قتل يفغيني بريغوجين، حسبما أكدت وسائل إعلام روسية وكذلك مصادر من منظمته العسكرية «فاغنر». جرى ذلك بعد تمام الشهرين على قيادته تمرّدا على رئيسه (وصديقه) فلاديمير بوتين. كان ذلك في اليوم نفسه الذي أعلنت فيه وزارة الدفاع الروسية تعيين قائد جديد للقوات الجوية، بديلا عن سيرغي سوروفيكين، حليف بريغوجين في الجيش، المشهور باسم «جنرال القيامة» والذي اختفت آثاره بعد محاولة الانقلاب القصيرة الآنفة. تزامن ذلك أيضا مع تباحث وفد عسكريّ روسيّ زائر إلى ليبيا مع الجنرال خليفة حفتر، حليف روسيا، الذي ما يزال يتلقى دعم عناصر «فاغنر» هناك.
جاء الحدث أيضا بعد يوم من خطاب بوتين لقمة «بريكس» في جوهانسبرغ، الذي قال فيه إن كل ما يهمّه الآن هو «إنهاء الحرب في أوكرانيا» وهي الحرب التي تسببت نتائجها، عمليا، بتصاعد غضب بريغوجين وقادة وعناصر منظمته، ضد وزارة الدفاع الروسية، وضد بوتين شخصيا، وأدت للتمرّد الشهير.
في طريقها من موسكو إلى سانت بطرسبورغ، مقر المجموعة، هبطت طائرة بريغوجين الخاصة من طراز «ايمبراير ليغاسي 600» البرازيلية الصنع، فجأة من ثلاثين ألف متر إلى 8800 متر، وهو ما عزته مصادر من منظمة «فاغنر» ووسائل إعلام غير روسية، لقصفها بصاروخين مضادين للطائرات، واستغرق الأمر ثلاث دقائق بين هبوطها وهي تلتهب بسرعة 234 مترا في الدقيقة وانفجارها على الأرض في إقليم «تفير».
قتل على الطائرة نفسها أيضا، دميتري أوتكين، مؤسس المنظمة العسكرية التي أخذت اللقب الذي اشتهر به «فاغنر» العلامة التجارية التي تمثل ميوله النازية (على اسم الموسيقار الألماني الشهير) والذي كان الشخص الثاني في المجموعة بعد بريغوجين، كما قتل فاليري تشيكالوف، مساعد بريغوجين، وهو أمر منطقي كون تحطم الطائرة ينهي حياة الأشخاص الذين يمكن أن يقودوا المجموعة.
رأى معلقون على الواقعة أنها رسالة من بوتين إلى من يفكرون بمعارضته أو تحديه، وخصوصا بعد أن كشفت محاولة الانقلاب القصيرة التي قادها بريغوجين عن شعبية له في الشارع وأوساط الحكم.
يتّسق هذا، طبعا، مع السيرة السياسية الطويلة لـ«قيصر الكرملين» منذ صعوده إلى قمة السلطة، وهي السيرة التي حفلت بأشكال تصفيات المعارضين (أو حتى المعترضين) في الداخل والخارج، بالتسميم أو السقوط من طوابق عليا، أو بأحكام السجن القاسية، ويتراكب خصوصا مع قضية بريغوجين، وصولا إلى عناصر منظمته، الذين أعلنت وزارة الدفاع الروسية، أمس، إنهاء شروط عقودهم، وهو ما يعني أنهم لم يعودوا محميين من قبل الوزارة.
غير أن هذا التحليل، الصحيح عموما، يتجاهل مسألة أن بوتين قام بالعفو عن بريغوجين ورجاله، وهو ما يعني أن كلمة الزعيم، التي يفترض أن تعتبر مهمة ضمن العلاقة مع مسؤوليه الكبار، تم كسرها والتراجع عنها، فهل هذا قرار يؤدي إلى ضعف مصداقية «القيصر» أمام القابضين معه على السلطة في أجهزة الجيش والأمن والبيروقراطية، أم أن زرع الخوف بين هؤلاء أهم من الحفاظ على الثقة بقائدهم؟ إذا كان هذا الجواب، فإنه يعتبر دليلا على تراجع في مكانة بوتين، ودلائل صراعات قوية داخل تلك الأجهزة بشكل لا يكفي لحادثة اغتيال بريغوجين أن تنهيه.
النقطة الأخرى التي تثير التساؤل في قرار بوتين اغتيال بريغوجين (والأغلب أن القرار صدر عنه شخصيا على عكس سيناريوهات بعض خبراء الشأن الروسي) هي: إذا كان الرئيس قويّا فعلا فلماذا لم يقم بمعاقبة بريغوجين بعد الانقلاب مباشرة، ولماذا يلجأ إلى هذه الطريقة الملتوية في التخلّص منه بدل محاكمته على عصيانه الصارخ لبوتين، وتهديده الخطير لتماسك أجهزة السلطة الروسية؟
أحد الأسئلة الكبيرة في كل ما حصل يتعلّق بالتشكيك في ذكاء بريغوجين. كيف آمن هذا الشخص الذي يؤمن بالقوة المحضة، والذي تمكن من الصعود الهائل من كونه لصا عنيفا محكوما بالسجن، ليصبح مليارديرا متخصصا بتقديم الخدمات الغذائية، ثم يغدو من بطانة بوتين الأقرب بحيث يشرف على وجباته الشخصية، وصولا إلى كونه مموّلا وزعيما لمنظمة مرتزقة عسكرية ترهب العالم، وقادرة حتى على إرهاب سيّد الكرملين شخصيا؟
يبدو أن هذا الأمر الواضح الذي غاب عن بريغوجين كان حاضرا لدى قائده العسكري أوتكين، الذي ظهر يتحدث إلى بريغوجين في شريط فيديو قائلا إنهم «سيذهبون إلى جهنم» وهو ما عاد لتكراره على مسامع جنوده في بيلاروسيا.
المؤكد أن الرجلين قضيا فعلا في «النار» وأن بريغوجين، الذي كان يستخدم رمز المطرقة الضخمة لطريقة التعامل مع «الأعداء» ويصف مؤسسته بـ«المفرمة» التي تقوم بهرس الخصوم، تحوّل هو نفسه إلى غرض للسحق، وانطبق عليه، ولكن بشكل مأساوي، المثل العربي: «طباخ السمّ يذوقه»!
القدس العربي