تشكل الأصوات المرتقبة معضلة للمرشد الأعلى: هل ينبغي عليه استبعاد المرشحين بقوة ويزيد بذلك نفور الرأي العام، أم يعرّض نفسه لخطر هيمنة خصومه السياسيين على “المجلس”؟
أثبتت الدورة الانتخابية الأخيرة في إيران أنها مخيبة للآمال. ففي عام 2021، استبعد “مجلس صيانة الدستور” التابع للنظام – وهو هيئة مكوّنة من اثني عشر عضواً يعيّنهم المرشد الأعلى علي خامنئي بشكل مباشر أو غير مباشر – العديد من الشخصيات البارزة من الترشح للرئاسة وترك الفائز النهائي إبراهيم رئيسي من دون منافسة فعلية. وأدى الرفض الشديد للمرشحين المعتدلين والإصلاحيين إلى لامبالاة متزايدة لدى الرأي العام تجاه السباق الانتخابي، مما أدى إلى أدنى نسبة مشاركة في التاريخ.
في الأسبوع الماضي، بدأت إيران دورة انتخابية جديدة تكتمل في آذار/مارس 2024، عندما سيختار الناخبون ممثلين لمؤسستين هما “المجلس” و”مجلس خبراء القيادة”، اللذين يُنظر إليهما على أنهما ذات تأثير حقيقي ضئيل على سياسات البلاد. ومع ذلك، يستحق موسم الحملة المقبلة مراقبة عن كثب لما قد يكشفه عن نوايا المرشد الأعلى، الذي يجب أن يقرر كيفية الموازنة بين المخاوف بشأن الإقبال المنخفض جداً، والخلافة النهائية، والاستراتيجيات السياسية الإصلاحية، وشرعية النظام في أعقاب الاحتجاجات الجماهيرية.
“المجلس” في تراجع
على الرغم من أن مجلس النواب المكون من 290 عضواً هو أحد الفروع الرئيسية الثلاثة للحكم في الجمهورية الإسلامية، إلا أنه لم يضطلع منذ فترة طويلة سوى بأهمية ثانوية في وضع سياسات النظام، لاسيما فيما يتعلق بالقضايا النووية والعلاقات الخارجية. وقد تراجع دوره أكثر في السنوات الأخيرة، وأصبح الكثير من المواطنين غير مبالين بتركيبته ومداولاته. ووفقاً لاستطلاع أجرته وكالة الأنباء الحكومية الرسمية في 25 تموز/يوليو، يشعر 68 في المائة من الإيرانيين بعدم الرضا عن البرلمان، ولم تستطع الأغلبية تسمية رئيسه الحالي.
ومع ذلك، لا يزال “المجلس” يلعب دوراً في بناء التوافق في الآراء حول القرارات المهمة. فالمسؤولون يقومون في بعض الأحيان بإطلاع المشرعين على القضايا الرئيسية مثل وضع المحادثات النووية. وفي حالات أخرى، يُستخدم “المجلس” لعرض الأفكار أو التشديد على التوجه الفكري الحالي للنظام. ومن الأمثلة البارزة على ذلك “خطة العمل الاستراتيجية لرفع العقوبات وحماية مصالح الأمة الإيرانية”، وهي مبادرة اتخذها مجلس النواب في كانون الأول/ديسمبر 2020 بهدف تعزيز موقف خامنئي المتطرف من المفاوضات النووية من خلال الضغط على الحكومة لاتخاذ خطوات جوهرية (على سبيل المثال، زيادة تخصيب اليورانيوم، والحد من المراقبة الخارجية) إذا لم يتم رفع العقوبات الدولية. وفي ذلك الوقت، ألقى الرئيس حسن روحاني باللوم على هذا التشريع في عرقلة محاولات إحياء الاتفاق النووي لعام 2015. ولكن في أيار/مايو من هذا العام، أعلن خامنئي أن القانون “أنقذ البلاد من الارتباك بشأن القضية النووية”.
هل سيكون “مجلس خبراء القيادة” القادم هو الحاسم؟
من المقرر أيضاً أن يصوت الإيرانيون لممثليهم في “مجلس خبراء القيادة”، وهو هيئة لا تمارس سوى تأثير ضئيل جداً على حياتهم اليومية باستثناء عملية أساسية واحدة، وهي اختيار مرشد أعلى جديد. فـ”مجلس خبراء القيادة” مكلف بموجب الدستور بتعيين المرشد الأعلى التالي عند وفاة المرشد الحالي وإقالة مرشد إذا أصبح غير قادر على أداء واجباته. ونظراً لتقدم خامنئي في السن (84 عاماً)، قد يكون “مجلس خبراء القيادة” التالي هو الذي يعين رسمياً خليفته في مرحلة ما خلال فترة ولايته التي تمتد على ثماني سنوات. وبالطبع، سيُتخذ القرار الفعلي في مجالس أخرى، ولكن “مجلس خبراء القيادة” سيضطلع على الأرجح بدور أساسي في إضفاء الشرعية على عملية الخلافة والمرشح النهائي.
ولكن باستثناء هذا الإعلان النهائي، يتم استبعاد الرأي العام عموماً من أعمال “مجلس خبراء القيادة” وقراراته وملاحظاته. فهذا المجلس، الذييضم ثمانية وثمانين عضواً – جميعهم رجال، وجميعهم رجال دين باستثناء عضو واحد – يُنظر إليه كهيئة خاضعة لسيطرة خامنئي على الرغم من أنه مكلف دستورياً بالإشراف عليه. ويرجع ذلك جزئياً إلى أن “مجلس صيانة الدستور” المذكور أعلاه يقيّد بشكل كبير عملية اختيار المرشحين الذين يُسمح لهم بالترشح لمقاعد “مجلس خبراء القيادة” (انظر أدناه). وفي عام 2018، نشر السياسي الإصلاحي مهدي كروبي رسالة مفتوحة اعتبر فيها أن “مجلس خبراء القيادة” أصبح “مجلساً احتفالياً لا يقوم سوى بمدح الزعيم”. وأثرت سن أعضائه على شرعيته أيضاً – فخلال انتخابات عام 2016، كان عمر أكثر من 90 في المائة من المرشحين الفائزين يزيد عن الخمسين عاماً، والرئيس أحمد جنتي هو الآن في السابعة والتسعين من عمره، مما أدى إلى النكتة الإيرانية الشائعة بأن متوسط عمر أعضاء «المجلس» “ميت”.
معالجة الإقبال المنخفض
ستكون انتخابات 2024 هي الأولى في إيران منذ موجة الاحتجاجات الهائلة التي أشعلت فتيلها وفاة مهسا أميني، وبالتالي قد يكون للإقبال على هذه الانتخابات قيمة رمزية قوية إلى حد كبير. وغالباً ما يناقش مسؤولو النظام المشاركة العامة في الانتخابات على أنها “دليل” على قاعدة دعم الجمهورية الإسلامية. وبالمثل، اعتبر خامنئي في خطاب ألقاه في 4 حزيران/يونيو أن الانتخابات مهمة جداً للنظام، محذراً من أن “أعداء” إيران يحاولون خلق حالة “يأس” وجو من التشاؤوم لدى المواطنين تجاه التصويت.
لكن المرشد الأعلى هو المسؤول الوحيد عن عداء الرأي العام في هذا السياق. ففي عام 2016، استبعد “مجلس صيانة الدستور” الذي يدور في فلك المرشد الأعلى 80 في المائة من المرشحين الذين تقدموا للترشح لانتخابات “مجلس خبراء القيادة” في ذلك العام، حتى أنه قد تم رفض المرشح الإصلاحي حسن الخميني، حفيد مؤسس الجمهورية الإسلامية آية الله روح الله الخميني. وكذلك، تم استبعاد نصف المرشحين المقترحين لانتخابات “المجلس” لعام 2020، من بينهم العديد من المشرّعين الحاليين. وساهمت هذه الخطوات بلا شك في جعل الإقبال على تلك الانتخابات البرلمانية الأدنى منذ ثورة 1979. فلم يشارك في الانتخابات سوى 42 في المائة من الناخبين على الصعيد الوطني و26 في المائة فقط في طهران.
وللإيحاء بعملية أكثر شمولاً، غيّر النظام عملية التسجيل لانتخابات العام المقبل. فبدلاً من بدء التسجيل قبل شهرين من يوم الانتخابات وإجراء عملية تدقيق واحدة يتولاها حصرياً “مجلس صيانة الدستور”، بدأ التسجيل في التصويت لـ “المجلس” في 7 آب/أغسطس، أي قبل سبعة أشهر تقريباً من موعد الانتخابات. وتضمنت العملية الجديدة فترة “تسجيل مسبق” أمدها أسبوع واحد قدم خلالها المرشحون معلومات ووثائق ليخضعوا للتدقيق الأولي من قبل أجهزة أمن النظام. ويترك ذلك لـ “مجلس صيانة الدستور”عدداً أقل من المسجلين للتدقيق في [آرائهم](واستبعادهم) في تشرين الأول/أكتوبر، مما قد يحد من الانتقادات العامة.
ووفقاً لمسؤولي النظام، سجل أكثر من 48000 مرشح أنفسهم بشكل مسبق في انتخابات “المجلس” – أربعة أضعاف العدد الذي شوهد في عام 2020، ومن المفترض أنه أعلى رقم قياسي على الإطلاق. كما أكدت السلطات أن 14 في المائة من المسجلين هم من النساء. وفي 15 آب/أغسطس، أشار وزير الداخلية أحمد وحيدي إلى هذه الأرقام كدليل على أن انتخابات العام المقبل ستكون “حماسية”، مع أقصى قدر من المشاركة الشعبية.
معضلة خامنئي
عند مناقشة انتخابات عام 2024، ركزت وسائل الإعلام الإيرانية على سؤالين حتى الآن. السؤال الأول هو ما إذا كان الإصلاحيون سيشاركون في العملية أم سيقاطعونها. وحتى كتابة هذه السطور، لا يزال عدد السياسيين الإصلاحيين الذين سجلوا أنفسهم مسبقاً غير واضح. فقد زعمت وسائل الإعلام المتشددة المرتبطة بـ “الحرس الثوري الإسلامي” الإيراني (على سبيل المثال، “فارس نيوز” و”تسنيم”) أن هذا العدد كان هائلاً، لكن صحيفة “اعتماد” الإصلاحية البارزة دحضت تقارير وسائل الإعلام المتشددة. وفي الواقع، اتهمت الصحيفة وسائل الإعلام المتشددة بشن “حرب نفسية” على الإيرانيين الإصلاحيين وأكدت أن العديد من المرشحين الإصلاحيين لم يسجلوا أنفسهم بسبب الإقصاء الكبير الذي شهدته الانتخابات السابقة.
أما السؤال الثاني فهو ما إذا كان الرئيس السابق حسن روحاني ورئيس “المجلس” السابق علي لاريجاني سيشاركان بشكل ناشط في الدورة الحالية. فمع أن أياً منهما لم يترشح لمقعد في “المجلس”، يعتقد العديد من المراقبين أن لاريجاني يعمل وراء الكواليس على إنشاء كتلة من المؤيدين في البرلمان الذين يمكن أن يشكلوا قاعدة داعمة لسلطته قبل الانتخابات الرئاسية لعام 2025 (على وجه الخصوص، مُنع لاريجاني من الترشح عام 2021). وكذلك، توقعت العديد من التقارير بأن روحاني يعمل على تشكيل كتلة خاصة به في “المجلس” وقد يفكر في الترشح لمقعد في “مجلس خبراء القيادة”.
وفي عام 2021، منع خامنئي و”مجلس صيانة الدستور” المرشحين الرئاسيين البارزين من الترشح لضمان فوز رئيسي في السباق – ربما بهدف إعداده تدريجياً ليصبح المرشد الأعلى القادم. وبقيامه بذلك، بدا خامنئي على استعداد لتحمّل الآثار الجانبية المتمثلة بتقويض شرعية النظام ودعم الرأي العام بصورة أكثر. فهل سيكرر هذا النمط في الدورة القادمة؟
من ناحية، قد يجعل خامنئي الانتخابات المقبلة أكثر شمولاً على أمل استعادة بعض الدعم الشعبي وتعزيز المصالحة الوطنية بعد أشهر من الاضطرابات. وقد يساعده هذا النهج أيضاً على التصالح مع الشخصيات البارزة المختلفة التي خاصمها خلال العقد الماضي، مع شل قواعد المعارضة المحتملة.
ومن ناحية أخرى، قد يخشى المرشد الأعلى أن تؤدي نسبة المشاركة الكبيرة في عملية انتخابية شاملة إلى قيام “مجلس” يهيمن عليه البراغماتيون والإصلاحيون، الذين قد يكونون أكثر تشكيكاً في نهج النظام المتشدد الحالي وأكثر استعداداً لتحدي حكومة رئيسي. وإذا كان خامنئي يسعى إلى إعطاء الأولوية لمناورات الخلافة على المدى الطويل، فقد يكون أقل ميلاً لمساعدة منافسيه على تحقيق إنجازات سياسية في البرلمان أو “مجلس خبراء القيادة”، لأن ذلك من شأنه أن يُحسّن وضعيتهم في صراع العروش في نهاية المطاف.
عومير كرمي
معهد واشنطن