شهدت العلاقات الخليجية ـ الأمريكية حالات مد وجزر واهتمام ولامبالاة ـ قادت الولايات المتحدة منذ ثلاثة عقود في عهد الرئيس بوش الأب حرب عاصفة الصحراء وتحرير دولة الكويت. وانتقل دور واشنطن من الحماية عن بعد إلى التمركز ببناء قواعد عسكرية دائمة وتوقيع اتفاقيات أمنية غير ملزمة دستورياً وقانونياً مع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية بدءاً بالكويت بعد تحريرها من الاحتلال العراقي.
وأدمجت منطقة الخليج والشرق الأوسط إلى القيادة الوسطى(USCENTOCM) ـ ومقرها في قاعدة العديد في دولة قطر-والقيادة الرئيسية في قاعدة ماكديل في ولاية فلوريدا، المسؤولة عن قيادة حروب أمريكا الاستباقية في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن والصومال وضد تنظيمات القاعدة وطالبان وتنظيم الدولة داعش وفروعها تحت شعار محاربة الإرهاب.
صارت الولايات المتحدة اللاعب الرئيسي بتوفير الأمن وترسيخ معادلة الأمن مقابل النفط والطاقة التي ارتكزت عليها العلاقة الخليجية بدءاً بالسعودية بين الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود في لقائه التاريخي مع الرئيس الأمريكي روزفلت عام 1945.
في تسعينيات القرن العشرين وضعت وزارة الدفاع ومجلس الأمن القومي الأمريكي سيناريوهات خوض حربين في آن معاً والانتصار بهما ـ كحرب البوسنة والهرسك، وفي الشرق الأوسط-أو شرق آسيا.
شهدت العلاقات الخليجية-الأمريكية تذبذباً كبيراً بشن الرئيس بوش الابن حروبا استباقية غير شرعية تحت مظلة «الحرب العالمية على الإرهاب» (GWOT)بعد اعتداءات تنظيم القاعدة في 11 سبتمبر 2001-التي حلت ذكراها الأسبوع الماضي-ما غير بوصل وتوجه أمريكا لتخوض حرباً عالمية على الإرهاب-التي تحولت لحرب في نظر الكثيرين على الإسلام خاصة مع تهديد الرئيس بوش الابن بشن «حملة صليبية» على تنظيم القاعدة بعد تأكيد أسامة بن لادن مسؤولية التنظيم عن اعتداءات 11 سبتمبر! ورفض حركة طالبان في أفغانستان ـ والتي كان القرار الكارثي لبوش شن حرب مفتوحة بلا أفق تحولت لأطول حرب بتاريخ الحروب الأمريكية دامت عشرين عاماً بنتائج كارثية على مكانة وسمعة أمريكا وانتهت بهزيمة وانسحاب عسكري فوضوي ومرتبك ـ 2021. ولولا مساهمات الحلفاء الخليجيين بقيادة دولة قطر بإجلاء 70 ألف مواطن أمريكي وأفغاني وأوروبي وغربيين لكانت مكانة وسمعة أمريكا والرئيس بايدن عانت الكثير! لذلك سارع الرئيس بايدن بترقية العلاقة مع قطر لعلاقة لأعلى مستوى «حليف رئيسي من خارج حلف الناتو» في يناير 2022. تتمتع 19 دولة بتلك الصفة المميزة بينها الكويت والبحرين بالإضافة لقطر ومصر والأردن وتونس والمغرب وإسرائيل!
تحتم المعضلة الأمنية الخليجية، إصلاح أمريكا لبوصلتها التائهة، لأنه لا بديل واقعي وعملي عن الحماية الأمريكية-وذلك لمصلحة الطرفين وللاقتصاد والاستقرار العالمي
تصاعدت فجوة تراجع ثقة الحلفاء الخليجيين بالحليف الأمريكي بعد حروب بوش الابن الكارثية وإسقاط أنظمة والإخلال بموازين القوى الإقليمية وإضعاف النظام العربي بعد إسقاط نظام طالبان في الشرق وصدام حسين في الغرب لمصلحة إيران التي استغلت الفراغ الاستراتيجي لملئه. وكذلك إسرائيل التي استمرت بالتصويت لحكومات يمينية متطرفة وتسعر الحرب على غزة وتنكل بالفلسطينيين وتهود القدس وتعتدي على المسجد الأقصى وتتوسع بسرطان الاستيطان ما دمر رؤية الإدارات الأمريكية بحل الدولتين-الذي بات أثر بعد عين ـ ثم تجرأ ترامب ليس باستفزاز الفلسطينيين والعرب بمخالفة القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن الدولي وقرارات الحل النهائي ـ فاعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل ـ بعدما صوت الكنسيت الإسرائيلي على يهودية إسرائيل ـ وخالف الرؤساء الأمريكيين منذ كلينتون عام 1995 ـ بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس في الذكرى السبعين للنكبة! وذهب بعيداً بالاعتراف بالجولان السوري المحتل جزءا من كيان الاحتلال الإسرائيلي ـ وكافأه نتنياهو بإطلاق اسم مستوطنة غير شرعية في الجولان باسم ترامب في تملق وقح متبادل!
قاد ترامب قطار التطبيع وإقامة علاقات دبلوماسية بين الإمارات والبحرين في قلب الخليج وتبادل السفراء والزيارات الرسمية والسياحة والاستثمار مع إسرائيل برغم جرائمها واعتداءاتها الوحشية وتطرفها في التنكيل بالفلسطينيين وآخرها افتتاح السفارة الإسرائيلية في المنامة. بينما يعد لصفقة كبرى للتطبيع بين السعودية وإسرائيل مقابل تنازلات إسرائيلية أمريكية كبيرة!
واصل قطار التطبيع الإبراهيمي سيره بانضمام السودان والمغرب للمطبعين العرب ـ وفاخر ترامب أنه في عهده وسع وزاد عدد الدول العربية المطبعة مع إسرائيل بلا مقابل ـ من دولتين مصر(1979) والأردن(2004) إلى ست دول! وأتى بايدن ليكمل المسيرة ويتعهد باستمرار توسعة الاستيطان ودمج إسرائيل في المنطقة برغم سياستها الرعناء بإجهاض رؤيته بحل الدولتين وتقنين السلطة القضائية ما يخالف مبادئ الديمقراطية والشفافية والمساءلة التي تتغنى بها أمريكا وتقدم إسرائيل بأنها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة في صحراء العرب القاحلة.
المعضلة الأمنية لإسرائيل خضوعها لعقلية القلعة المنبوذة من محيطها. تثبت استطلاعات الرأي حتى في الدول التي طبعت مع إسرائيل أنها لا تزال كيانا دخيلا وغريبا والرأي العام العربي مناهض للتطبيع معها ودمجها. وتعيش في صراع وهناك من يحذر حتى من حرب أهلية بين الجناح المتطرف اليميني والجناح الليبرالي اليساري وخاصة حول التعديلات القضائية وتحجيم نتنياهو وشركائه في اليمين المتطرف تحجيم السلطة القضائية.
سبق ذلك إعلان الرئيس أوباما قبل عقد من الزمن لاستدارة نحو آسيا لاحتواء الصين ولأن الثقل في المستقبل انتقل من ضفتي الأطلسي إلى المحيط الهندي والهادئ.. وتحول مركز الثقل حسب الاستراتيجية الأمريكية لمنطقة المحيطين الهندي والهاد ئ.
تشهد العلاقات الخليجية ـ الأمريكية اليوم تحدياً تقوده السعودية بالتعامل بندية بمقاومة الضغوط الأمريكية ـ حول انتاج النفط والعلاقة مع روسيا في مجموعة أوبك بلس ـ وإنجاح وساطة الصين في مصالحة السعودية مع إيران وإعادة العلاقات الدبلوماسية مع إيران بعد سنوات من القطيعة والحرب الباردة الإقليمية ـ وانضمام السعودية مع الإمارات إلى مجموعة بريكس التي تشكل رأس الحربة في توفير نظام بديل للاقتصاديات الناشئة وفي مقاومة ومواجهة النظام الدولي الغربي بقيادة الولايات المتحدة!
تحتم المعضلة الأمنية الخليجية، إصلاح أمريكا لبوصلتها التائهة، لأنه لا بديل واقعي وعملي عن الحماية الأمريكية-وذلك لمصلحة الطرفين وللاقتصاد والاستقرار العالمي!