الاحتجاجات الجديدة في سوريا تسلط الضوء على نقاط الضعف في قاعدة الأقليات التابعة للأسد

الاحتجاجات الجديدة في سوريا تسلط الضوء على نقاط الضعف في قاعدة الأقليات التابعة للأسد

قد تساعد الاضطرابات المتزايدة في السويداء وغيرها من المناطق الموالية تقليدياً للنظام، في إرغام الأسد على تلبية المطالب المحلية والأمريكية ومطالب الحلفاء القائمة منذ فترة طويلة.

منذ 16 آب/أغسطس، شهدت محافظة السويداء التي تقع في جنوب سوريا والتي يشكل الدروز 90 في المائة من سكانها، موجة احتجاجاتأشعلت فتيلها القضايا الاقتصادية والركود السياسي، وندّد فيها السكان المحليون بشكل متزايد بنظام الأسد ودعوا إلى الإطاحة به. وتضمنالكثير من هذه الدعوات شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، وهو شعار احتجاجي رئيسي تردد في جميع أنحاء الشرق الأوسط خلال حركة “الربيع العربي” في العقد الماضي. وفي حين أن نسبة الدروز لا تتعدى 3 في المائة من إجمالي عدد السكان في سوريا، إلّا أن هذه الطائفة لعبت على مرّ التاريخ أدواراً مهمة داخل النظام ومؤسسته الأمنية.

وفي مناطق أخرى، اندلعت احتجاجات أصغر حجماً تضامناً مع المظاهرات الأكبر في السويداء ودرعا، وامتدت إلى حلب ودير الزوروحمص وجرمانا بالقرب من دمشق، التي تضم عدداً كبيراً من السكان الدروز. وفي وقت سابق من هذا الصيف شهدت جرمانا احتجاجات ركزت على قضايا العملة والاقتصاد، إلا أن هذه الجولة الأخيرة كانت أكثر حدة في انتقاد النظام والدعوة إلى إنهاء عهد الأسد. وتعرّض النظام أيضاً للتنديد العلني من قبل حركات الاحتجاج الجديدة التي اندلعت في صفوف ناخبيه العلويين الأساسيين في معاقلهم على طول الساحل.

ونظراً لمدى أهمية السويداء والدروز لإحكام قبضة بشار الأسد على السلطة، فإن الاحتجاجات تسلط الضوء على الضعف الاقتصادي الشديد لنظامه أمام العقوبات الدولية وغيرها من الأدوات. ويمنح ذلك الولايات المتحدة وشركائها نفوذاً متزايداً بينما لا تزال دمشق تتلكأ في التفاوض على تسوية سياسية للحرب.

احتجاجات السويداء

في جنوب سوريا وحده، تشير تقديرات “منظمة مراقبة حقوق الإنسان السورية” (“إيتانا”) إلى أن أكثر من 10 آلاف شخص شاركوا في المظاهرات في 200 موقع منذ 20 آب/أغسطس. وأفاد الموقع الإخباري المحلي للمعارضة، “السويداء 24″، أن 2000 شخص شاركوا في الاحتجاجات في جميع أنحاء المحافظة في 1 أيلول/سبتمبر، ووصف هذه الأرقام اليومية بأنها “غير مسبوقة”. وقد رفض السكان المحليون حتى الآن دعوات المغتربين لتشكيل أحزاب جديدة وعقد مؤتمر سياسي، كما رفضوا دعوات الانفصال، معتبرين السويداء موطنهم الشرعي داخل سوريا.

وفي 15 آب/أغسطس، أصدر الأسد قراراً بمضاعفة أجور ومعاشات التقاعد في القطاع العام مع خفض دعم الغاز أيضاً. وارتفعت أسعار الديزل بنسبة 180 في المائة فور صدور القرار، ثم قفزت بنسبة 45 في المائة بعد أسبوعين. وحتى مع زيادة الأجور، تظل تكاليف الغذاء باهظة بالنسبة إلى الأسرة السورية المتوسطة. ومن المتوقع أن يصل معدل التضخم إلى 60 في المائة هذا العام، مما سيؤدي إلى تراجع القوة الشرائية لهذه الأسر بصورة أكثر. وفي الوقت نفسه، سجلت الليرة السورية أدنى مستوى لها في التاريخ عند 15500 ليرة مقابل الدولار، قبل أن تنتعش قيمتها قليلاً لتبلغ 14100 ليرة سورية، أي انخفاض بنسبة 80 في المائة في القيمة منذ شهر مايو/أيار. وأثبت الوضع للسوريين أن المراسيم الاقتصادية الصادرة عن القصر الرئاسي لن تحسّن حياتهم، ما دفع بالكثيرين إلى الاحتجاج في الشوارع.

وصادف الرابع من أيلول/سبتمبر مرور ثماني سنوات على مقتل الشيخ الدرزي البارز وحيد البلعوس، وهو الحادث الذي ألقى العديد من السكان المحليين باللوم فيه على قوات الأسد. وخلال المظاهرات التي جرت في هذه الذكرى، مزّق المتظاهرون ملصقاً للأسد وألحقوا أضراراً بتمثال والده الراحل. وبرزت أعمال مماثلة مناهضة للنظام خلال احتجاجات أخرى أيضاً. فقد أزيلت صور الأسد في مختلف أنحاء السويداء، بما فيها المجتمعات الريفية مثل الكفر. وفي 29 آب/أغسطس، أغلقالمحتجون في مدينة السويداء مكتب أعضاء مجلس الشعب في المحافظة، بحجة أن “لا فائدة” من ممثليهم. وبصورة مماثلة، استخدم السكان المحليون معدات اللحام لإغلاق البوابة الرئيسية لقيادة فرع حزب “البعث” في المدينة قبل ذلك بيومين، كما تم إغلاق فروع أخرى للحزب في جميع أنحاء المحافظة.

ومن السمات الأخرى للاحتجاجات الجنوبية الرسائل التي تستحضر القومية الدرزية وترفض التدخل الخارجي في الشؤون المحلية – سواء من قبل النظام أو “حزب الله” اللبناني أو روسيا أو جهات فاعلة أخرى. على سبيل المثال، رفع السكان المحليون في نمرة ملصقات لسلطان الأطرش، الزعيم الدرزي التاريخي الذي قاد الحملة ضد فرنسا في عشرينيات القرن الماضي. واستحضرت المستشارة الإعلامية للأسد، لونا الشبل – وهي درزية من السويداء – إرث الأطرش بطريقة مختلفة، معتبرةً على ما يبدو أن الزعيم الراحل ما كان ليوافق على المظاهرات الحالية. وفي الاحتجاجات، ظهرت أيضاً صور يوسف العظمة، وهو شخصية تاريخية أخرى شاركت في الحملة ضد الفرنسيين.

واتخذت الاحتجاجات ضد التدخل الخارجي أشكالاً متعددة. فبعض الملصقات المحلية اتهمت “قوات سوريا الديمقراطية” التي يقودها الأكراد بسرقة السكان المحليين. وسخر ملصق آخر يحمل توقيع “أحفاد سلطان الأطرش” من الأمين العام لـ”حزب الله”، حسن نصر الله، حيث جاء فيه: “مشروعكم القذر وإرهابك لن يمر..”. ونددت لافتة احتجاجية في السويداء بالعدوان الروسي، قائلةً: “الشعب السوري والشعب الأوكراني يعانيان من القتلة نفسهم”. وكُتب على لافتة أخرى: “مطالبنا خروج النظام وإيران وأمريكا”. وعلى نحو مماثل، أفادت بعض التقارير أن هتاف “ارحل يا بشار مع إيران وروسيا” أصبح شائعاً خلال المظاهرات، حيث وصف بعض المتظاهرين الأسد بأنه “صانع الكبتاغون”، في إشارة إلى دور النظام في التهريب المتفشي للمخدرات.

ويتم تسليط الضوء على موسكو على خلفية مساعدتها في إعادة الجنوب إلى سيطرة الأسد. وفي الواقع، لا تزال وحدات من الشرطة العسكريةالروسية و“مجموعة فاغنر” منتشرة في المنطقة. أما إيران، فتدير من جهتها ما لا يقل عن خمسة عشر مركزاً عسكرياً في السويداء، وقد استغلت الوضع الاقتصادي المتردي في الجنوب لتجنيد أفراد لتهريب المخدرات.

وفي غضون ذلك، تنقسم مشْيَخة العقل، الهيئة الروحية العليا للدروز في السويداء، بشأن الاحتجاجات. فقد أعرب اثنان من كبار رجال الدين الثلاثة في الهيئة، وهما حكمت الهجري وحمود الحناوي، عن دعمهما للمظاهرات ضد النظام. ولكن رجل الدين الثالث، وهو يوسف جربوع، حافظ على موقفه المؤيد للأسد، مدعياً أن “أهالي السويداء لن يخرجوا عن قرار الدولة السورية”. وبعيداً عن ترديد الشعارات الاحتجاجية، كان جربوع أحد جهات الاتصال الرئيسية للنظام في السويداء. ففي 19 آب/أغسطس، استضاف محادثات بين محافظ ريف دمشق، صفوان سليمان أبو سعدة، وهو درزي من السويداء، وعدداً من الوجهاء المحليين في محاولة لتخفيف حدة التوترات المستمرة.

ومن جهته، اجتمع الشيخ الهجري بمحافظ السويداء، بسام بارسيك، في 23 آب/أغسطس الماضي للتفاوض على إنهاء المأزق. وفي اليوم التالي، قلل بيان صادر عن مكتب بارسيك من أهمية احتمال قيام أجهزة أمن النظام باستخدام العنف ضد المتظاهرين، واصفاً هذه الشائعات بأنها “عارية تماماً عن الصحة”. ومع ذلك، على الرغم من كونه محافظ السويداء، فإن بارسيك هو سني شركسي من القنيطرة، لذلك من المرجح أن ينظر النظام إلى المحافظ الدرزي أبو سعدة على أنه يتمتع بمصداقية أكبر لدى الوجهاء الدروز على الأرض.

رد النظام

بغض النظر عن الدبلوماسية المحلية، فإن معظم المسؤولين في دمشق التزموا الصمت نسبياً حتى الآن تجاه الاحتجاجات. وفي 29 آب/أغسطس، استضاف رئيس الوزراء، حسين عرنوس، اجتماعاً لمجلس الوزراء السوري ركز على اهتمام الحكومة في برفع “مستويات المعيشة لموظفي الدولة”.

لكن نهج الاستراتيجية الإعلامية الذي يتّبعه النظام هو (حرفياً) قصة مختلفة. ففي 30 آب/أغسطس، أفادت صحيفة “الوطن” الموالية للحكومة أن مستويات الطحين والوقود يُفترض أن تكون “طبيعية” في السويداء. وعلى صعيد آخر، زعمت الصحيفة أن “أقل من 150 شخصاً” شاركوا في احتجاج كبير في 29 آب/أغسطس، ثم ضخّمت تعليق الشيخ جربوع حول “عدم الانحراف” عن قرارات الدولة. وبالمثل، استخدمت لونا الشبل صفحتها على فيسبوك للتقليل من حجم المظاهرات ووصفت المحتجينبـ”المرتزقة”.

وعلى صعيد الرد الأمني، لم يطلق النظام النار على متظاهري السويداء حتى الآن، لكن التوترات آخذة في التصاعد. ففي 28 آب/أغسطس، أطلقت بعض عناصر (قوى الأمن) طلقات تحذيرية عندما حاول السكان المحليون إزالة صورة للأسد في شهبا. ونظراً لاحتدام الوضع، أفادت بعض التقارير أن القيادة العسكرية قررت رفض أي طلبات إجازة مقدمة من الوحدات في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، تشير مصادر المعارضة المحلية إلى أن هناك احتمال بأنه قد تم نقل أفراد ميليشيا مرتبطين بـ”الحرس الثوري الإسلامي الإيراني” من دير الزور إلى مواقع في جنوب البلاد. ولم يتضح بعد ما إن كان النظام سيحاول انتظار انتهاء هذه الاحتجاجات أو البدء بإطلاق النار على المتظاهرين على أمل نزع فتيل أكبر حركة شعبية ضد حكمه في السنوات الأخيرة. أما الخيار المحتمل الآخر فهو اللجوء إلى الاغتيالات التي تستهدف المسؤولين البارزين الذين ينتقدون النظام.

وتعود الاحتجاجات الكبرى الأخيرة التي شهدتها السويداء إلى كانون الأول/ديسمبر 2022، عندما اقتحم مئات السكان المحليين مبنى عاصمة المحافظة، وأشعلوا النيران في داخله، وأتلفوا صور الأسد. وكما هو الحال في الجولة الحالية، اندلعت تلك الاحتجاجات بسبب أزمة الوقود والتدهور الاقتصادي العام، وقد تفاقم كلا العاملين منذ ذلك الحين. وتمكنت دمشق من إخماد انتفاضة عام 2022 من خلال اتباعها نهج الترهيب والترغيب. وبعد أن أمر النظام الجنود بإطلاق النار على المتظاهرين (مما أدى إلى مقتل شخص واحد)، أفادت بعض التقارير أن النظام كلف رئيس الوزراء بطمأنة السلطات المحلية بأنه سيتم إرسال المزيد من الديزل والكهرباء إلى السويداء للتخفيف من حدة النقص. وحتى لو كانت مثل هذه الخطط قائمة فعلياً، فمن غير المرجح أن يتم تنفيذها على الإطلاق. وبينما أيد العديد من سكان السويداء مطالب حركة كانون الأول/ديسمبر بإصلاح هذه المشاكل، فإن عدد قليل فقط مستعد لاتخاذ إجراءات من شأنها المخاطرة بالمزيد من القمع الأمني.

الرد الأمريكي

وحتى الآن، لم تُدلِ إدارة بايدن بتصريحات تُذكر بشأن هذه التطورات. فقد ذكر إيثان غولدريتش، كبير المسؤولين عن الملف السوري في وزارة الخارجية الأمريكية، المظاهرات خلال اجتماع مع ناشطي المعارضة السورية في تركيا في 4 أيلول/سبتمبر. وفي الكونغرس الأمريكي، صرّحالنائب الجمهوري عن ولاية ساوث كارولينا، جو ويلسون، الذي يُعد من أبرز مراقبي الملف السوري، أن الاحتجاجات “ألهمت العالم وأظهرت أن سوريا ليس لها مستقبل ولن تستقر أبداً في عهد الأسد”. ويشارك ويلسون أيضاً في رعاية “قانون منع التطبيع مع نظام الأسد” الجديد.

ومع ذلك، قد يكون من غير الحكمة أن يصدر المسؤولون الأمريكيون بيانات عامة لدعم دعوات المتظاهرين إلى تغيير النظام. كما ورد آنفاً، تضمنت المواضيع الرئيسية للمظاهرات معارضة التدخل الخارجي، بما في ذلك تدخل الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن الاحتجاجات كبيرة ولا ينبغي تجاهل معاناة السكان المحليين، فمن غير المرجح أن يسقط النظام بسبب المشاكل الاقتصادية وحدها.

ومع ذلك، فإن الوضع يمنح واشنطن وشركاؤها في المنطقة نافذة أخرى لاستخدام النفوذ الاقتصادي والعقوبات للحصول على تنازلات من الأسد على طاولة المفاوضات. وعند الاستجابة للزلزال الكارثي الذي ضرب سوريا وتركيا في شباط/فبراير الماضي، سارعت الحكومة الأمريكية إلى إصدار “الرخصة العامة 23” الخاصة بسوريا، التي وفرت نافذة مدتها 180 يوماً من الإعفاءات من العقوبات للمعاملات المتعلقة بجهود الإغاثة. ولسوء الحظ، تمت صياغة الرخصة بصورة واسعة للغاية، إذ لم تقدم تعريفاً واضحاً لـ”الإغاثة من الزلزال”، وسمحت بإجراء معاملات مباشرة مع حكومة الأسد، ودفعت بالكثير من الدول الإقليمية إلى الاستنتاج بأن لديها الضوء الأخضر للتطبيع مع النظام.

ولحسن الحظ، أصر الزعماء العرب منذ ذلك الحين على أن تقدم دمشق تنازلات معينة مقابل هذا التطبيع، مثل اتخاذ إجراءات صارمة ضدتهريب الكبتاغون. وعلى الرغم من أن الأسد تظاهر بتأييد هذه المطالب، إلّا أنه لم يبدِ أي استعداد فعلي لتنفيذ مثل هذه الإصلاحات أو إشراك المعارضة السياسية السورية، وبذلك أثار حفيظة بعض المسؤولين في المنطقة وأبطأ عملية التطبيع. كما أدى ميله إلى رفض التنازلات بشكل صارم إلى زيادة دعم الحزبين الأمريكيين لتجديد عقوبات “قانون قيصر”، الأمر الذي من شأنه أن يحد من حجم استثمارات دول الخليج الغنية، في الاقتصاد السوري.

ومع تزايد الأفعال المعارضة في مناطق الأقليات ذات الأهمية التاريخية للنظام في السويداء وفي صفوف العلويين على الساحل، قد يكون الأسد أكثر استعداداً لتقديم تنازلات كبيرة. ويتمثل أحد الاحتمالات بتعاون الدول الإقليمية مع واشنطن لتحديد (صياغة) إعفاءات من العقوبات ضيقة النطاق وخاصة بالمشاريع، للمبادرات التي تساعد على التخفيف من معاناة الشعب. ولكن لا يمكن الموافقة على ذلك ما لم ينفذ الأسد جانبه من الصفقة – وعلى وجه التحديد، إطلاق سراح السجناء، وإجراء مفاوضات بموجب “قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254” لإنهاء الحرب، والانخراط مع المعارضة السورية بشأن تعديلات الدستور، بين أمور أخرى. وعلى الرغم من أنه من غير المرجح أن يسقط النظام في أي وقت قريب، إلا أن الاحتجاجات المتزايدة في المناطق الموالية تقليدياً للنظام قد ترغم الأسد على التدخل في بعض الأمور.

إريك يافورسكي

معهد واشنطن