المذكور في الكتاب): “من الصعب أن يعود المرء بالزمن إلى حدث مرعب اختبره في الصغر، بعد أن كبر وأصبح يفهم السياق السياسي”. وكما أخبرتني بعد نشر الكتاب: “أنتِ نسيتِ وأردت أن تتذكّري مجدّدًا. أما أنا فكنت أتذكر وأردتُ أن أنسى”.
يونغ: بعيدًا عن الكتاب، زرتِ الشرق الأوسط، وتحديدًا إسرائيل والأردن، بعد مرور عقود كثيرة على عملية الخطف. ما الانطباعات التي تركتها في نفسك هذه الزيارة، سواء حول ذكرياتك عن الخطف، أو أكثر من ذلك، حول منطقة يبدو أنها لم تخرج بعد من حالة الاضطرابات التي اختبرتها في العام 1970؟ ولماذا استغرقك الأمر هذه الفترة الطويلة كي تعودي إلى المنطقة؟
هودز: في الصيف الذي تلا عملية الخطف، عدنا أنا وأختي إلى إسرائيل للمرة الأخيرة خلال طفولتنا. وبعد أن رجعت أمي إلى الولايات المتحدة في أواخر السبعينيات، لم أشعر أبدًا بالرغبة في العودة. لكن خلال عملي على الكتاب، أدركت أن علي زيارة المنطقة مجدّدًا، بعد أن انقضى خمسون عامًا تقريبًا. كذلك، أقرنتُ هذه الرحلة بزيارة إلى الأردن، ومن ضمنها رحلة إلى الصحراء. في إسرائيل، عدتُ إلى الحي الذي عشنا فيه مع أمي، لمحاولة التفكير في ما عناه لي واقع أن أهلي المطلّقَين عاشا بعيدَين جدًّا عن بعضهما البعض خلال طفولتي. أما في الأردن، فقد استرجعتُ الذكرى الأقوى لعملية الخطف. وبصفتي كاتبة مذكرات، شكّلت هذه الزيارات جزءًا من عمليةٍ سعيت خلالها إلى بناء صلة وصل بين هويتي الراهنة كمؤرخة والطفلة البالغة اثنَي عشر عامًا التي كنتُها في الماضي.
على المستوى السياسي، كانت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في العام 1970 من ضمن أقلية من القوى الفلسطينية التي تبنّت استراتيجية الخطف، وقد أضرّ احتجازها رهائن من المدنيين بقضيّتها على المستوى الدولي. لكن عمليات الخطف هذه لفتت أيضًا الأنظار إلى قضية الفدائيين، وهذا كان من بين أهدافهم الأساسية. في طفولتنا، شغلتنا أنا وأختي مسألة ما زالت شائكة حتى يومنا هذا، وهي ما إذا من الممكن أن يتوصّل الجميع إلى طريقة للعيش معًا على الأرض نفسها. في العام 1970، خلصنا – كما قالت أختي خلال مقابلة حين عدنا إلى الديار – إلى أن ثمة الكثير من الغضب والكراهية، ما يجعل التعايش مستحيلًا.
مركز كارنيجي