عبّر مراقبون كثيرون في الإعلام العربي عن تفاؤلهم بإعلان تجمع بريكس في القمة الخامسة عشرة التي انعقدت أخيرا في جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا، عن توسيع عضويته ليضم كلاً من الأرجنتين ومصر وإثيوبيا والسعودية والإمارات، باعتبارها خطوة ضرورية لإعادة صياغة أسس النظام العالمي اقتصادياً وسياسياً، ليصبح أكثر إنصافاً وعدالة، ويكسر الهيمنة الغربية بقيادة الولايات المتحدة على السياسات الدولية. وعلى الرغم من وجاهة بعض حجج هذا التقدير المتفائل، في ما يتعلق بالحاجة لتصويب وجهة الاقتصاد العالمي، وإصلاح توجّهات المؤسّسات المالية الدولية، ومواجهة التعنت الغربي في بعض القضايا السياسية الدولية أو العربية، فإنّ التحوّلات في توزيع مراكز القوة في النظام العالمي، وصعود ما يعرف بدول الجنوب، لا يحمل، في المجمل، أخباراً سارّة كما يتصوّرها بعضهم لواقع حقوق الإنسان، وحقوق الشعوب.
تأسّس تجمع بريكس عام 2001 وضمّ روسيا والصين والبرازيل والهند، وعقد أول اجتماعاته في 2009. وقد انضمّت جنوب أفريقيا إليه في 2010. يمثل أعضاء هذا التكتل حالياً 40% من سكان العالم، ويتحكّم في ربع حجم الاقتصاد العالمي، ومن بين الأعضاء ثلاثاً من أكبر الدول المصدّرة للطاقة في العالم. بينما دافعت جنوب أفريقيا عن التوسيع الأخير في عضوية “بريكس” عبّرت الهند والبرازيل عن خشيتهما من أن يعطي هذا التوسع انطباعاًَ بأنّ هذا التكتل مناوئ للولايات المتحدة. لكنّ الصين وروسيا تتطلعان إلى أن يشكل التحالف قطباً دولياً جديداً، يوازي تأثير الولايات المتحدة والغرب في العلاقات الدولية. والملفت أنّ أكثر من 30 دولة أخرى كانت حريصة على حضور القمّة في جنوب أفريقيا بصفة مراقب، وقد تقدّمت 20 دولة أخرى بطلب عضوية للتكتل، من بينها الجزائر، ونيجيريا، والمكسيك، وكوبا، والكونغو.
نشر الكاتب والإعلامي الأميركي من أصل هندي فريد زكريا، في العام 2008، كتابه “عالم ما بعد أميركا”، وحلّل فيه تداعيات الصعود الاقتصادي والسياسي لقوى أخرى في مناطق مختلفة من العالم، مثل الصين والهند والبرازيل، وما قد يمثله هذا الصعود من تهديدٍ للهيمنة الأميركية والغربية في العلاقات الدولية التي سادت في مرحلة ما بعد الحرب الباردة عقب انهيار جدار برلين، وتفكّك الاتحاد السوفييتي.
استطاعت روسيا والصين ترويج نفسيهما باعتبارهما نموذج حكم يمكن الاحتذاء به للدفع بالنمو الاقتصادي مع بقاء السلطوية
ويعكس الترحيب بتكتّل بريكس وتوسيع عضويته رغبة متزايدة لدى كثير من دول الجنوب لإحداث تغييرات نوعية في النظام العالمي الموروث من ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية، في ظل عدم استيعاب النظام المؤسّسي الدولي الراهن لتحولات توزيع القوة في العالم. وقد عبّر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، في كلمته في قمة جوهانسبرغ، عن ذلك، قائلاً إن “هياكل الإدارة العالمية اليوم تعكس عالم الأمس. تم إنشاؤها إلى حد كبير في أعقاب الحرب العالمية الثانية عندما كانت العديد من البلدان الأفريقية لا تزال تحكمها القوى الاستعمارية، ولم تكن حتى على طاولة المفاوضات”. ومع التسليم بأهمية إعادة النظر في هيكل المؤسسات الدولية، خصوصا المؤسّسات المالية الدولية، أو مواجهة سوء استخدام حق الفيتو في مجلس الأمن لعرقلة تأدية مؤسّسات الأمم المتحدة أدوارها، إلا أن تحقيق التمثيل المتوازن في عضوية مؤسّسات الأمم المتحدة، وفي مقدمتها مجلس الأمن، لا يعني أن مخرجاتها السياسية والأمنية والإنسانية ستكون في مستوى تطلعات الشعوب. وتكفي الإشارة إلى ما أحدثته الاعتبارات السياسية، والاستقطاب بين الدول، والتحالفات العابرة للحدود بين الكتل الجغرافية في إضعاف التوجّهات الحقوقية والإنسانية للجنة حقوق الإنسان، ثم مجلس حقوق الإنسان الذي حل محل اللجنة عام 2006. وقد ناقش أستاذ العلاقات الدولية ستيفن هوبجود، في كتابه “نهاية عصر حقوق الإنسان” الصادر عام 2015، الظروف العصيبة التي تمرّ بها منظومة حقوق الإنسان الدولية في عالم بدأ يشهد تنوّعاً وصعوداً في نفوذ الفاعلين الدوليين والإقليميين الجدد. وبالفعل، كشف العقد الأخير عن ظهور منافسين للولايات المتحدة وأوروبا. ولا يعني صعود دول الجنوب، بالضرورة، أن العالم يتغير إلى الأفضل، بل على العكس، فقد شهد وما زال، تحت تأثير هذه القوى الصاعدة، شيوع العنف والعصف بحقوق الإنسان في مناطق كثيرة في ظل حالة التضامن العابر للحدود بين هذه القوى، والذي انعكس على سلوكها التصويتي في مؤسّسات الأمم المتحدة، وقد عمدت هذه القوى نفسها، من حين إلى آخر، للدفع بحالة من الالتباس القيمي في المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، بفعل مقاومة عالمية القيم الإنسانية، وتكريس الخصوصية والنسبية الثقافية.
استطاعت روسيا والصين ترويج نفسيهما باعتبارهما نموذج حكم يمكن الاحتذاء به للدفع بالنمو الاقتصادي مع بقاء السلطوية، ومركزية الحكم، والتأكيد على مفهوم السيادة في العلاقات الدولية، ومقاومة عالمية القيم والحقوق. في هذا السياق، دفعت روسيا والصين وحلفاؤهما، من بينهم الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، منذ عام 2008، بما عرف بأجندة القيم التقليدية وعلاقتها بحقوق الإنسان في مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، من أجل خلخلة مفهوم عالمية حقوق الإنسان، وتبرير توظيف الخصوصيات الثقافية في انتهاك الحقوق والحريات الأساسية أو التسامح معها. وقد كان لتجمّع بريكس فائدته السياسية بالنسبة لروسيا والصين في مناسباتٍ دوليةٍ عدة، فقد تجنّب أعضاء التحالف التصويت ضدّهما في الأمم المتحدة بعد العدوان الروسي على أوكرانيا، وأوجد الأعضاء بديلاً اقتصادياً وتجارياً لروسيا بعد فرض العقوبات الغربية عليها.
تزداد قدرة دول بريكس وحلفائها على تحدّي منظومة حقوق الإنسان بفعل استمرار الازدواجية وعدم الاتساق الأخلاقي في السياسات الخارجية للدول الغربية
وقد اتخذت دول بريكس، والحلفاء لها، ومن ضمنهم الدول الإسلامية، الموقف الرافض أو الممتنع عن التصويت، عندما فتح ملف الجرائم الجسيمة التي ارتكبتها الصين ضد أقلية الأويغور في أكتوبر/ تشرين الأول 2022. ومنذ عام 2011 وبعد تدخل حلف الناتو ضد نظام معمّر القذافي في ليبيا، اتخذت دول بريكس موقفاً رافضاً أو متحفّظاً على مبدأ التدخل الإنساني ومسؤولية الحماية الدولية، حال حدوث جرائم إبادة جماعية أو جرائم ضد الإنسانية، مؤكّدة على اعتبارات السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. واتخذت الدول نفسها أيضاً موقفاً مناهضاً لعمل المحكمة الجنائية الدولية ودورها في المحاسبة عن جرائم جسيمة ارتكبت بعضها الدول الحليفة، خصوصا في القارة الأفريقية. وعلى مدار السنوات السابقة، مثلت روسيا والصين حائط دفاع صلباً عن نظام بشّار الأسد في سورية في المؤسّسات الدولية. وفي هذا السياق، عبر بيان قمّة مجموعة بريكس عن الترحيب بعودة سورية لعضوية جامعة الدول العربية، مناشداً المجتمع الدولي باحترام سيادة سورية.
بالنسبة لدارسي العلاقات الدولية، من المبكّر الحديث عن حدوث تحول نوعي في هيكل النظام العالمي صوب تعدّد الأقطاب، وأن التفوّق في القوة الاقتصادية والعسكرية والقوة الناعمة ما زال في صف الولايات المتحدة وحلفائها في الغرب. لكن بالنسبة لهم أيضاً، على مدار العقدين الأخيرين، لم تعد الولايات المتحدة قادرة بمفردها على أن تؤثر في السياسات الدولية، وسلوك المنظمات الحكومية الدولية كما كان الأمر في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. ومع ذلك، تزداد قدرة دول مجموعة بريكس وحلفائها على تحدّي منظومة حقوق الإنسان بفعل استمرار الازدواجية وعدم الاتساق الأخلاقي في السياسات الخارجية للدول الغربية. وفي الوقت نفسه، نرى اتجاهات انعزالية أو حتى عدائية ضد المؤسّسات الدولية والإقليمية داخل هذه الدول، ولا سيما الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، تاركة فراغاً تملأه قوى أخرى صاعدة دولياً عبر التأثير على أجندة هذه المؤسسات ومساراتها.
القدس العربي