على الرغم من الشعارات التي ترفعها بعض مؤسسات النظام السياسي في إيران حول استقلاليّة المسارَيْن السياسي والاقتصادي، وعدم تأثُّر الاقتصاد الإيراني بالضغوط الأمريكية، إلّا أنّ الواقع يُشيرُ إلى غير ذلك؛ حيثُ تُظهِرُ الأرقام فاعليّة “العامل الأمريكي”، وعُمق تأثيره على الاقتصاد الإيراني، بَلْ إنّ تحليلات الخبراء تُفيدُ بأنّ “العامل الأمريكي” هو الأهم في رسم الواقعين الاقتصادي والاجتماعي داخل إيران. ولعلّ أوضح تعبير عن هذا الاتجاه في التفكير، ما بات يُعرَف في داخل إيران بـ “دولرة الاقتصاد الإيراني”. ويُعدُّ الملف النووي باعتباره بوابة لإدارة الخلاف بين طهران وواشنطن، مثالاً بارزاً على مكانة “العامل الأمريكي” في صُنع الواقع الإيراني سياسيّاً واقتصاديّاً.
وفي سياق هذا الوعي بأهمية “العامل الأمريكي”، يأتي الاهتمام الإيراني الواضح بتحليل المواقف الأمريكية، كما الاهتمام بتغيُّر الإدارات والرؤى في الولايات المتحدة، وأثره المتوقع على الملف الإيراني. ورأينا نماذج من هذا الاهتمام في تبنّي صانع القرار الإيراني “سياسة الصّبر الاستراتيجي” بعد انسحاب إدارة ترمب من الاتفاق النووي في مايو 2018 بانتظار الانتخابات الأمريكية، واحتمال صعود فريق من السياسيين الأمريكيين يُظهِرُ مرونة أكثر حيال الملف النووي الإيراني. وبالفعل بدت القراءة الإيرانية صحيحة حينها.
وفي سياق هذا الوعي أيضاً، يمكن وضع الاهتمام الذي أظهرته مراكز التفكير الإيرانية بوثيقة الأمن القومي الأمريكي التي أصدرتها إدارة الرئيس جو بايدن مؤخراً. إذْ وضعت الوثيقة التعامل مع التحدّيين الصيني والروسي في أولوية المهام والأجندة السياسية الخارجية للولايات المتحدة، باعتبارهما أهم التحديات العالمية للهيمنة الأمريكية. لكنها لم تُغفل التحديات الأصغر التي تعرض هيمنة الولايات المتحدة للخطر في مناطق محدّدة، ومن ضمن هذه “التحديات الإقليمية”، اهتمت الوثيقة بالتحدي الإيراني، باعتباره مُهدّداً للهيمنة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط والخليج.
يُناقش هذا المقال للدكتور إبراهيم مُتّقي، البنود المتعلقة بإيران في وثيقة الأمن القومي الأمريكي الجديدة، ضمن رؤية تحليلية تعكس طبيعة الفهم الإيراني لرؤية الولايات المتحدة حول التحدي الإيراني، إذْ يُعتبَر كاتب المقال من الوجوه المرجعيّة لتحليل السياسات الأمريكية في الأوساط المحافظة، والرؤية التي يقدمها المقال قد تكون أساساً لرسم السياسات الإيرانية لمواجهة الرؤية الأمريكية أو التعامل معها.
نصّ المقال
تحمل وثيقة الأمن القومي للولايات المتحدة في عهد بايدن موقفاً استراتيجياً من إيران وروسيا والصين. ويُشير بايدن في سياسته المتعلقة بالأمن القومي إلى حقيقة أنّ أمريكا تواجه مؤشرات أولية على تحديات جيوسياسية لهيمنتها العالمية، ومن أجل ذلك عليها تعزيز وتنمية مسار تكوين قوتها في مستقبل النظام العالمي على قاعدة التحالفات الإقليمية. وتُعتَبر إيران، (وكوريا الشمالية) أبرز التحدّيات على صعيد القضايا الإقليمية. فيما تُعدُّ روسيا التحدّي الأبرز في الفضاء الأوراسي المليء بالتحديات. وتحتفظ الصين بمكانتها كأكبر التحديات في النطاق العالمي الأوسع. وتُشكّل هذه المجموعة، التحديات الرئيسة للأمن القومي الأمريكي في وثيقة الأمن الأمريكية لعام 2022.
وتعتبر “إيران الإقليمية” أحد التحديات الرئيسة للولايات المتحدة في عام 2022، ولهذا السبب ستكون جزءاً من موضوع بايدن الأمني في السياسة الاستراتيجية الجديدة. وفي وثيقة الأمن القومي الأمريكية، يعتبر تحالف إيران الأمني والاستراتيجي مع روسيا والصين تهديداً إقليمياً يهدد الولايات المتحدة ومصالحها في الخليج العربي. ويشير بايدن إلى حقيقة أن الولايات المتحدة تواجه مجموعة من التهديدات الإقليمية والدولية في القرن الحادي والعشرين. ولن يكون أمامها خيار سوى استخدام آليات العمل الأمني بمنهجيات استراتيجية.
1. تحديات “إيران الإقليمية” لـ “أمريكا 2022”
تُشير وثيقة الأمن القومي الأمريكي في عهد بايدن إلى أنّ الجمهورية الإسلامية ستكون التهديد الإقليمي الرئيس للولايات المتحدة في المستقبل. بينما سيكون مردّ تهديدات واشنطن الجيوسياسية إلى الصين وروسيا؛ إذ من شأن هذين التهديدين أن يُغيرا التوازن على المستوى العالمي.
إقليمياً، ومن وجهة النظر الأمنية الأمريكية، لا يمكن لدول المنطقة أن ترتقي وحدها إلى مستوى تُشكِّل معه تهديداً شديداً وخطيراً لمصالح واشنطن، وقوتها وأمنها القومي. لكن في الوقت نفسه، تُشير رؤية بايدن الأمنية لإيران، إلى أنّ طهران تزيد من قوتها الذاتية. ويمكن أن يخلق ذلك الأرضية اللازمة لخلق تحديات جديدة في البيئة المحيطة بها، لتؤثر بالتالي على مصالح حيوية للولايات المتحدة في ذلك المحيط.
وبهذا الصدد يشير الأمريكيون إلى أنّ إيران تُطوِّرُ قوتها الميدانية للتأثير على الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط والخليج العربي. ومن وجهة نظر الأمريكان، فإن ذلك يُمكِّن إيران من أنْ تخلق توازناً جديداً في البيئة الأمنية. وإذا حقّقت إيران مستوىً جديداً من التعاون والتحالف مع القوى العالمية، وتحديداً مع الصين وروسيا، فستتحول حينها إلى قوة خطرة على مصالح الولايات المتحدة، وأمنها الإقليمي؛ إذ ستوطد هيمنتها على المحيط الإقليمي، في حين تتطلب الهيمنة الأمريكية ألا يحقق أي فاعل إقليمي جديد السيادة في الخليج (العربي).
وتقوم المحاور الرئيسة لسياسة المواجهة الأمريكية مع إيران على معادلة القوة والتغيير في تشكيل التوازن الإقليمي. وفي وثيقة الأمن القومي لبايدن، ورد أن إيران وصلت مستوىً جديد من القوة. وبناءً على ذلك، يمكن أن تخلق سياقاً للحدّ من القوة الإقليمية لأمريكا في الخليج (العربي).
ومن منظور الأمن الأمريكي، يلعب الاستقرار الاقتصادي دوراً مهمّاً وحاسماً في نقل الطاقة من الخليج العربي، ويمكن لأيّ توتر إقليمي، أن يهدد استقرار الأسعار، ونقل الطاقة الإقليمية إلى الأسواق العالمية. ومن هذا المنطلق، تعارض واشنطن بوادر الوضع المزعزع للاستقرار. وتستخدم آليات بناء تحالف ضد إيران للتعامل مع هذا البلد.
النقطة الأخرى هي أن قدرة إيران التكتيكية على التأثير على الأحداث الإقليمية، قد تحسّنت تدريجيّاً. ونتيجة لذلك، واجه الاستقرار الإقليمي تحديات تكتيكية.
وفي هذا الإطار، تذهب رؤية بايدن إلى الاعتقاد بأنّ مؤشرات القوة الإيرانية في مجال الصواريخ والطائرات المسيرة، قد ارتفعت بشكل ملحوظ. وهذا يمكن أن يخلق أرضية لحروب إقليمية مزعزعة للاستقرار. كما ورد في وثيقة بايدن 2021، أنّ إيران تمتلك الدافع الضروري، لاتخاذ إجراءات عملياتية للإضرار بمصالح الولايات المتحدة، والمسؤولين الأمريكيين السابقين. ولا تنوي تغيير مثل هذه السياسة.
2. آليات أمريكا للتعامل مع “إيران الإقليمية”
للتعامل مع إيران، يستخدم بايدن آليات بناء التحالفات، ونموذج العمل متعدّد الأطراف؛ حيث ستكون آلية إنشاء التحالفات الإقليمية المحور الرئيس لرؤية بايدن للأمن الإقليمي، وسياساته الاستراتيجية الهادفة إلى الحدّ من قوة إيران الإقليمية في الخليج (العربي). وهذا النموذج يمكن أنْ يوفر الأرضيّة اللازمة لدول المنطقة من أجل التعاون مع أمريكا ضدّ إيران. لكنّ الآلية الثانية للولايات المتحدة للتعامل مع “إيران الإقليمية”، تتمثل في رفع قدرة واشنطن على التحرك الميداني والعملياتي. ويعني التأكيد على هذه الآلية أنّ الرؤية التعددية الأمريكية، والرغبة في التأثير من خلال التحالفات الإقليمية، لا تعني بالضرورة تجاهل دور الوجود الأمريكي المباشر في الفضاءات الإقليمية، وتكريس انتشار القوات العسكرية الأمريكية في محيط الخليج (العربي)، وأطرافه.
وعلى الرغم من أنّ الولايات المتحدة أكدت في أكثر من موقف أنّ التصدّي للتهديدات الإيرانية سيكون من خلال عمل جماعيٍّ، وشاملٍ، عبر إنشاء تحالفات فعّالة، إلّا أنّنا يمكن أن نعتبر الوجود الميداني والنشاط التكتيكي للقوات العسكرية الأمريكية، أحد أهم المؤشرات الرئيسة للقوة الأمريكية. وبناء على ذلك، فإن من الحكمة أن يكون هذا الوجود الميداني المباشر المحور الرئيس لعمل أمريكا التكتيكي، ضدّ إيران في المستقبل المتوسط.
أما الآلية الثالثة التي وردت في سياق الرؤية الأمريكية للأمن في الوثيقة بخصوص إيران، والتي من المفترض أن تستخدمها واشنطن للتصدي للتحدي الإيراني المتنامي، فستكون استخدام الآليات الدبلوماسية للحدّ من قوة طهران الإقليمية. وعلى الرغم من وجود مؤشرات محدودة في وثيقة الأمن القومي تتعلق بقدرات إيران النووية، إلا أنّ الحقيقة، هي أنّ الدبلوماسية لا تزال تعتبر إحدى الأفكار الأمريكية لكبح نفوذ إيران. وتعني هذه القضية أنّ الأمن القومي للولايات المتحدة يتطلب أن تواصل الدوائر السياسية في واشنطن الانخراط في آليات دبلوماسية لاحتواء القوة النووية الإيرانية، والحدّ منها من أجل تحقيق أهدافها الجيوسياسية.
أما الآلية الرابعة من ضمن آليات الولايات المتحدة للسيطرة على القوة الإقليمية والتكتيكية لإيران، فستكون استخدام آليات الحلّ المتكامل الاستراتيجي. ويعني الحلّ المتكامل الاستراتيجي وفق السياسة الأمنية لبايدن، أنّ أمريكا تستخدم السياسات الاقتصادية والأمنية والدبلوماسية والتكتيكية بشكل مترابط للحدّ من قوة إيران. وفي سياق هذه الآلية، يأتي تأكيد بايدن وإدارته على أنّ الدبلوماسية ما زالت تسيطر على مناهج التعامل مع القوة النووية الإيرانية. ولكن إذا رفعت إيران من قدراتها النووية لأكثر من حدود معينة، فإن الولايات المتحدة سوف تستخدم آليات أخرى. وهذا المفهوم يعني بالدرجة الأولى عودة الملف الإيراني في السياسة الأمنية الأمريكية إلى المربع الأمني، وخروجه من مربع المعالجة الدبلوماسية.
ونتيجة لهذا التحول، فإن السياسة الأمنية الأمريكية حيال إيران ستركز على الاهتمام بإشارات مثل التهديدات التكتيكية، والرّدع السياسي، والإجراءات العملياتية المكثفة، للحد من قوة إيران في حل قضاياها الأمنية الداخلية والإقليمية والتكتيكية. وتُعبِّرُ وثيقة الأمن القومي لبايدن عن حقيقة أن أولويّة الولايات المتحدة سوف ستكون استخدام الآليات التكتيكية للسيطرة على القوة، والقدرة على العمل الإقليمي، والسلطة الهيكلية. وفي مثل هذا الوضع، ستحاول الولايات المتحدة، خلافاً لما حدث خلال العامين الماضيين، أن تخرج من مربع التعامل الدبلوماسي، وأن تقوم بتفعيل سياستها الأمنية تجاه طهران، وتوفير آليات ردع ضد قدرة إيران النووية، ودورها الإقليمي، بالتوازي مع استخدام أدوات مثل العقوبات الاقتصادية.